التشكيك في الدّلالة

التشكيك في الدّلالة
فمن تافه القول ـ بعد هذا ـ قول من قال بأنّ الولاية هذه بمعنى النصرة والمحبّة… .
وأمّا استدلاله لما ذكره بانّ (مفعل) لا يأتي بمعنى (أفعل)… فجهل أو تجاهل… فقد نصَّ على مجيئه كذلك كبار الأئمّة في التفسير والحديث واللغة، وبه فسّر قوله تعالى: (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصيرُ)(1)وبعض الآيات… .
ومِمّن نصّ على ذلك: الفرّاء وأبو زيد وأبو عبيدة والأخفش وأبو العبّاس ثعَلب والمبرّد والزجّاج وابن الأنباري والرمّاني والجوهري والثعلبي والواحدي والزمخشري والنيسابوري والبيضاوي والنسفي وأبو السعود والشهاب الخفاجي…(2).
وإذ رأوا أنْ لا رواج لهذه الدعوى في سوق الاعتبار لم يجدوا بُدّاً من الاعتراف، لكن قال بعضهم: لا نسلّم أنْ يكون المراد «الأوْلى بالتصرّف» فليكن «الأوْلى بالمحبّة» وقال آخر: «الأوْلى بالاتّباع».
ولكنّه ـ كسابقه ـ دعوى فارغة، وحمل بلا شاهد. وعلى فرض التسليم فإنّ «الأوْلى بالاتّباع والمحبّة» على الإطلاق لا يكون إلاّ الإمام… .
وإذ رأى ثالث منهم برودة هذا التأويل وسخافته… اضطرّ إلى الإذعان بالحقّ، وأنّ المراد من الحديث هو «الأوْلى بالإمامة»… لكنّه «أوْلى بالإمامة» في حين إمامته، أي بعد الخلفاء الثلاثة، لا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مباشرة.
وهذا أيضاً باطل لوجوه:
1 ـ وجود كلمة «بعدي» في بعض ألفاظ الحديث، كما في تاريخ ابن كثير عن عبدالرزّاق، وفي بعض شواهده، كما في شعر حسّان بن ثابت.
2 ـ إنّ تقييد ولاية أمير المؤمنين عليه السلام بكونها بعد عثمان، يتوقّف على وجود النصّ على خلافة الثلاثة، فيجمع بينه وبين حديث الغدير على الوجه المذكور، لكنّ القوم أنفسهم يعترفون بعدم النصّ.
3 ـ إنّ لفظه «مَن» من ألفاظ العموم; فيكون الثلاثة داخلين تحت عموم الحديث.
4 ـ إنّ هذا التأويل ردّ صريح على الشيخين حيث هنّئا أميرَ المؤمنين وقالا له: «أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة».
5 ـ إنّهم يروون عن ابن مسعود أنّه قال: «كنت مع النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ليلة وفد الجنّ، فتنفّس، فقلت: مالك يا رسول اللّه؟
قال: نعيت إلَىَّ نفسي يا ابن مسعود.
قلت: استخلف.
قال: ومن؟
قلت: أبو بكر.
قال: فسكت.
ثم مضى ساعة ثم تنفس، قلت: ما شأنك بأبي واُمّي يا رسول اللّه؟
قال: نعيت إلَيَّ نفسي يا ابن مسعود.
قلت: استخلف.
قال: من؟
قلت: عمر.
فسكت.
ثم مضى ساعة ثم تنفس. قلت: ما شأنك؟
قال: نعيت إلَىَّ نفسي يا ابن مسعود.
قلت: فاستخلف.
قال: من؟
قلت: علِيّ.
قال: أما والذي نفسي بيده لئن أطاعوه ليدخلون الجنّة أكتعين»(3).
حتى إذا سقطت جميع تأويلاتهم ولا مناص من الاعتراف بدلالة الحديث على (الإمامة بعد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم) قال احد متأخّريهم.
ما الدليل على أن تكون هذه الإمامة بمعنى الحكومة والرئاسة؟ فليكن إماماً في الباطن، ويكون أبو بكر ومن بعده الأئمّة في الظاهر!
قال هذا… وكأنّه قد فوّض إليه أمر تقسيم الإمامة، فلهذا الإمامة الباطنية كما يقول الصوفيّة، ولاُولئك الإمامة الظاهريّة!!
وكأنّه جهل مجيء (المولى) بمعنى (الرئيس) و(المليك) و(المتصرّف في الأمر) ونحو ذلك ممّا هو ظاهر في الحكومة والرئاسة…(4).

(1) سورة الحديد، الآية 15.
(2) أنظر: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 8 / 15 ـ 88 .
(3) رواه جماعة منهم أحمد وأبو نعيم والشبلي والخوارزمي وعمر الملاّ وعبدالقادر الطبري… أنظر: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 9 / 274 ـ 279.
(4) نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 8 / 89 ـ 113.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *