المقدّمة الثانية: في بعض قضايا معاوية مع الإمام الحسن عليه السلام

المقدّمة الثانية: في بعض قضايا معاوية مع الإمام الحسن عليه السلام

استشهد أمير المؤمنين عليه السلام ليلة الحادي والعشرين من شهر رمضان في السنة الأربعين من الهجرة النبوية.. وكان بعده مولانا الإمام الحسن السبط عليه الصلاة والسلام.
وقد بايعه الناس بعد أن خطبهم.
ونقل أبو الفرج خبر الخطبة بأسانيده:
«قال عمرو بن ثابت: كنت أختلف إلى أبي إسحاق السبيعي سنةً أسأله عن خطبة الحسن بن عليّ، فلا يحدّثني بها، فدخلت إليه في يوم شات وهو في الشمس وعليه برنسه كأنّه غول، فقال لي: من أنت؟ فأخبرته، فبكى وقال: كيف أبوك؟ كيف أهلك؟ قلت: صالحون. قال: في أيّ شيء تَردّدُ منذ سنة؟ قلت: في خطبة الحسن بن عليّ بعد وفاة أبيه.
قال ـ بعد أن ذكر سنده ـ : خطب الحسن بن عليّ بعد وفاة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام فقال: لقد قُبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأوّلون ولا يدركه الآخرون بعمل، ولقد كان يجاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجّهه برايته فيكتنفه جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتّى يفتح اللّه عليه، ولقد توفّي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفّي فيها يوشع بن نون وصيّ موسى، وما خلّف صفراء ولا بيضاء إلاّ سبعمئة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.
ثمّ خنقته العبرة فبكى وبكى الناس معه.
ثمّ قال: أيّها الناس! من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى اللّه عزّ وجلّ بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، والّذين افترض اللّه مودّتهم في كتابه إذ يقول: (وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً)فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.
قال أبو مخنف عن رجاله: ثمّ قام ابن عبّاس بين يديه فدعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا له وقالوا: ما أحبّه إلينا وأحقّه بالخلافة! فبايَعوه.
ثمّ نزل عن المنبر»(1).

تنبيه:
حاول القوم أن لا ينقلوا خطبة الإمام الحسن عليه السلام كاملةً، وحتّى المنقوص منها تصرّفوا في لفظه! فراجع: مسند أحمد 1 / 199 ـ 200، فضائل الصحابة ـ لأحمد ـ 1 / 674 ح 922 و ج 2 / 737 ح 1013، الزهد ـ لأحمد بن حنبل ـ : 110 ح 710، الطبقات الكبرى ـ لابن سعد ـ 3 / 28، المعجم الكبير ـ للطبراني ـ 3 / 79 ـ 81 ح 2717 ـ 2725، الإحسان بترتيب صحيح ابن حبّان 9 / 45 ح 6897، تاريخ الطبري 3 / 164 حوادث سنة 40 هـ ، المستدرك على الصحيحين 3 / 188 ح 4802، الكامل في التاريخ 3 / 265 حوادث سنة 40 هـ ، مجمع الزوائد 9 / 146، ثمّ قارن بين الألفاظ لترى مدى إخلاص أُمناء الحديث وحرصهم على حفظه ونقله!!
ولذا نجد علماء القوم يصرّحون بشرعيّة إمامته عليه السلام في شرح حديث «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، فقالوا بأنّ مدّة خلافته متمّمة للثلاثين(2).
وأيضاً، فقد ذكروا الإمام الحسن عليه السلام بشرح حديث «الأئمّة بعدي اثنا عشر»(3).
ثمّ إنّه كتب إلى معاوية، فقال:
«سلام عليك، فإنّي أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلاّ هو.
أمّا بعد: فإنّ اللّه جلّ جلاله بعث محمّداً رحمةً للعالمين، ومنّةً للمؤمنين، وكافّة للناس أجمعين، (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فبلّغَ رسالات اللّه، وقامَ بأمر اللّه حتّى توفّاه اللّه غير مقصّر ولا وان، وبعد أن أظهر اللّه به الحقّ ومَحَقَ به الشرك، وخصّ به قريشاً خاصّة فقال له: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)، فلمّا توفّي تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته وأُسرته وأولياؤه، ولا يحلّ لكم أن تنازعونا سلطان محمّد وحقّه; فرأت العرب أنّ القول ما قالت قريش، وأنّ الحجّة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمّد، فأنعمت لهم وسلّمت إليهم.
ثمّ حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنّهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج، فلمّا صرنا أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأولياءه إلى محاجّتهم، وطلب النصَف منهم باعدونا واستولوا بالإجماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا، فالموعد اللّه، وهو الوليّ النصير.
ولقد كنّا تعجّبنا لتوثّب المتوثّبين علينا في حقّنا وسلطان نبيّنا، وإنْ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الإسلام، وأمسكنا عن منازعتهم مخافةً على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب في ذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده!
فاليوم فليتعجّب المتعجّب من توثّبك يا معاوية على أمر لستَ من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ولكتابه! واللّه حسيبك، فستردّ فتعلم لمن عقبى الدار، وباللّه لتلقينّ عن قليل ربّك، ثمّ ليجزينّك بما قدّمت يداك وما اللّه بظلاّم للعبيد.
إنّ عليّاً لمّا مضى لسبيله، رحمة اللّه عليه يوم قبض ويوم مَنَّ اللّه عليه بالإسلام ويوم يبعث حيّاً، ولاّني المسلمون الأمر بعده، فأسأل اللّه ألاّ يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة ممّا عنده من كرامة.
وإنّما حملني على الكتابة إليك الإعذار في ما بيني وبين اللّه عزّ وجلّ في أمرك، ولك في ذلك إنْ فعلته الحظّ الجسيم والصلاح للمسلمين، فدع التمادي في الباطل وادخل في ما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك عند اللّه وعند كلّ أوّاب حفيظ ومَن له قلب منيب.
واتّق اللّه ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فواللّه ما لك خير في أن تلقى اللّه من دمائهم بأكثر ممّا أنت لاقيه به.
وادخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله ومن هو أحقّ به منك، ليطفئ اللّه النائرة بذلك، ويجمع الكلمة، ويصلح ذات البين.
وإنْ أنت أبيت إلاّ التمادي في غيّك، سرتُ إليك بالمسلمين، فحاكمتك، حتّى يحكم اللّه بيننا وهو خير الحاكمين»(4).
وهكذا توالت الكتب والرسائل، حتّى تحرّك معاوية نحو العراق في جيش يبلغ الستّين ألفاً(5)، وخرج الإمام الحسن عليه السلام لمواجهته، وقد كان من رجال عسكره: حجر بن عديّ، وعديّ بن حاتم، وقيس بن سعد بن عبادة، وسعيد بن قيس، ومعقل بن قيس الرياحي، وزياد بن صعصعة، وعبيداللّه ابن العبّاس بن عبدالمطّلب.
واستخلف على الكوفة المُغِيْرَةَ بن نوفل بن الحارث ابن عبدالمطّلب.
ووجَّه إلى الشام عبيداللّه ومعه قيس بن سعد في اثني عشر ألفاً.
وسار حتّى إذا وصل عليه السلام قرب المدائن، أراد أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له، ليتميّز بذلك أولياؤه من أعدائه، ويكون على بصيرة في لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر أن ينادى في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم، فقال:
«الحمد للّه كلّما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه كلّما شهد له شاهد، وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه، أرسله بالحقّ وائتمنه على الوحي، صلّى اللّه عليه وآله.
أمّا بعد، فواللّه إنّي لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد اللّه ومنّته وأنا أنصح خلقه لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريداً له بسوء ولا غائلة.
ألا وإنّ ما تكرهون في الجماعة خير لكم ممّا تحبّون في الفُرقة، ألا وإنّي ناظرٌ لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري، ولا تردّوا علَيَّ رأيي، غفر اللّه لي ولكم، وأرشدني وإيّاكم لِما فيه محبّته ورضاه، إن شاء اللّه!
ثمّ نزل.
قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنّه يريد أن يصالح معاوية ويكل الأمر إليه، كفر واللّه الرجل!
ثمّ شدّوا على فسطاطه فانتهبوه، حتّى أخذوا مصلاّه من تحته، ثمّ شدّ عليه عبدالرحمن بن عبداللّه بن جعال الأزدي، فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالساً متقلّداً سيفاً بغير رداء!
فدعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصّته وشيعته، ومنعوا منه مَن أراده، ولاموه وضعَّفوه لِما تكلّم به، فقال: ادعوا إليَّ ربيعة وهَمْدان! فدُعوا له، فأطافوا به، ودفعوا الناس عنه، ومعهم شوْبٌ من غيرهم.
فلمّا مرّ في مظلم ساباط قام إليه رجل من بني أسد، ثمّ من بني نصر بن قعين، يقال له: جراح بن سنان، وبيده مِغْوَل، فأخذ بلجام فرسه وقال: اللّه أكبر يا حسن! أشرك أبوك ثمّ أشركت أنت! وطعنه بالمِغْول فوقعت في فخذه فشقّته حتّى بلغت أُربيّته! وسقط الحسن عليه السلام إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده، واعتنقه فخرَّا جميعاً إلى الأرض، فوثب عبداللّه بن الأخطل الطائي ونزع المغول من يد جراح بن سنان فخضخضه به، وأكبّ ظبيان بن عمارة عليه فقطع أنفه، ثمّ أخذا له الآجُرَّ فشدخا رأسه ووجهه حتّى قتلوه.
وحُمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن وبها سعد بن مسعود الثقفي والياً عليها من قبله، وقد كان عليٌّ عليه السلام ولاّه المدائن فأقرّه الحسن عليه السلام عليها، فأقام عنده يعالج نفسه»(6).
قال الشيخ المفيد: «فلمّا أصبح عليه السلام أراد أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة له; ليتميّز بذلك أولياؤه من أعدائه، ويكون على بصيرة في لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر أن ينادى في الناس بالصلاة جامعة، فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم، فقال…
وحُمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن، فأُنزل به على سعد بن مسعود الثقفي، وكان عامل أمير المؤمنين عليه السلام بها فأقرّه الحسن عليه السلام على ذلك، واشتغل بنفسه يعالج جرحه»(7).
وروى الشيخ الصدوق، أنّ معاوية دسَّ إلى عمرو بن حريث والأشعث بن قيس وحجر بن حجر وشبث بن ربعي، دسيساً أفرد كلّ واحد منهم بعين من عيونه، أنّك إن قتلت الحسن بن عليّ فلك مئتا ألف درهم، وجند من أجناد الشام، وبنت من بناتي(8).
أمّا عبيداللّه بن العبّاس، فقد فرّ إلى معاوية، وتفرّق الجيش ولم يبق مع قيس بن سعد إلاّ أربعة آلاف، فخطبهم وثبّتهم، فكايده معاوية بشتّى الوسائل، حتّى إنّه زوّر عليه رسالةً زعم أنّه أرسلها إليه، وفيها قبول الصلح والبيعة، فلم يؤثّر في قيس شيء من ذلك.
فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه ويمنّيه.
فكتب إليه قيس: لا واللّه لا تلقاني أبداً إلاّ بيني وبينك الرمح.
فكتب إليه معاوية حينئذ لمّا يئس منه: أمّا بعد، فإنّك يهودي ابن يهودي، تشقي نفسك وتقتلها في ما ليس لك، فإن ظهر أحبّ الفريقين إليك نبذك وغدرك، وإن ظهر أبغضهم إليك نكَّل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثرَ الحزَّ، وأخطأ المفصل، فخذله قومه، وأدركه يومه، فمات بحوران طريداً غريباً; والسلام.
فكتب إليه قيس بن سعد: أمّا بعد، فإنّما أنت وثن ابن وثن، دخلت في الإسلام كرهاً، وأقمت فيه فَرَقاً، وخرجت منه طوعاً، ولم يجعل اللّه لك فيه نصيباً، لم يَقْدُمْ إسلامك، ولم يحدث نفاقك، ولم تزل حرباً للّه ولرسوله وحزباً من أحزاب المشركين، وعدوّاً للّه ولنبيّه وللمؤمنين من عباده.
وذكرتَ أبي، فلعمري ما أوتر إلاّ قوسه، ولا رمى إلاّ غرضه، فشغب عليه مَن لا يشقّ غباره ولا يبلغ كعبه!
وزعمتَ أنّي يهودي ابن يهودي، وقد علمت وعلم الناس أنّي وأبي أعداء الدين الذي خرجت منه، وأنصار الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه; والسلام(9).
إلى أن وقع الصلح بين الإمام ومعاوية، فجاء قيس وقال: إنّي قد حلفت أن لا ألقى معاوية إلاّ وبيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح أو سيف، فوضع بينهما ليبرّ يمينه(10).
هذا، وقد ذكر المؤرّخون خيانة غير واحد من رؤساء القبائل أيضاً، فقد روى البلاذري: «وجعل وجوه أهل العراق يأتون معاوية فيبايعونه، فكان أوّل من أتاه خالد بن معمر فقال: أُبايعك عن ربيعة كلّها. ففعل. وبايعه عفاق بن شرحبيل بن رهم التيمي»(11).
لكنْ لا يبعد أن يكون الرجلان قد بايعا معاوية قبل ذلك بكثير، أي من زمن أمير المؤمنين عليه السلام.
أمّا خالد بن معمر، الذي بايع معاوية، فقد روى ابن عساكر أنّه ممّن سعى على الإمام الحسين عليه السلام(12).
كما ذُكر في بعض المصادر أنّه قد التحق بمعاوية في قبيلته لأمر نقمه على أمير المؤمنين عليه السلام(13).
وأمّا عفاق بن شرحبيل، فقد ذكروا أنّه كان من قبيلة يزيد ابن حُجَيّة عامل أمير المؤمنين عليه السلام على الريّ، فلمّا عاقب عليه السلام يزيد في قضية ماليّة، التحق بمعاوية، وذهب إليه بأموال المسلمين، وقال أمير المؤمنين: «اللّهمّ إنّ ابن حُجَيّة هرب بمال المسلمين، وناصبنا مع القوم الظالمين، اللّهمّ اكفنا كيده، واجزه جزاء الغادرين; فأمّن الناس. قال عفاق: ويلكم تؤمّنون على ابن حُجَيّة! شلّت أيديكم! فوثب عليه عنق من الناس فضربوه، فاستنقذه زياد بن خصفة التيمي ـ وكان من شيعة الإمام ـ قائلا: دعوا لي ابن عمّي! فقال عليٌّ عليه السلام: دعوا الرجل لابن عمّه ; فتركه الناس، فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد»(14).
فيظهر أنّ هؤلاء لم يكونوا شيعة لأهل البيت عليهم السلام، وإنّما كان كثير منهم من الخوارج..
ويشهد بذلك ما جاء في كتاب قيس بن سعد إلى الإمام عليه السلام ـ في ما رواه الشيخ المفيد ـ ، قال:
«وورد عليه كتاب قيس بن سعد رضي اللّه عنه… فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلان القوم له، وفساد نيّات المُحَكِّمَة فيه بما أظهروه له من السبّ والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله، ولم يبق معه من يأمن غوائله إلاّ خاصّةٌ من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام، وهم جماعة لا تقوم لأجناد الشام، فكتب إليه معاوية في الهدنة والصلح، وأنفذ إليه بكتب أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه إليه! واشترط له على نفسه في إجابته إلى صلحه شروطاً كثيرة، وعقد له عقوداً كان في الوفاء بها مصالح شاملة، فلم يثق به الحسن عليه السلام، وعلم احتياله بذلك واغتياله.
غير إنّه لم يجد بُدّاً من إجابته إلى ما التمس من ترك الحرب وإنفاذ الهدنة، لِما كان عليه أصحابه ممّا وصفناه، من ضعف البصائر في حقّه، والفساد عليه، والخُلف منهم له، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه وتسليمه إلى خصمه، وما كان في خذلان ابن عمّه له ومصيره إلى عدوّه، وميل الجمهور إلى العاجلة وزهدهم في الآجلة»(15).
وعلى أيّ حال، فقد قرّر الإمام عليه السلام أن يصالح معاوية بشروط، فبعث إليه معاوية برقّ أبيض مختوم بخاتمه في أسفله، وقال: اكتب ما شئت فيه وأنا ألتزمه(16).
قال الطبري: إنّ معاوية أرسل عبداللّه بن عامر وعبدالرحمن بن سمرة، فقدما المدائن وأعطيا الحسن ما أراد…(17).
أمّا الإمام عليه السلام، فقد أرسل أربعةً من أصحابه، وهم: عبداللّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب، وعمر بن أبي سلمة ـ وهو ابن أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين ـ ، وعمرو ابن سلمة الهمداني، ومحمّد بن الأشعث بن قيس.
ووقع الصلح في جمادى الأُولى سنة 41(18).
وكانت حكومة الإمام الحسن عليه السلام سبعة أشهر وأحد عشر يوماً(19).
ثمّ إنّ الإمام عليه السلام عاد إلى الكوفة، قالوا: فخطب الناس قبل دخول معاوية، فقال: «أيّها الناس! إنّما نحن أُمراؤكم وضيفانكم، ونحن أهل بيت نبيّكم الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» قالوا: فما زال يتكلّم حتّى ما ترى في المسجد إلاّ باكياً(20).
ثمّ وصل معاوية إلى الكوفة ومعه قصّاص أهل الشام وقرّاؤهم، واجتمع به الإمام عليه السلام في الكوفة(21).
وقد خطب معاوية أهل الكوفة، وأعلن فيها عن رفضه لمعاهدة الصلح، وأنّه ما حارب إلاّ للتأمّر والتسلّط على رقاب المسلمين، كما سيأتي في المقدّمة الرابعة.
وخطب الإمام عليه السلام، فكان ممّا قال: «لو ابتغيتم بين جابلق وجابرس رجلا جدّه نبيٌّ غيري وغير أخي لم تجدوه، وإنّا قد أعطينا معاوية بيعتنا، ورأَينا أنّ حقن الدماء خير، (وَإِنْ أَدْري لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حين) وأشار بيده إلى معاوية»(22).
هذا، وقد كان على مقدّمة معاوية ـ في دخوله الكوفة ـ خالد بن عرفطة، ويحمل رايته حبيب بن جماز..
روى الشريف الرضي رحمه اللّه: «عن أُمّ حكيم بنت عمرو، قالت: خرجت وأنا أشتهي أن أسمع كلام عليّ بن أبي طالب، فدنوت منه وفي الناس دقّة وهو يخطب على المنبر، حتّى سمعت كلامه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! استغفر لخالد بن عرفطة، فإنّه قد مات بأرض تيماء; فلم يردّ عليه، فقال الثانية، فلم يردّ عليه، ثمّ قال الثالثة، فالتفت إليه فقال: أيّها الناعي خالد بن عرفطة! كذبت، واللّه ما مات ولا يموت حتّى يدخل من هذا الباب يحمل راية ضلالة!
قالت: فرأيت خالد بن عرفطة يحمل راية معاوية حين نزوله النخيلة، وأدخلها من باب الفيل»(23)!!
وفي مقاتل الطالبيّين: «ودخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة، وبين يديه خالد بن عرفطة، ومعه رجل يقال له: حبيب بن جماز يحمل رايته، حتّى دخل الكوفة، فصار إلى المسجد، فدخل من باب الفيل، فاجتمع الناس إليه. فحدّثني أبو عبيد الصيرفي… عن عطاء بن السائب، عن أبيه، قال: بينما عليٌّ عليه السلام على المنبر إذ دخل رجل فقال: يا أمير المؤمنين! مات خالد بن عرفطة!
فقال: لا واللّه ما مات.
إذ دخل رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين! مات خالد بن عرفطة!
فقال: لا واللّه ما مات، ولا يموت حتّى يدخل من باب هذا المسجد ـ يعني باب الفيل ـ براية ضلالة، يحملها له حبيب ابن جماز!
قال: فوثب رجل فقال: يا أمير المؤمنين! أنا حبيب بن جماز، وأنا لك شيعة!
قال: فإنّه كما أقول!
فقدم خالد بن عرفطة على مقدّمة معاوية، يحمل رايته حبيب بن جماز!
قال مالك: حدّثنا الأعمش بهذا الحديث، فقال: حدّثني صاحب هذا الدار ـ وأشار بيده إلى دار السائب أبي عطاء ـ أنّه سمع عليّاً عليه السلام يقول هذه المقالة»(24)!
ورواه الخطيب البغدادي مبتوراً: «عن أُمّ حكيم بنت عمرو الجدلية، قالت: لمّا قدم معاوية ـ يعني الكوفة ـ فنزل النخيلة، دخل من باب الفيل، وخالد بن عرفطة يحمل راية معاوية حتّى ركزها في المسجد»(25).
وقال المفيد: «وهذا أيضاً خبر مستفيض لا يتناكره أهل العلم الرواة للآثار، وهو منتشر في أهل الكوفة، ظاهر في جماعتهم، لا يتناكره منهم اثنان، وهو من المعجز الذي بيّنّاه»(26).
قال في «إمتاع الأسماع»: «وأخذ خالد بن عرفطة مصاحف ابن مسعود، فأغلى الزيت وطرحها فيه… وقاتل مع معاوية، فلمّا كانت أيّام المختار بن أبي عبيد، أخذه فأغلى له زيتاً وطرحه فيه»(27)، ومات سنة 64.
والحجّة تامّة على ابن عرفطة في معاداته لعليّ عليه السلام وقتله الحسين عليه السلام، لأنّه اعترف بأنّه سمع النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يحذّرهم: «إنّكم ستبتلون في أهل بيتي من بعدي»(28)، كما اعترف ابن عرفطة بأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حذّره شخصياً من الفتنة وقتل أهل بيته صلّى اللّه عليه وآله وسلّم! قال: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: يا خالد! إنّها ستكون بعدي أحداث وفتن واختلاف، فإن استطعت أن تكون عبدَ اللّه المقتول لا القاتل فافعل»(29).
***

(1) مقاتل الطالبيّين: 61 ـ 62.
(2) فتح الباري 13 / 262، شرح صحيح مسلم ـ للنووي ـ 12 / 159 ح 1821، البداية والنهاية 6 / 186، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ : 12، عمدة القاري 24 / 281 ح 77.
(3) فتح الباري 13 / 266، عارضة الأحوذي 5 / 67 ح 2230، البداية والنهاية 6 / 187، تاريخ الخلفاء ـ للسيوطي ـ : 15.
(4) انظر: مقاتل الطالبيّين: 64 ـ 66، شرح نهج البلاغة 16 / 33 ـ 34.
(5) شرح نهج البلاغة 16 / 26.
(6) مقاتل الطالبيّين: 71 ـ 72، ونحوه في مناقب آل أبي طالب 4 / 37 ـ 38، شرح نهج البلاغة 16 / 42.
(7) الإرشاد 2 / 11 ـ 12.
(8) علل الشرائع 1 / 259 ب 160.
(9) مقاتل الطالبيّين: 74، شرح نهج البلاغة 16 / 43.
(10) مقاتل الطالبيّين: 79، شرح نهج البلاغة 16 / 48.
(11) أنساب الأشراف 3 / 284 ـ 285.
(12) تاريخ دمشق 10 / 311 رقم 923.
(13) شرح الأخبار ـ للمغربي ـ 2 / 96.
(14) تاريخ دمشق 65 / 147 رقم 8255، شرح نهج البلاغة 4 / 83 ـ 85.
(15) الإرشاد 2 / 12 ـ 14.
(16) انظر: الاستيعاب 1 / 385.
(17) تاريخ الطبري 3 / 165 حوادث سنة 40 هـ .
(18) أُسد العابة 1 / 491 ـ 492.
(19) المستدرك على الصحيحين 3 / 191 ذ ح 4808.
(20) تاريخ دمشق 13 / 269، أُسد الغابة 1 / 492، تاريخ الطبري 3 / 169 حوادث سنة 41، تفسير ابن كثير 3 / 468.
(21) أنساب الأشراف 3 / 287.
(22) تاريخ دمشق 13 / 276، أُسد الغابة 1 / 492.
(23) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 20 ـ 21.
(24) مقاتل الطالبيّين: 78 ـ 79، وانظر: مناقب آل أبي طالب 2 / 304 ـ 305، شرح نهج البلاغة 2 / 286 ـ 287.
(25) تاريخ بغداد 1 / 200 رقم 39.
(26) الإرشاد 1 / 330.
(27) إمتاع الأسماع 4 / 247.
(28) رواه الطبراني في المعجم الكبير 4 / 192 ح 4111، قال في مجمع الزوائد 9 / 194: «رواه الطبراني والبزّار، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير عمارة، وعمارة وثّقه ابن حبّان».
(29) مسند أحمد 5 / 292.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *