3 ـ دعوى أنّ المراد بالمسح هو الغسل

3 ـ دعوى أنّ المراد بالمسح هو الغسل:
وجاء آخرون… واعترفوا بأنّ الآية المباركة تدلّ على المسح، فكأن الطرق التي سلكها القوم بالحذف والتقدير، والحمل والتأويل، لم تقنعهم… فتصرفوا في « المسح » المقابل للغسل وحملوه على « الغسل الخفيف ».
قال أبو حيان: « وروي عن أبي زيد أنّ العرب تسمّي الغسل الخفيف مسحاً ويقولون: تمسّحت للصلاة، بمعنى غسلت أعضائي »(1).
وحكى الخازن عن أبي حاتم وابن الأنباري وأبي علي أنّ الأرجل معطوفة على الممسوح قال: « غير أنّ المراد في الأرجل الغسل »(2).
قال القرطبي: « وهو الصحيح، فإنّ لفظ المسح مشترك »(3).
وقال ابن كثير: « ومنهم من قال: هي دالّة على مسح الرجلين ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنّة… ومن أحسن ما يستدلّ به على أنّ المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي حيث قال: أخبرنا أبو علي الروزبادي، حدثنا أبو بكر محمّد ابن أحمد بن محويه العسكري، حدثنا جعفر بن محمّد القلانسي، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عبد الملك بن ميسرة: سمعت النزال ابن سبرة يحدّث عن علي بن أبي طالب أنه: صلّى الظهر ثمّ قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة، حتى حضرت صلاة العصر، ثمّ أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثمّ قام فشرب فضلته وهو قائم. ثم قال: إنّ ناساً يكرهون الشرب قائماً وإنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: هذا وضوء من لم يحدث »(4).
أقول:
لكن قال العيني في وجوه الجواب عن قراءة الجر: « الجواب الرابع: إنّ المسح يستعمل بمعنى الغسل الخفيف، يقال: مسح على أطرافه إذا توضأ. قاله أبو زيد وابن قتيبة وأبو علي الفارسي.
وفيه نظر »(5).
وقال الصاوي ـ بعد أن ذكره ـ: « وهو بعيد »(6).
وقال صاحب المنار: « وهو تكلّف ظاهر »(7).
هذا كلام هؤلاء ولم يزيدوا على ما قالوا… ووجه النظر والبعد والتكلّف أُمور:
الأول: إنّ غاية ما ذكره أبو زيد وجود هذا الاستعمال بين العرب في مقابل الاستعمال الشائع الذائع للمسح في مقابل الغسل، وهل يجوز تنزيل لفظ القرآن الكريم على غير الاستعمال الشائع مع جواز جعله بالمعنى الشائع؟
الثاني: سلّمنا كون لفظ « المسح » مشتركاً بين « المسح » و« الغسل »، فهل يجوز حمل اللفظ على المعنى المشترك مع امكان أخذه بالمعنى الظاهر منه؟
الثالث: إنّه بناء على الاشتراك فلابدّ من القرينة، ولا قرينة على جعل المسح هنا بمعنى الغسل الاّ الأحاديث، وهي ـ لو سلّمنا تمامية أسانيدها وظهورها في الغسل ـ معارضة بما هو صريح في المسح المقابل للغسل.
والرابع: إنّ استدلال ابن كثير بالحديث الذي ذكره ـ وجعله من أحسن ما يستدلّ به للمدّعى ـ عجيب للغاية، فإنّه دالّ على خلاف المدّعى، ومن هنا قال الآلوسي ـ وهو أشدّ القوم اصراراً على هذه الدعاوى ـ وهو يريد الردّ على القائلين بالمسح: « ولا حجة لهم في دعوى المسح بما روي عن أميرالمؤمنين علي ـ كرم الله تعالى وجهه ـ « أنّه مسح وجهه ويديه، ومسح رأسه ورجليه، وشرب فضل طهوره قائماً وقال: إنّ الناس يزعمون أنّ الشرب قائماً لا يجوز، وقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع مثل ما صنعت، وهذا وضوء من لم يحدث.
لأنّ الكلام في وضوء المحدث لا في مجرّد التنظيف بمسح الأطراف، كما يدلّ عليه ما في الخبر من مسح المغسول اتفاقاً »(8).

(1) البحر المحيط 3/438.
(2) تفسير الخازن 2/441.
(3) تفسير القرطبي 6/92.
(4) تفسير القرآن العظيم 2/25.
(5) عمدة القاري 2/239.
(6) الصاوي على البيضاوي 1/270.
(7) تفسير المنار 6/233.
(8) روح المعاني 6/78.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *