بين الوليد و الإمام

بين الوليد و الإمام
لكنّ الوليد لم يستعمل الشدّة مع الإمام عليه السلام، فضلا على أن يقدِم على قتله، وإنّما بعث إليه وأخبره بوفاة معاوية، ودعاه إلى البيعة ليزيد، فقال له الإمام: نصبح وننظر; فلم يشدّد الوليد على الإمام(1)، بل قال له: «انصرف على اسم اللّه»(2).
هذا، وقد اختلفت روايات المؤرّخين لنصّ كتاب يزيد إلى الوليد بن عتبة، فمنهم من روى أنّه أمره بقتل الإمام، ومنهم من روى أنّه أمره بأخذ البيعة منه، بل منهم من روى أنّه أمره بالرفق معه…
إلاّ أنّ أحداً لم يتردّد في أنّ يزيد قد أمر ابن زياد بقتل الإمام عليه السلام، وأنْ يبعث إليه برأسه الشريف.
وسيأتي تفصيل ذلك كلّه في ما بعد…
قال الشيخ المفيد: «فقال مروان للوليد: عصيتني، لا واللّه لا يمكّنك مثلها من نفسه أبداً.
فقال الوليد: الويح لغيرك يا مروان، إنّك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، واللّه ما أُحبُّ أنّ لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنّي قتلت حسيناً.
سبحان اللّه! أقتلُ حسيناً إنْ قال لا أُبايع؟! واللّه إنّي لأظنّ أنّ امرَأً يحاسَب بدم الحسين خفيف الميزان عند اللّه يوم القيامة.
فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت في ما صنعت. يقول هذا وهو غير الحامد له على رأيه»(3).
وقال محمّد بن أبي طالب الموسوي: «وأرسل الوليد إلى منزل الحسين عليه السلام لينظر أخَرجَ من المدينة أم لا؟ فلم يصبه في منزله فقال: الحمد للّه الذي خرج ولم يبتلني بدمه…»(4).
هذا، وقد جاء في رواية البلاذري أنّ الوليد قد قال للإمام عليه السلام ـ في كلام بينهما ـ : «لو علمت ما يكون بعدنا لأحببتنا كما أبغضتنا»(5).
وهذا الكلام جديرٌ بالتأمّل جدّاً.
أقول:
والذي نراه أنّ الوليد كان مأموراً بما فعل، وأنّ ما فعله كان تطبيقاً لِما أُمر به، لكنّ مروان كان يجهل الأمر، أو كان يريد غير ذلك.
وممّا يشهد لِما ذكرناه أُمور:
1 ـ إنّه لمّا خرج ابن الزبير وجّه الوليد في إثره حبيب بن ذكوان في ثلاثين فارساً، وقيل: ثمانين، فلم يقعوا له على أثر، وشغلوا يومهم ذلك كلّه بطلب ابن الزبير(6) ليعمل بوصيّة معاوية; وأمّا الإمام، فلمّا علم الوليد بخروجه عليه السلام من المدينة المنوّرة قال: «الحمد للّه».
2 ـ إنّه لو كان مأموراً بقتل الإمام لَما قال له لمّا أبى أن يبايع: «انصرف على اسم اللّه»; كما مرّ سابقاً عن الطبري وابن كثير(7).
3 ـ إنّ الكلام الذي دار بينه وبين مروان، يدلّ دلالة واضحة على كون مروان هو المصرّ على القتل إن لم يبايع الإمام.
4 ـ إنّنا لم نجد أيّةَ عقوبة للوليد من يزيد… فلو كان أمره بقتل الإمام ولم يمتثل لعاقبه، ولا أقلّ من أن لا يولّيه شيئاً من المناصب; والحال أنّ يزيد قد ولاّه المدينة مرّتين، وأقام الموسم غير مرّة، آخرها سنة 62، كما ذكر الذهبي(8).
5 ـ إنّ الوليد هو الذي صلّى على جنازة معاوية بن يزيد(9).
6 ـ أرادوه للخلافة بعد معاوية بن يزيد، فأبى(10).
والحاصل:
إنّ عزله عن المدينة لم يكن إلاّ لمصلحة خاصّة، وسيأتي نظيره في والي الكوفة، ولم يكن لتفريطه في هذا الأمر كما ذكر بعض المؤرّخين، اللّهمّ إلاّ أن يكون لتفريطه في أمر ابن الزبير الذي أوصى معاويةُ يزيدَ بأنْ يقطّعه إرباً إرباً إن قدر عليه(11).

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 534 رقم 139.
(2) انظر حوادث سنة 60 هـ في: تاريخ الطبري 3 / 270، البداية والنهاية 8 / 118.
(3) الإرشاد 2 / 33 ـ 34، وانظر: تاريخ الطبري 3 / 270، الكامل في التاريخ 3 / 378، البداية والنهاية 8 / 118.
(4) بحار الأنوار 44 / 328 ب 37.
(5) أنساب الأشراف 3 / 369.
(6) انظر: الأخبار الطوال: 228، تاريخ ابن خلدون 3 / 23، الكامل في التاريخ 3 / 369، البداية والنهاية 8 / 93، المنتظم 4 / 137.
(7) تقدّم في الصفحة 161 هـ 2.
(8) العبر 1 / 52.
(9) الإنباء بأنباء الأنبياء (تاريخ القضاعي): 210.
(10) دول الإسلام: 41.
(11) انظر: تاريخ الطبري 3 / 260، العقد الفريد 3 / 360، المنتظم 4 / 137، تاريخ ابن خلدون 3 / 23، الكامل في التاريخ 3 / 369، البداية والنهاية 8 / 93.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *