كلام ابن تيميّة في هذا المقام

كلام ابن تيميّة في هذا المقام:

وبعد الوقوف على كلام العلاّمة وشرحه، نتعرّض لما قاله ابن تيميّة، فإنّه بعد أن أورد كلام العلاّمة ذكر ما يتلخّص في نقاط:
الأولى: الإعتراض على العلاّمة في وصفه (إسحاق بن إبراهيم) بـ(الطائي)، مع أنّه (خزاعي).
الثانية: إنّ الفتيا المذكورة تحكى عن علي بن موسى الرضا مع المأمون، وهي إمّا كاذبة وإمّا جهل، لأنّ العدد المذكور فيها ليس مطابقاً للواقع.
الثالثة: الحكاية المذكورة عن تاريخ المسعودي كذب.
والجواب:
أمّا عن الأولى: فإنّه يبتني على وجود كلمة (الطّائي) في كتاب (منهاج الكرامة) لكن الكلمة في نسختنا (الظاهري) وفي تذكرة خواص الأُمّة (الطاهري) وقد ذكر في هامش (منهاج السنّة) أنّ في بعض نسخ (منهاج الكرامة) هو الإسم «اسحاق بن إبراهيم» فقط، فلا هذا ولا ذاك ولا الطّائي . . . فما الحامل لأن يتشبّث هذا الرجل بتلك الكلمة إلاّ العناد؟
وأمّا عن الثانية: فإنّ هذه الفتيا ـ سواء كانت من الإمام الهادي كما عرفت، أو الرضا كما يدّعي الرّجل، أو غيرهما من الأئمّة (عليهم السلام) كما تقدّم عن بعض الكتب ـ قد صدرت من «أهل البيت» الذين هم «أدرى بما في البيت» حكماً أو واقعةً، فيجب القبول والتسليم، كما حصل من فقهاء ذلك العصر، وحينئذ لا يسمع مكابرة فيه أو تشكيك من زيد أو عمرو!!
وقوله: «فإنّ النبي لم يغز سبعاً وعشرين غزاة باتّفاق أهل العلم بالسّير» كذب وباطل. قال الحافظ ابن سيّد الناس: «ذكر الخبر عن عدد مغازي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وبعوثه: روينا عن ابن سعد قال: أنا محمّد بن عمر بن واقد الأسلمي، ثنا عمر بن عثمان بن عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع المخزومي، وموسى بن محمّد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، ومحمّد بن عبد اللّه بن مسلم ابن أخي الزهري، وموسى بن يعقوب بن عبد اللّه بن وهب بن زمعة بن الأسود، وعبد اللّه بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري، ويحيى بن عبد اللّه بن أبي قتادة الأنصاري، وربيعة بن عثمان بن عبد اللّه بن الهدير التيمي، وإسماعيل بن إبراهيم بن أبي حبيشة الأشهلي، وعبد الحميد بن جعفر ا لحكمي، وعبد الرحمن بن أبي الزناد، ومحمّد بن صالح التمار.
قال ابن سعد: وأنا رويم بن يزيد المقرئ، ثنا هارون بن أبي عيسى، عن محمّد بن إسحاق.
قال: وأنا حسين بن محمّد، عن أبي معشر.
قال: وأنا إسماعيل بن عبد اللّه بن أبي أويس المدني، عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة، عن عمّه موسى بن عقبة، دخل حديث بعضهم في بعض.
قالوا: كان عدد مغازي رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم التي غزا بنفسه سبعاً وعشرين»(1).
وقال الحلبي: «باب ذكر مغازيه صلّى اللّه عليه وسلّم. ذكر أنّ مغازيه، أي: وهي التي غزا فيها بنفسه كانت سبعاً وعشرين» ثمّ عدّدها(2).
وقال القسطلاني: «فجمع سراياه وبعوثه نحو ستّين ومغازيه سبع وعشرون»(3).
هذا، ولا يخفى أنّ الإمام عليه السلام قال بعد ذلك: «وكلّما زاد أمير المؤمنين من فعل الخير كان أنفع له وآجر عليه في الدنيا والآخرة».
وأمّا عن الثالثة فوجوه:
1 ـ هذا الخبر رواه غير المسعودي من العلماء والمؤرّخين، ممّن لا يتّهمهم هذا الرجل.
2 ـ وفي (مروج الذهب) أكاذيب، كغيره من كتب التاريخ والحديث، حتى الموصوفة بالصحّة والمشهورة بالإعتماد، لكنّ هذا الخبر رواه غير المسعودي أيضاً، مضافاً إلى القرائن الدالّة على صحّته، وقد وجدت الأبيات في كتاب (عيون الأخبار) لابن قتيبة، المتوفى سنة 276، أي قبل المسعودي بعشرات السنين، قال: «بلغني أنّه قرئ على قبر بالشام»(4).
3 ـ وقد ترجم الأكابر المسعودي وأثنوا عليه:
ياقوت: «علي بن الحسين بن علي المسعودي المؤرّخ، أبو الحسن، من ولد عبد اللّه بن مسعود صاحب النبي . . . بغدادي الأصل . . . وله من الكتب: كتاب مروج الذهب ومعادن الجواهر . . .»(5).
الذهبي: «المسعودي، صاحب مروج الذهب وغيره من التواريخ . . . وكان أخبارياً صاحب ملح وغرائب وعجائب وفنون، وكان معتزلياً. أخذ عن أبي خليفة الجمحي ونفطويه وعدّة. مات في جمادى الآخرة سنة 345»(6).
وذكر في وفيات السنة المذكورة في (تذكرة الحفاظ) و(العبر) كذلك(7).
الكتبي: «المسعودي صاحب التاريخ . . . وكان أخبارياً علاّمةً صاحب غرائب وملح ونوادر . . . مات سنة 346»(8).
4 ـ بل كان الرجل فقيهاً مفتياً، عداده في فقهاء الشافعيّة، فقد أورده السبكي في (طبقاته) قائلاً: «علي بن الحسين بن علي المسعودي صاحب التواريخ: كتاب (مروج الذهب) في أخبار الدنيا. وكتاب . . . وكان أخبارياً مفتياً علاّمةً صاحب ملح وغرائب، سمع من . . . وقيل: انّه كان معتزلي العقيدة مات سنة 45 أو 346. وهو الذي علّق عن أبي العبّاس ابن سريج (رسالة البيان عن أُصول الأحكام) وهذه الرسالة عندي نحو 15 ورقة، ذكر المسعودي في أوّلها أنّه حضر مجلس أبي العبّاس ببغداد، في علّته التي مات بها سنة 306، وقد حضر المجلس لعيادة أبي العبّاس جماعة من حذّاق الشافعيين والمالكيين والكوفيين والداوديين وغيرهم من أصناف المخالفين، فبينما أبو العبّاس يكلّم رجلاً من المالكيين، إذ دخل عليه رجل معه كتاب مختوم، فدفعه إلى القاضي أبي العبّاس فقرأه على الجماعة، فإذا هو من جماعة الفقهاء المقيمين ببلاد الشاش يعلمونه أنّ الناس في ناحيتهم أرض الشاش وفرغانة مختلفون في أُصول فقهاء الأمصار ممّن لهم الكتب المصنّفة والفتيا، ويسألونه رسالةً يذكر فيها أُصول الشافعي ومالك وسفيان الثوري وأبي حنيفة وصاحبيه وداود بن علي الاصبهاني، وأن يكون ذلك بكلام واضح يفهمه العامي. فكتب القاضي هذه الرسالة، ثمّ أملى فيما ذكر المسعودي عليهم بعضها وعجز لضعفه عن إملاء الباقي، فقرئ عليه والمسعودي يسمع»(9).
5 ـ فهذه ترجمة المسعودي . . . وذكر كتابه (مروج الذهب) . . . على لسان هؤلاء الأكابر، وأنت لا تجد فيها مطعناً فيه ولا في كتابه . . . بل انّه فقيه شافعي، غلب عليه التاريخ وذكر أخبار الناس… .
ومع كلّ هذا . . . فقد أورده الحافظ ابن حجر في (لسان الميزان) لا لعيب فيه، وإنّما لاشتمال كتبه على فضائل لعلي وأهل البيت!! قال: «وكتبه طافحة بأنّه كان شيعيّاً معتزليّاً، حتى أنّه قال في حقّ ابن عمر أنّه امتنع من بيعة علي بن أبي طالب ثمّ بايع بعد ذلك يزيد بن معاوية والحجاج لعبد الملك بن مروان. وله من ذلك أشياء كثيرة. ومن كلامه في حقّ علي ما نصّه: الأشياء التي استحق بها الصحابة التفضيل: السبق إلى الإيمان، والهجرة مع النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، والنصر له، والقرابة منه، وبذل النفس دونه، والعلم، والقناعة، والجهاد، والورع، والزهد، والقضاء، والفتيا. وانّ لعلي من ذلك الحظ الأوفر والنصيب الأكبر، إلى ما ينضم إلى ذلك من خصائصه بآخرته، وبأنّه أحبّ الخلق، إلى غير ذلك»، انتهى(10).
أقول:
فلم يذكره بكذب ولا ضعف ولا تدليس . . . ونحو ذلك . . . بل غاية الأمر أن يكون من القائلين بتقدّم علي (عليه السلام) على الصّحابة، وهذا قول كثير من الصحابة والتابعين وسائر المسلمين.
6 ـ وبما ذكرنا ظهر الوجه والسّبب في تكلّم ابن تيميّة في كتاب (مروج الذهب) . . . فيظهر أنّ فيه وفي غيره من كتب المسعودي ما ليس على هوى هذا الرّجل . . . وقد عرفناه بالتسرّع في الطّعن في الشخص إذا أحسّ منه أقلَّ ميل إلى أهل البيت!!

(1) عيون الأثر في المغازي والسير 1 / 223.
(2) السيرة الحلبية 2 / 342.
(3) المواهب اللدنية 3 / 112.
(4) عيون الأخبار 4 / 303 كتاب الزهد.
(5) معجم الأُدباء 13 / 90.
(6) سير أعلام النبلاء 15 / 569.
(7) تذكرة الحفاظ 3 / 857، العبر 2 / 71.
(8) فوات الوفيات 3 / 12.
(9) طبقات الشافعية الكبرى 3 / 456.
(10) لسان الميزان 4 / 224.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *