أن يرجعا قبل الحكم

الصورة الاولى: أن يرجعا عن الشهادة قبل الحكم
قال المحقق في هذه الصورة: «لم يحكم»، أي: سواء كان عقوبة أو مالاً أو حقاً ، قال في (الجواهر): ولو بعد الإقامة، ولا غرم(1).
قلت: أما قوله: «ولو بعد الإقامة» فلم يتضح المراد منه، إلا أن يحمل على شاهد الفرع، لكنه كما ترى.
وأما قوله: «ولا غرم» فكذلك، لوضوح عدم الغرم مع عدم الحكم، وكأنه قاله تبعاً لما في مرسل جميل الآتي من قوله عليه السلام: «وإن لم يكن قضى طرحت شهادتهم ولم يغرم الشهود شيئاً»(2)، ولعلّه للإشارة إلى أن المقام ليس كبعض الموارد التي يثبت فيها الغرم وإن لم يثبت الحدّ، كالتفكيك بين الغرم والقطع في بعض أحوال الشهادة على السرقة.
وكيف كان، ففي (الجواهر): بلا خلاف أجده فيما بيننا، كما اعترف به غير واحد(3)، لكن الاتفاق في كشف اللثام ليس على ذلك، بل هو في خصوص العقوبة كما ستعرف.
والدليل على عدم الحكم في هذه الصورة هو الأصل بعد انصراف أدلة القضاء عن مثلها، وقد روى جميل عن أحدهما صلّى الله عليه وآله وسلّم في المرسل الذي هو كالصحيح كما في (الجواهر) سيما بعد اعتضاده بالشهرة(4)، وأمّا في (المسالك) وصفه بالحسنة قال: «في الشهود إذا شهدوا على رجل ثم رجعوا عن شهادتهم وقد قضي على الرجل: ضمنوا ما شهدوا به وغرموه، وإن لم يكن قضي طرحت بشهادتهم ولم يغرم الشهود شيئاً»(5).
وأضاف في (الجواهر) أنه لا ترجيح لتقديم قولهم الأول على الثاني(6). وأما الخبران:
1 ـ السكوني عن الصادق عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إن شهد عندنا بشهادة ثم غيرها أخذنا بالاولى وأطرحنا الاخرى»(7).
2 ـ هشام بن سالم عن الصادق عليه السلام: «كان أمير المؤمنين عليه السلام لا يأخذ بأوّل الكلام دون آخره»(8).
فليسا ظاهرين في الرجوع، لا سيما الأوّل المشتمل على التغيير وهو غير الرجوع، وإن احتمل عمومه له، على أن إعراض الأصحاب عنهما موجب لوهنهما، فلا يعارضان مرسل جميل الذي هو كالصحيح، ولو فرض التعارض وتساقط الطرفين، كفى عدم الدليل على الحكم، لانصراف أدلّة الشهادة والحكم عن هذه الشهادة، وأما تنزيلهما على ما بعد الحكم والاستيفاء، فينافيه لفظ «أخذنا» و «يأخذ» فيهما الظاهر في الحكم.
ثم إن اعترف الشهود بأنهم تعمدوا الكذب في الشهادة الاولى فهم فسقة، وإن قالوا: غلطنا أو أخطأنا فلا فسق، ووجه القبول منهم حينئذ هو أن صاحب القول كصاحب اليد يسمع قوله.
وهل تقبل منهم تلك الشهادة لو أعادوها؟
نسب في (الجواهر) إلى (القواعد) و (المسالك): عدم القبول. قال: ولعلّه لحسن محمد بن قيس عن الباقر عليه السلام: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق وليس الذي قطعت يده، إنما شبهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية ولم يجز شهادتهما على الآخر»(9)(10).
إلا أنّ الأقوى مع ذلك هو القبول إذا كانا معروفين بالعدالة والضبط، تبعاً لكشف اللثام(11) والجواهر(12)، للعمومات التي يقصر الخبر المزبور عن تخصيصها، وخلافاً لصريح (المسالك) حيث قال: لكن لا تقبل تلك الشهادة لو أعادوها(13).
وأما نسبة (الجواهر) العدم إلى (القواعد) ففيها: أنا لم نجد ذلك فيه، فقد قال العلامة رحمه الله: «الفصل السابع في الرجوع ومطالبه ثلاثة: الأول في الرجوع في العقوبات: إذا رجع الشاهد في العقوبة قبل القضاء منع من القضاء قال كاشف اللثام: إتفاقاً للشبهة(14) ولو كانوا قد شهدوا بالزنا حدوا للقذف، وإن قالوا: غلطنا، فالأقرب سقوط الحدّ، ولو لم يصرح بالرجوع بل قال للحاكم: توقف عن الحكم، ثم قال له: أُحكم، فالأقرب جواز الحكم ما لم يحصل للحاكم ريبة، وهل يجب الإعادة؟ إشكال»(15).
قال كاشف اللثام: من حصول الأداء الصحيح من أهله، والأصل، وقد زال التوقف بعد طروه، ومن إبطال التوقف له، لأنه تشكيك في الشهادة، وهو خيرة (التحرير)(16). وهو ممنوع، فإن صريح قوله: إنما هو التوقف في الحكم لا الشهادة، وبعد التسليم فقوله بعده أحكم بمنزلة الإعادة(17).
قلت: والإنصاف إن ما ذكره مشكل.
ولو كان المشهود به الزنا أو نحوه واعترفوا بالتعمد، حدّوا للقذف، وإن قالوا: غلطنا ففي (القواعد): الأقرب سقوط الحدّ(18)، وتبعه كاشف اللثام وصاحب (الجواهر)(19)، وعن (المبسوط) و (الجواهر) يحدّان أيضاً(20)، وفي (المسالك ): وجهان، أحدهما: المنع، لأن الغالط معذور، وأظهرهما الوجوب ، لما فيه من التعيير وكان من حقهم التثبت والاحتياط، وعلى هذا تردّ شهادتهم، ولو قلنا لا حدّ فلا رد(21). قال كاشف اللثام: ويؤيده مرسل ابن محبوب عن الصادق عليه السلام وهو خيرة (التحرير)(22).
أقول: وهذا نص المرسل: «في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا ثم رجع أحدهم بعد ما قتل الرجل. فقال: إن قال الراجع: أوهمت، ضرب الحدّ وأغرم الدية، وإن قال: تعمدت قتل»(23).
وأجاب عنه في (الجواهر) بقوله: لكن فيه إن تكليف الغافل قبيح، فلا ريب في المعذورية، كما لا ريب في سقوط الحدّ معها، ضرورة أولويّتها من الشبهة التي يدرأ بها، ولذااختار في كشف اللثام السقوط لها(24).
وأما قول (المسالك): وعلى هذا تردّ شهادتهم ولو قلنا لا حدّ فلا ردّ فغير واضح كما في (الجواهر) أيضاً، ولعلّه يريد التلازم بين الحدّ والردّ، ولكنه لا يناسب كلامه المتقدم عليه(25).
وأما الخبر، فهو مرسل غير منجبر، على أن معناه غير واضح كذلك، لأنه إن كان مخطئاً أو شبه عامد فعليه الدية، وإن كان متعمداً فيقتل بالمقتول، لأن السبب أقوى، فلماذا الحد؟(26).
هذا كلّه في الصورة الاولى.

(1) جواهر الكلام 41 : 220.
(2) وسائل الشيعة 27 : 326/1 . كتاب الشهادات ، الباب 10.
(3) جواهر الكلام 41 : 220.
(4) جواهر الكلام 41 : 220.
(5) مسالك الأفهام 14 : 299.
(6) جواهر الكلام 41 : 220.
(7) وسائل الشيعة 27 : 328/4 . كتاب الشهادات ، الباب 11 . بتفاوت يسير.
(8) وسائل الشيعة 27 : 216/3 . أبواب آداب القاضي ، الباب 4.
(9) وسائل الشيعة 27 : 332/1 . كتاب الشهادات ، الباب 14.
(10) جواهر الكلام 41 : 220 ، مسالك الأفهام 14 : 297 ، قواعد الأحكام 3 : 510.
(11) كشف اللثام 10 : 378.
(12) جواهر الكلام 41 : 221.
(13) مسالك الأفهام 14 : 297.
(14) كشف اللثام 10 : 373.
(15) قواعد الأحكام 3 : 508.
(16) تحرير الأحكام 5 : 285.
(17) كشف اللثام 10 : 373.
(18) قواعد الأحكام 3 : 508.
(19) كشف اللثام 10 : 373 ، جواهر الكلام 41 : 221.
(20) المبسوط في فقه الإماميّة 8 : 10 ، جواهر الفقه : 226 ، مسألة 782 . وعنهما كشف اللثام 10 : 373 .
(21) مسالك الأفهام 14 : 297.
(22) كشف اللثام 10 : 373 ، تحرير الأحكام 5 : 285.
(23) وسائل الشيعة 27 : 328/1 . كتاب الشهادات ، الباب 12.
(24) جواهر الكلام 41 : 221.
(25) أقول: وجه الاشكال في هذه العبارة هو: إنه رحمه الله قال في أصل الرجوع عن الشهادة بأنهم إن اعترفوا بتعمد الكذب فهم فسقة يستبرؤن، فإن قالوا: غلطنا لم يفسقوا، لكن لا تقبل تلك الشهادة منهم لو أعادوها . فالقول بعدم قبول شهادتهم مع عدم الفسق لا يجتمع مع القول بالقبول مع عدم الردّ في الشهادة بالزنا إن قالوا غلطنا.
ويمكن الجواب عن ذلك بأنه قال بعدم القبول مع عدم الفسق لو أعادوا نفس تلك الشهادة، وذلك لأن اختلاف شهادتهم فيها توجب الشك ولزوم الاحتياط، لا سيما مع النظر إلى خبر ابن محبوب. أما في الفرع المتعلق بالشهادة بالزنا فمورد النظر هو الشهادة منهم في ما بعد، فهو يقول بأن أظهر الوجهين وجوب الحد ، ومن حد ترد شهادته فيما بعد. وعلى الوجه الأوّل وهو عدم الحد فلا ترد، إذ لا نص ولا موجب لعدم القبول، لعدم وقوع الاختلاف منهم في الشهادة الواحدة. ولعلّ ما ذكرناه هو الوجه في تأمل الجواهر.
(26) أقول: الحدّ حدّ القذف، والدية دية المقتول. أما الدية فثابتة لئلا يطل دم امرئ مسلم، وأما الحدّ، فالمفروض أنه قال أوهمت فالمشهور عدم الحد، وعن المبسوط وبعض الأصحاب: يحدان أيضاً، فمعنى الخبر واضح، ولذا ذكروه مؤيداً للقول المخالف للمشهور، فينحصر الجواب عنه بعدم تمامية سنده بالإرسال وإعراض المشهور عنه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *