الأمر الثالث

الأمر الثالث
كثير من رجال الأحاديث المرويّة في كتب أهل السنة، وكثير من مشاهير مؤلّفيهم، موصوفون عندهم بالتشيع، فيقولون بترجمته: «شيعي» أو «فيه تشيّع» أو «يتشيّع» ونحو ذلك، تجد ذلك في رجال الكتب المعروفة عندهم بالصّحاح، وخاصةً في كتابي البخاري ومسلم.
فقد ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفصل التّاسع من مقدمة كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري) وهو أشهر شروحه: «الفصل التاسع: في سياق أسماء من طعن فيه من رجال هذا الكتاب، مرتّباً لهم على حروف المعجم، والجواب عن الاعتراضات موضعاً موضعاً» فذكر أسمائهم وبحث عنهم من الصفحة 381 حتى قال في ص 459: «فصل: في تمييز أسباب الطعن في المذكورين» فأورد أسماء جماعة رموا بالتشيع ودافع عنهم، كإسماعيل بن أبان، وعبدالرزاق بن همام الصنعاني، وعدي بن ثابت الأنصاري، وأبي نعيم الفضل بن دكين، ومحمد بن فضيل بن غزوان… .
فما معنى التشيع؟
قال الحافظ ابن حجر: «والتشيع محبّة علي وتقديمه على الصحابة، فمن قدّمه على أبي بكر وعمر فهو غال في تشيّعه ويطلق عليه رافضي وإلاّ فشيعي، فإنْ انضاف الى ذلك السبُّ أو التصريح بالبغض فغال في الرفض، وإنْ اعتقد الرّجعة الى الدنيا فأشدّ في الغلو»(1).
والقائلون بتقديم أمير المؤمنين علي على أبي بكر وعمر ـ فضلاً عن عثمان ـ في الصحابة والتابعين كثيرون.
فمن الصّحابة مَن ذكرهم الحافظ ابن عبدالبر القرطبي في «الاستيعاب» حيث قال:
«وروي عن سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وخباب، وجابر، وأبي سعيد الخدري، وزيد بن الأرقم: أنّ علي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ أوّل من أسلم. وفضّله هؤلاء على غيره»(2).
ومن التابعين وأتباعهم ذكر ابن قتيبة جماعةً في كتابه المعارف حيث قال: «الشيعة: الحارث الأعور، وصعصعة بن صوحان، والأصبغ ابن نُباتة، وعطيّة العوفي، وطاووس، والأعمش، وأبو إسحاق السبيعي، وأبو صادق، وسلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، وسالم بن أبي الجعد، وإبراهيم النخعي، وحبّة بن جوين، وحبيب بن أبي ثابت، ومنصور بن المعتمر، وسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وفطر بن خليفة، والحسن بن صالح بن حي، وشريك، وأبو إسرائيل الملائي، ومحمد بن فضيل، ووكيع، وحميد الرواسي، وزيد بن الحباب، والفضل بن دكين، والمسعود الأصغر، وعبيداللّه بن موسى، وجرير بن عبدالحميد، وعبداللّه بن داود، وهشيم، وسليمان التيمي، وعوف الأعرابي، وجعفر الضبيعي، ويحيى بن سعيد القطّان، وابن لهيعة، وهشام بن عمّار، والمغيرة صاحب ابراهيم، ومعروف بن خربوذ، وعبدالرزاق، ومعمر، وعلي بن الجعد»(3).
ومن العلماء والمحدّثين في القرون اللاّحقة من الشيعة من لا يحصي عددهم إلاّ اللّه…
وقد اضطرب القوم واختلف موقفهم تجاه هؤلاء الرواة من الصحابة والتابعين وتابعيهم… ولننقل عبارة الحافظ ابن حجر فإنه قال:
«فقد اختلف أهل السنة في قبول حديث مَنْ هذا سبيله، إذا كان معروفاً بالتحرّز من الكذب، مشهوراً بالسلامة من خوارم المروءة، موصوفاً بالديانة والعبادة. فقيل: يُقبل مطلقاً، وقيل: يُردّ مطلقاً، والثالث التفصيل بين أنْ يكون داعيةً لبدعته أو غير داعية، فيقبل غير الداعية ويردّ حديث الداعية. وهذا المذهب هو الأعدل، وصارت إليه طوائف من الأئمة، وادّعى ابن حبّان إجماع أهل النقل عليه، لكن في دعوى ذلك نظر.
ثم اختلف القائلون بهذا التفصيل، فبعضهم أطلق ذلك، وبعضهم زاده تفصيلاً فقال: إنْ اشتملت رواية غير الداعية على ما يشيد بدعته ويزيّنه ويحسّنه ظاهراً فلا تقبل، وإنْ لم تشتمل فتقبل، وطرد بعضهم هذاالتفصيل بعينه في عكسه في حق الداعية فقال: إنْ اشتملت روايته على ما يردّ بدعته قبل وإلاّ فلا. وعلى هذا إذا اشتملت رواية المبتدع سواءكان داعيةً أم لم يكن على ما لا تعلّق له ببدعته أصلاً هل تردّ مطلقاً أو تقبل مطلقاً؟
مال أبو الفتح القشيري إلى تفصيل آخر فيه فقال: إنْ وافقه غيره فلايلتفت إليه هو إخماداً لبدعته وإطفاءً لناره، وإنْ لم يوافقه أحد ولم يوجد ذلك الحديث إلاّ عنده ـ مع ما وصفنا من صدقه وتحرّزه عن الكذب واشتهاره بالدين وعدم تعلّق ذلك الحديث ببدعته ـ فينبغي أن تقدم مصلحة تحصيل ذلك الحديث ونشر تلك السنّة على مصلحة إهانته وإطفاء بدعته واللّه أعلم»(4).
أقول:
فالتشيع لا يضر بالوثاقة ولا يمنع من الإعتماد، وهذا ما نصَّ عليه الحافظ ابن حجر في غيرموضع، ففي كلامه حول «خالد بن مخلّد القطواني الكوفي» قال:
«خ م ت س ق ـ خالد بن مخلَّد القطواني الكوفي أبو الهيثم، من كبار شيوخ البخاري، روى عنه وروى عن واحد عنه، قال العجلي: ثقة وفيه تشيّع. وقال ابن سعد: كان متشيّعاً مفرطاً. وقال صالح جزرة: ثقة إلاّ أنّه يتشيّع. وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به.
قلت: أمّا التشيّع فقد قدّمنا أنه ـ إذا كان ثبت الأخذ والأداء ـ لا يضرّه، سيّما ولم يكن داعية إلى رأيه»(5).
بل الرّفض غير مضر… قال الحافظ ابن حجر:
«خ ت ق ـ عبّاد بن يعقوب الرواجني الكوفي أبو سعيد، رافضي مشهور، إلاّ أنه كان صدوقاً، وثّقه أبو حاتم، وقال الحاكم: كان ابن خزيمة إذا حدّث عنه يقول: حدّثنا الثقة في روايته المتّهم في رأيه عبّاد بن يعقوب، وقال ابن حبان: كان رافضيّاً داعية، وقال صالح بن محمد، كان يشتم عثمان رضي اللّه عنه.
قلت: روى عنه البخاري في كتاب التوحيد حديثاً واحداً مقروناً وهو حديث ابن مسعود: أيّ العمل أفضل؟. وله عند البخاري طريق أخرى من رواية غيره»(6).
وقال الحافظ الذهبي في «أبان بن تغلب».
«أبان بن تغلب ]م، عو[ الكوفي شيعي جلد، لكنّه صدوق فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثّقه أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم، وأورده ابن عدي وقال: كان غالياً في التشيّع. وقال السعدي: زائغ مجاهر.
فلقائل أن يقول: كيف ساغ توثيق مبتدع، وحدّ الثقة العدالة والإتقان؟
فكيف يكون عدلاً مَن هو صاحب بدعة؟
وجوابه: إن البدعة على ضربين، فبدعة صغرى كغلوّ التشيّع أو كالتشيّع بلا غلو ولا تحرّف، فهذا كثير في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصّدق. فلو ردّ حديث هؤلاء لذهب جملة من الآثار النبوية، وهذه مفسدة بيّنة…»(7).
لكنّ بعض المتعصّبين منهم يقدحون في الرجل إذا كان شيعيّاً ويكرهون الرواية عنه، ويعبّرون عنه بعبارات شنيعة، بل حتى وإنْ كان من الصّحابة، مع أنّ المشهور بينهم ـ بل ادعي عليه الإجماع ـ عدالة الصحابة أجمعين، وإليك نموذجاً من ذلك:
قال الحافظ ابن حجر: «ع ـ عامر بن واثلة أبو الطفيل الليثي المكي، أثبت مسلم وغيره له الصحبة ـ وقال أبو علي ابن السكن: روي عنه رؤيته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من وجوه ثابتة، ولم يرو عنه من وجه ثابت سماعه.
وروى البخاري في التاريخ الأوسط عنه أنه قال: أدركت ثمان سنين من حياة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم. وقال ابن عدي: له صحبة، وكان الخوارج يرمونه بإتّصاله بعلي وقوله بفضله وفضل أهل بيته، وليس بحديثه بأس.
وقال ابن المديني: قلت لجرير: أكان مغيرة يكره الرواية عن أبي الطفيل؟ قال: نعم.
وقال: صالح بن أحمد بن حنبل عن أبيه: مكي ثقة.
وكذا قال ابن سعد وزاد: كان متشيّعاً. قلت: أساء أبو محمد بن حزم فضعّف أحاديث أبي الطفيل وقال: كان صاحب راية المختار الكذّاب.
وأبو الطفيل صحابي لا شكّ فيه، ولا يؤثّر فيه قول أحد ولا سيّما بالعصبيّة والهوى. ولم أر له في صحيح البخاري سوى موضع واحد في العلم، رواه عن علي، وعنه معروف بن خربوذ. وروى له الباقون»(8).

(1) مقدمة فتح الباري: 460.
(2) الاستيعاب في معرفة الأصحاب 3 / 1090.
(3) المعارف: 341.
(4) مقدمة فتح الباري: 382.
(5) مقدمة فتح الباري: 398.
(6) المصدر: 410.
(7) ميزان الاعتدال 1 / 5.
(8) مقدمة فتح الباري: 410.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *