3. كونه باب مدينة العلم لا يستلزم الامامة

3. كونه باب مدينة العلم لا يستلزم الامامة
وقال عبد العزيز الدهلوي في الباب الحادي عشر من التحفة في بيان أنواع أوهام الشيعة على زعمه: «النوع الثالث ـ أن يكون المطلوب شيئا، ونتيجة الاستدلال شيئاً آخر، لكنّهم يتوهّمون ويجعلونها عين المطلوب لكمال القرب والمجاورة بينها وبين المطلوب، وعلى هذا الأساس يتم أكثر استدلالات الشيعة، كما تقدّم بالتفصيل في مباحث الإمامة، من ذلك: أنّ الأمير باب مدينة العلم، وكلّ من كان باب مدينة العلم فهو الإمام، ومن جهة أنّ الإمام رئيس الأمة، والباب له رئاسة الدار بوجه من الوجوه، وإذا كان الأمير الباب فهو الإمام.
والحال أنّ كونه باب مدينة العلم أمر، وكونه الامام أمر آخر، وليس بين الأمرين اتّحاد ولا تلازم».
أقول:
وهذا الكلام مرفوض ومردود بوجوه كثيرة. نكتفي هنا بإيراد بعضها:
أحدها: دعوى عدم تفرقة الشيعة بين المطلوب والنتيجة زعم فاسد، فإنّ الشيعة أجلّ شأناً وأعظم قدراً من ذلك.
والثاني: دعواه أنّ أكثر استدلالات الشيعة من هذا القبيل، دعوى كاذبة، ويكفيك مراجعة استدلالاتنا في المواضع المختلفة من مباحث الإمامة.
والثالث: ما ذكره حول استدلال الشيعة بحديث أنا مدينة العلم باطل، فقد عرفت من بحوث كتابنا هذا حول حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها» سنداً ودلالة، متانة استدلالاتنا، وتماميّة دلالة هذا الحديث على مطلوبنا.
والرابع: إنّ طريق استدلال الشيعة بحديث مدينة العلم موجود ومضبوط في كتبها، وليس طريق الاستدلال المبهم والمجمل الذي نسبه (الدهلوي) إليهم في شيء من مؤلّفاتهم، ونحن نورد هنا ـ مرّةً اُخرى ـ طريق الاستدلال عن بعض أصحابنا لترى خيانة الدهلوي وكذبه في هذه المقالة:
قال أبو جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب السروي بعد نقل الحديث عن المخالفين: «وهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه كنّى عنه بالمدينة، وأخبر أن الوصول إلى علمه من جهة عليّ خاصة، لأنه جعله كباب المدينة الذي لا يدخل إليها إلاّ منه. ثم أوجب ذلك الأمر به بقوله: فليأت الباب. وفيه دليل على عصمته، لأنه من ليس بمعصوم يصحّ منه وقوع القبيح، فإذا وقع كان الاقتداء به قبيحاً فيؤدّي إلى أن يكون عليه السلام قد أمر بالقبيح، وذلك لا يجوز. ويدلّ أيضاً على أنه أعلم الأمة، يؤيد ذلك ما قد علمناه من اختلافها ورجوع بعضها إلى بعض وغناءه عليه السلام عنها، وأبان عليه السلام ولاية علي عليه السلام وإمامته، وأنه لا يصح أخذ العلم والحكمة في حياته وبعد وفاته إلاّ من قبله وروايته عنه كما قال الله تعالى (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها)(1)
وقال القاضي السيد نور الله التستري في (إحقاق الحق): «أقول: في الحديث إشارة إلى قوله تعالى (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) وفي كثير من روايات ابن المغازلي تصريح بذلك، ففي بعضها مسنداً إلى جابر: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. وفي بعضها مسنداً إلى علي عليه السلام: يا علي أنا المدينة وأنت الباب. كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلاّ من الباب. وروي عن ابن عباس: أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. وعن ابن عباس أيضاً: أنا مدينة الجنة وعلي بابها فمن أراد الجنة فليأتها من بابها. وعن ابن عباس أيضاً بطريق آخر: أنا دارالحكمة وعلي بابها فمن أراد الحكمة فليأت الباب.
فهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين عليه السلام، لأنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كنّى عن نفسه الشريفة بمدينة العلم ومدينة الجنة وبدار الحكمة، ثم أخبر أن الوصول إلى علمه وحكمته وإلى جنة الله سبحانه من جهة علي خاصة، لأنه جعله كباب مدينة العلم والحكمة والجنة التي لا يدخل إليها إلاّ منه، وكذّب عليه السلام من زعم أنه يصل إلى المدينة لا من الباب، وتشير إليه الآية أيضاً كما ذكرناه.
وفيه دليل على عصمته وهو ظاهر، لأنه عليه السلام أمر بالاقتداء به في العلوم على الإطلاق، فيجب أن يكون مأمونا عن الخطا.
ويدلّ على أنه إمام الأمة، لأنه الباب لتلك العلوم. ويؤيّد ذلك ما علم من اختلاف الأمة ورجوع بعض إلى بعض وغناءه عليه السلام عنها.
ويدلّ أيضاً على ولايته وإمامته عليه السلام وأنه لا يصح أخذ العلم والحكمة ودخول الجنّة في حياته صلّى الله عليه وآله وسلّم إلاّ من قبله، ورواية العلم والحكمة إلاّ عنه لقوله تعالى (وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) حيث كان عليه السلام هو الباب. ولله درّ القائل:
مدينة علم وابن عمك بابها *** فمن غير ذاك الباب لم يؤت سورها
ويدلّ أيضاً على أن من أخذ شيئا من هذه العلوم والحكم التي احتوى عليها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من غير جهة علي عليه السلام كان عاصياً كالسارق والمتسّور، لأن السارق والمتسوّر إذا دخلا من غير الباب المأمور به ووصلا إلى بغيتهما كانا عاصيين. وقوله عليه السلام: فمن أراد العلم فليأت الباب، ليس المراد به التخيير، بل المراد به الإيجاب والتهديد، كقوله عزّ وجلّ (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)والدليل على ذلك أنه ليس هاهنا نبىّ غير محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم هو مدينة العلم ودارالحكمة، فيكون العالم مخيّراً بين الأخذ من أحدهما دون الآخر، وفقد ذلك دليل على إيجابه وأنّه فرض لازم. والحمد لله.
ثم لا يخفى على أولي الألباب أن المراد بالباب في هذه الأخبار الكناية عن الحافظ للشيء الذي لا يشذّ عنه منه شيء، ولا يخرج إلاّ منه ولايدخل عليه إلاّ به. وإذا ثبت أنه عليه السلام الحافظ لعلوم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وحكمته، وثبت أمر الله تعالى ورسوله بالتوصّل به إلى العلم والحكمة، وجب اتّباعه والأخذ عنه، وهذا حقيقة معنى الإمام، كما لا يخفى على ذوي الأفهام».
والخامس: لقد توهّم الدهلوي في هذه العبارة، فذكر أنّ الباب له رئاسة الدار، وقد كان عليه أن يقول هنا: باب المدينة له رئاسة المدينة، ألا يفرّق الدهلوي بين «الدار» و«المدينة»؟
والسادس: إن للدهلوي هنا غلطاً آخر، فإنّ للباب رئاسة على الداخلين والخارجين من المدينة أو الدار، لا على نفس المدينة أو الدار… وهذا مما لا يرتاب فيه عاقل… فهذا خطأ من الدهلوي في خطأ في خطأ.
والسابع: قد عرفت أنّ كونه عليه السلام باب مدينة العلم يثبت إمامته ومرجعيّته لجميع الخلائق في جميع العلوم، … وكونه باب مدينة العلم بهذا المعنى متحد مع الإمامة كما لا يخفى.

(1) مناقب آل أبي طالب 2 / 34.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *