4 ـ دعوى أنّ المراد بالمسح هو المسح على الخفّين

4 ـ دعوى أنّ المراد بالمسح هو المسح على الخفّين:
ومن القوم من لم يمكنه ردّ ظهور القراءتين أو قراءة الجرّ في المسح، ولا الجزم بشيء من التأويلات والتوجيهات، ولا الموافقة على حمل المسح على الغسل… لكنّه حمل الآية على المسح على الخفّين! لأن السنّة دالّة على الغسل.
قال ابن كثير: « ومنهم من قال: هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفّان. قاله أبو عبد الله الشافعي »(1).
وقال ابن العربي: « السنّة قاضية بأنّ النصب يوجب العطف على الوجه واليدين، ودخل بينهما مسح الرأس، وإن لم تكن وظيفته كوظيفتهما، لأنه مفعول قبل الرجلين لا بعدهما، فذكر لبيان الترتيب لا ليشتركا في صفة التطهير، وجاء الخفض ليبيّن أنّ الرجلين يمسحان حال الاختيار على حائل وهما الخفّان، بخلاف سائر الأعضاء، فعطف بالنصب مغسولا على مغسول، وعطف بالخفض ممسوحاً على ممسوح، وصح المعنى فيه »(2).
وقد استحسن ابن حجر هذا الجمع حيث قال: « وحجّة الجمهور الأحاديث الصحيحة المذكورة وغيرها من فعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإنّه بيان للمراد.
وأجابوا عن الآية بأجوبة، منها: أنه قرئ (وَأَرْجُلَكُمْ)بالنصب عطفاً على (وَأَيْدِيَكُمْ) وقيل: معطوف على محلّ (بِرُؤُوسِكُمْ)كقوله: (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) بالنصب. وقيل: المسح في الآية محمول لمشروعية المسح على الخفين، فحملوا قراءة الجرّ على مسح الخفين وقراءة النصب على غسل الرجلين، وقرّر ذلك أبو بكر ابن العربي تقريراً حسناً، فقال ما ملخصه:
بين القراءتين تعارض ظاهر، والحكم فيما ظاهره التعارض أنه إن أمكن العمل بهما وجب، وإلاّ عمل بالقدر الممكن، ولا يتأتّى الجمع بين الغسل والمسح في عضو واحد في حالة واحدة، لأنه يؤدّي إلى تكرار المسح، لأنّ الغسل يتضمّن المسح، والأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فبقي أن يعمل بهما في حالين توفيقاً بين القراءتين وعملا بالقدر الممكن »(3).
وقد جنح إلى هذا الوجه جلال الدين السيوطي كما ستعرف، وغير واحد من المتأخّرين كالمراغي(4).
أقول:
لكن هذا الحمل يتوقف على ثلاثة أُمور:
أحدها: أن تكون قراءة النصب ظاهرة في الغسل بالعطف على الوجه واليدين. وقد عرفت أنه غير جائز في مثل هذا المقام، أو بتقدير « اغسلوا »، ومن الواضح بطلانه لعدم الاضطرار إلى تقديره، والأصل عدمه.
والثاني: أن تكون السنّة قاضية بوجوب الغسل. وستعرف أنها متعارضة.
والثالث: أن يكون المسح على الخفين في حال الاختيار جائزاً، وهذا أوّل الكلام، فقد أنكر المسح على الخفّين جماعة من كبار الصحابة وعلى رأسهم أميرالمؤمنين عليه السّلام وتبعهم بعض الأئمّة. ثمّ إنّ أحاديث المسح على الخفّين متعارضة كذلك، ولذا اختلف فقهاء القوم فيه على أقوال، فراجع كتبهم الفقهية.
وقد التفت إلى ضعف هذا الوجه غير واحد من علمائهم:
قال الشهاب الخفاجي:
« ومنهم من حمل النصب على حالة ظهور الرجل، والجرّ على حال استتارها بالخف، حملا للقراءتين على الحالتين. قيل: وفيه نظر،لأنّ الماسح على الخف ليس ماسحاً على الرجل حقيقة ولا حكماً… »(5).
وقال الآلوسي: « وقد ذكر بعض أهل السنة أيضاً وجهاً آخر في التطبيق، وهو أن قراءة الجرّ محمولة على حالة التخفّف، وقراءة النصب على حال دونه. واعترض بأنّ الماسح على الخفّ ليس ماسحاً على الرجل حقيقة ولا حكماً… » قال: « هذا الوجه لا يخلو عن بعد، والقلب فلا يميل اليه، وإن ادّعى الجلال السيوطي أنه أحسن ما قيل في الآية »(6).
تتمة:
قال أحمد بن المنير الاسكندري في (الانتصاف من الكشاف)(7): « لم يوجّه الجرّ بما يشفي الغليل ».
قلت:
وهذا يظهر من جماعة من القائلين بالغسل، فإنهم بعدما أطنبوا في توجيه الآية المباركة، لا سيّما على قراءة الجر، التجأوا ـ وكأنهم يذعنون بأنّ ما ذكروه غير مقنع ـ إلى الإحالة على رسالة منفردة في المسألة، كما قال ابن العربي المالكي وأبو البقاء، أو إلى كتاب آخر كما ذكر الآلوسي في المقام كتاب (النفحات القدسية في ردّ الإمامية).

(1) تفسير القرآن العظيم 2/25.
(2) أحكام القرآن 2/72.
(3) فتح الباري 1/215.
(4) تفسير المراغي 6/63.
(5) حاشية الشهاب على البيضاوي 3/221.
(6) روح المعاني 6/76.
(7) مطبوع على هامش الكشاف 1/610.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *