قطعيّة أحاديث الصّحيحين

قطعيّة أحاديث الصّحيحين
إنّ حديث المنزلة ـ لكونه في الصحيحين ـ مقطوع الصّدور لو فرض أنّه ليس على حدّ التواتر … لأنّ أحاديث الصحيحين مقطوعة الصدور لدى: ابن الصلاح وأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانّيين والقاضي أبي الطيّب ، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وأبي عبدالله الحميدي، وأبي نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق، والسرخسي الحنفي، والقاضي عبد الوهاب المالكي، وأبي يعلى وابن الزاغوني الحنبليين، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام، وأهل الحديث قاطبةً، وهو مذهب السّلف عامة، ومحمد بن طاهر المقدسي ـ بل قال بذلك فيما كان على شرطهما أيضاً ـ والبلقيني، وابن تيمية، وابن كثير، وابن حجر العسقلاني، والسيوطي، وإبراهيم الكردي الكوراني، وأحمد النخلي، وعبد الحق الدهلوي، وولي الله الدهلوي…
فهؤلاء كلّهم وغيرهم… يقولون بأنّ حديث الصحيحين مقطوع بصحّته…
وإليك بعض التصريحات الواردة عنهم في هذا الباب، نذكرها بإيجاز، مقتصرين على محلّ الحاجة منها:
قال السيوطي بشرح التقريب مازجاً به: «وإذا قالوا: صحيح متفق عليه، أو على صحته، فمرادهم إتفاق الشيخين لاإتفاق الاُمّة. قال ابن الصّلاح: لكنْ يلزم من إتفاقهما إتفاق الاُمة عليه، لتلقّيهم له بالقبول. وذكر الشيخ ـ يعني ابن الصلاح ـ : (إنّ ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحّته، والعلم القطعي حاصل فيه) قال: خلافاً لمن نفى ذلك…
قال البلقيني: ما قاله النووي وابن عبد السلام ومن تبعهما ممنوع، فقد نقل بعض الحفاظ المتأخرين مثل قول ابن الصّلاح عن جماعة من الشافعية، كأبي إسحاق وأبي حامد الإسفرانيين، والقاضي أبي الطيّب، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعن السرخسي والزاغوني من الحنابلة، وابن فورك، وأكثر أهل الكلام من الأشعريّة، وأهل الحديث قاطبة، ومذهب السلف عامة. بل بالغ ابن طاهر المقدسي في صفوة التصوف فألحق به ما كان على شرطهما وإنْ لم يخرجاه…
وقال شيخ الإسلام: ما ذكره النووي في شرح مسلّم من جهة الأكثرين، أمّا المحقّقون فلا، وقد وافق ابن الصلاح أيضاً محققون …
وقال ابن كثير: وأنا مع ابن الصّلاح فيما عوّل عليه وأرشد إليه.
قلت: وهو الذي أختاره ولا أعتقد سواه»(1).
وقال محمد أكرم بن عبد الرحمن المكي في (إمعان النظر في توضيح نخبة الفكر): «وانتصر لابن الصّلاح:المصنّف ، ومن قبله شيخه البلقيني تبعاً لابن تيمية».
وقال الزين العراقي في (شرح الألفية):
«حكم الصحيحين والتعليق:
ص:
وأقطع بصحة لما قد أسندا *** كذا له وقيل ظناً ولَدا
محقّقيهم قد عزاه النووي *** وفي الصحيح بعض شيء قد روي
مضعَّف ولهما بلا سند *** أشياء فإن يجزم فصحيح أو ورد
ممرّضاً فلا ولكن يشعر *** بصحّة الأصل له كيُذكر
ش: أي ما أسنده البخاري ومسلم، يريد ما روياه بإسنادهما المتّصل فهو مقطوع بصحته. كذا قال ابن الصلاح، قال: والعلم اليقيني النظري واقع به، خلافاً لقول من نفى، … وقد سبقه إلى نحو ذلك: محمد بن طاهر المقدسي، وأبو نصر عبد الرحيم بن عبد الخالق ابن يوسف.
قال النووي: وخالف إبن الصلاح المحققون والأكثرون فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر».(2)
وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في (تحقيق البشارة إلى تعميم الإشارة): «ثم المتواتر يفيد العلم اليقيني ضرورياً. وقد يفيد خبر الواحد أيضاً العلم اليقيني لكن نظرياً بالقرائن، على ما هو المختار. قال الشيخ الإمام الحافظ شهاب الدين أحمد بن حجر العسقلاني في شرح نخبة الفكر: والخبر المحتف بالقرائن أنواع، منها: المشهور إذا كانت له طرق متبائنة سالمةً من ضعف الرواة والعلل. ومنها: ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما ما لم يبلغ حدّ التواتر، فإنه احتفّ بقرائن، منها جلالتهما في هذا الشأن وتقدّمهما في تمييز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول… وممّن صرّح من أئمة الاُصول بإفادة ما خرّجه الشيخان العلم اليقيني النظري: الاُستاذ أبو إسحاق الإسفرايني، ومن أئمة الحديث: أبو عبدالله الحميدي وأبو الفضل بن طاهر».
وللشيخ محمد معين بن محمد أمين السندي رسالة مفردة في إثبات قطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، أدرجها في كتابه (دراسات اللبيب) وإليك جملاً من عباراته:
«إن أحاديث الجامع الصحيح للإمام أبي عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري، وكتاب الصحيح للإمام أبي الحسين مسلم بن حجاج القشيري ـ رحمهما الله تعالى ونفعنا ببركاتهما ـ هي رأس مال من سلك الطريق إلى الله تعالى، بالأسوة الحسنة بخير الخلق قاطبة… والمعجزة الباقية من رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلّم، من حيث حفاظ أسانيدها على مرّ الدهور إلى زماننا هذا. فهي تلو القرآن في إعجازه الباقي».
«قد فصّل وبيّن إمام وقته الحافظ جلال الدين السيوطي في هذا الكلام، من دلائل الطرفين والتأييد بأقوال المحققين لابن الصلاح، ما فيه مغنىً للعاقل.
فقد تبّين أنه وافقه إجماع المحدثين بعد الموافقة مع علماء المذاهب الأربعة جميعاً، ووافقه المتكلّمون من الأشاعرة … ووافقه المتأخرون وهم النقّادون الممعنون النظر في دليل السابقين… وهو المختار عند الإمام الحافظ السيوطي وهو مجدّد وقته…».
«تمسّك ابن الصّلاح بما صورة شكله: ما في الصحيحين مقطوع الصدور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، لأن الاُمة اجتمعت على قبوله، وكلّما اجتمعت الاُمة على قبوله مقطوع، فما في الصحيحين مقطوع.
أمّا ثبوت الصغرى، فبالتواتر عن الأسلاف إلى الأخلاف.
وأمّا الكبرى، فبما يثبت قطعية الإجماع ولو على الظن، كما إذا حصل الإجماع في مسألة قياسية. فإن الإجماع هناك ظنون مجتمعة أورثت القطع بالمظنون، لعصمة الأمة، فكذا هنا أخبار الآحاد مظنونة في نفسها، فإذا حصل الإجماع عليها أورثت القطع.
وتمسّك النووي بما صورة شكله: ما في الصحيحين مظنون الصدور عن النبي صلّى الله تعالى عليه وسلّم، لأنه من أحاديث الآحاد، وكلّما هو من أحاديث الآحاد مظنون، فهذا مظنون.
أمّا ثبوت الصغرى، فظاهر، لندرة التواتر جدّاً.
وأمّا ثبوت الكبرى، فمفروغ عنه في الفن.
فهذه صورة المعارضة بين التمسّكين، وهي ظاهر تحرير الكتاب، ولنبيّن الموازنة والمواجهة بينهما، بأن نأخذ دليل النووي في صورة المنع على دليل ابن الصلاح، ثم نحرّر مقدمة دليله الممنوعة، فإنْ تحصّن بالتحرير عن منعه فالحق معه، وإلاّ فهو في ذمة المطالبة. وأنت تعرف أن المانع أجلد الخصمين وأوسعهما مجالاً، فنعط هذاالمنصب لمن يخالف ما نعتقده من مذهب ابن الصلاح ومن معه، حتى يظهر الحق إن ظهر في غاية سطوعه».
ثم شرع في تحقيق المسألة، وانتصر لابن الصّلاح، وإن شئت التفصيل فراجع رسالته التي أسماها: (غاية الإيضاح في المحاكمة بين النووي وابن الصلاح) المدرجة في كتابه (دراسات اللبيب).(3)
وهو مختار الشيخ إبراهيم بن حسن الكردي في رسالته (إعمال الفكر والرّويات في شرح حديث إنما الأعمال بالنيّات) وفي رسالته (بلغة المسير إلى توحيد الله العليّ الكبير). فإنّه ذكر مذهب ابن الصلاح وأيّده في أكثرمن موضع، وذكر: «إنّ كلام الشّيخ ابن الصّلاح رحمه الله هذا كلام موجّه محقق وإنْ ردّه الإمام النووي».
وقال ولي الله الدهلوي: «وأمّا الصحيحان فقد اتّفق المحدّثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وإنهما متواتران إلى مصنّفيهما، وأنّ كلّ من يهوّن أمرهما فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين»(4).
والأطرف من الكل: نقل الشيخ عبد المعطي ـ وهو من مشايخ القوم ـ عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مشافهةً، تنصيصه على صحة جميع ما أخرجه البخاري!!! ذكر ذلك الشيخ أحمد النخلي المتوفى سنة 1130 وهو شيخ شيخ ولي الله الدهلوي، وقد وصفه (الدهلوي) في رسالته في (أصول الحديث) بأنه «أعلم أهل عصره». وترجم له المرادي فوصفه بـ «الإمام العالم العلامة، المحدّث الفقيه الحبر الفهامة، المحقق المدقق النحرير»(5).
نعم، ذكر النخلي هذا في رسالة (أسانيده) ما هذا نصّه:
«أخبرنا شيخنا جمال الدين القيرواني، عن شيخه الشيخ يحيى الخطّاب المالكي المكي قال: أخبرنا عمّي الشيخ بركات الخطابي، عن والده، عن جده الشيخ محمد بن عبد الرحمن الخطاب شارح مختصر خليل قال:
مشينا مع شيخنا العارف بالله الشيخ عبد المعطي التنوسي لزيارة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلما قربنا من الروضة الشريفة ترجّلنا، فجعل الشيخ عبد المعطي يمشي خطوات ويقف، حتى وقف تجاه القبر الشريف، فتكلّم بكلام لم نفهمه، فلمّا انصرفنا سألناه عن وقفاته فقال: كنت أطلب الإذن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في القدوم عليه، فإذا قال لي: أقدم، قدمت ساعةً ثم وقفت، وهكذا حتى وصلت إليه. فقلت:
يا رسول الله، كلّما رواه البخاري عنك صحيح؟
فقال: صحيح.
فقلت له: أرويه عنك يا رسول الله؟
قال: إروه عنّي.
وقد أجاز الشيخ عبد المعطي ـ نفعنا الله تعالى به ـ الشيخ محمد الخطّاب أنْ يرويه عنه. وهكذا كلّ واحد أجاز من بعده ، حتى وصلت إلينا من فضل الله تعالى وكرمه.
وأجازني السيد أحمد بن عبد القادر النخلي أن نرويه عنه بهذا السند.
وأجاز النخلي لأبي طاهر، وأجاز أبو طاهر لنا.
ووجدت هذا الحديث بخط الشيخ عبد الحق الدهلوي بإسناد له عن الشيخ عبد المعطي بمعناه، وفيه: فلما فرغ من الزيارة وما يتعلّق بها، سأل أن يروي عنه صلّى الله عليه وسلّم صحيح البخاري وصحيح مسلم، فسمع الإجازة من النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر صحيح مسلم أيضاً».
وعلى الجملة، فإنّ من يناقش في سند حديث المنزلة فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين، كما قال أحمد بن عبدالحليم الدهلوي.
وفي كتب الرجال، اتفاق بينهم على قبول من أخرج له الشيخان، حتّى أنّ بعضهم قال: من أخرجا له فقد جاز القنطرة!
ومن هنا، نراهم متى ما أعيتهم السبل في ردّ حديث يتمسّك به الإمامية على إثبات حقّهم أو على إبطال باطل، وعجزوا عن الجواب، يتذرّعون بعدم إخراج الشيخين له، ويتّخذون عدم إخراجهما للحديث ذريعة للطعن في ذلك الحديث الذي ليس في صالحهم.
أذكر مثالاً واحداً، وهو حديث: «ستفترق أُمّتي على ثلاث وسبعين فرقة»، هذا الحديث بهذا اللفظ غير موجود في الصحيحين، لكنّه موجود في السنن الأربعة، يقول ابن تيميّة في مقام الردّ على هذا الحديث(6): الحديث ليس في الصحيحين ولكن قد أورده أهل السنن ورووه في المسانيد كالإمام أحمد وغيره.
ومع ذلك لا يوافق على هذا الحديث متذرّعاً بعدم وجوده في الصحيحين.
إلاّ أنّ الملفت للنظر لكلّ باحث منصف، أنّهم في نفس الوقت الذي يؤكّدون على قطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ويتخذون إخراج الشيخين لحديث أو عدم إخراجهما له دليلاً وذريعة ووسيلة لردّ الحديث أو قبوله، في نفس الوقت، إذا رأوا في الصحيحين حديثاً في صالح الإماميّة يخطّئونه ويردّونه وبكلّ جرأة.
ولذا، فإنّ من ينظر في كتاب ]التحفة الإثنا عشرية[(7) ـ مثلاً ـ يجد صاحب هذا الكتاب يبطل حديث هجر فاطمة الزهراء أبا بكر، وأنّها لم تكلّمه إلى أن ماتت، يبطله ويردّه مع وجوده في الصحيحين.
والقسطلاني في ]إرشاد الساري في شرح البخاري[(8)، وأيضاً ابن حجر المكي في كتاب ]الصواعق[(9)، ينقلان عن البيهقي أنّه ضعّف حديث الزهري الدالّ على أنّ عليّاً عليه السّلام لم يبايع أبا بكر مدّة ستّة أشهر. فالبيهقي يضعّف هذا الحديث ويحكي غيره كالقسطلاني وابن حجر هذا التضعيف في كتابه، مع أنه موجود في الصحيحين.
وقد رأينا أنّ الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي الحنبلي قد أدرج حديث الثقلين في كتابه ]العلل المتناهية في الأحاديث الواهية[، مع وجوده في صحيح مسلم، ومن هنا اعترض عليه غير واحد.
فيظهر: أنّ القضيّة تدور مدار مصالحهم، فمتى ما رأوا الحديث في صالحهم وأنّه ينفعهم في مذاهبهم، اعتمدوا عليه واستندوا إلى وجوده في الصحيحين. ومتى كان الحديث يضرّهم ويهدم أساساً من أُسس مذهبهم ومدرستهم، أبطلوا ذلك الحديث أو ضعّفوه مع وجوده في الصحيحين أو أحدهما.
وهذا ليس بصحيح، وليس من دأب أهل العلم وأهل الفضل، وليس من دأب أصحاب الفكر وأصحاب العقيدة الذين يبنون فكرهم وعقيدتهم على أُسس متينة، يلتزمون بها ويلتزمون بلوازمها.
وعندما نصل إلى محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة أو المناقشة في سنده، سنرى أنّ عدّةً منهم يناقشون سند هذا الحديث أو يضعّفونه بصراحة، مع وجوده في الصحيحين، فأين راحت قطعية صدور أحاديث الصحيحين؟ وما المقصود من الإصرار على هذه القطعية؟
ونحن أيضاً لا نعتقد بقطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ونحن أيضاً لا نعتقد بوجود كتاب صحيح من أوّله إلى آخره سوى القرآن الكريم.
لكن بحثنا معهم، وإنّما نتكلّم معهم على ضوء ما يقولون وعلى أساس ما به يصرّحون.
فإذا جاء دور البحث عن سند حديث المنزلة، سترون أنّ عدّةً منهم من علماء الأصول ومن علماء الكلام يناقشون في سند حديث المنزلة ولا يسلّمون بصحّته، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجأون إليها دائماً ويلتزمون بها دائماً، وإنّما هي أهواء يرتّبونها بعنوان قواعد، يذكرونها بعنوان أُسس، فيطبّقونها متى ما شاؤا ويتركونها متى ما شاؤا.
ولا بأس بذكر عدّة من ألفاظ حديث المنزلة في غير الصحيحين من الكتب المعروفة المشهورة، وفي كلّ لفظ أذكره توجد خصوصيّة أرجو أنْ لا تفوت على القارئ الكريم.

(1) تدريب الراوي 1 / 131 ـ 134.
(2) فتح المغيث في شرح ألفية الحديث 1 / 58.
(3) دراسات اللبيب في الأسوة الحسنة بالحبيب 1 / 228.
(4) حجّة الله البالغة: 139 باب طبقات كتب الحديث.
(5) سلك الدرر في أعيان القرن الحادي عشر 1 / 171.
(6) منهاج السنّة 3 / 456.
(7) التحفة الاثنا عشرية: 278.
(8) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6 / 363.
(9) الصواعق المحرقة: 90.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *