بحث الحاكم عن عدالة الشاهدين

بحث الحاكم عن عدالة الشاهدين:
أقول: إذا طرح المدّعي دعواه وطالبه الحاكم بإقامة البينة، فإن عرف الحاكم عدالة الشاهدين حكم ولا حاجة إلى التزكية، وإن عرف فسقهما أطرح الدعوى، لما تقدّم من أن للحاكم أن يحكم بعلمه، وإن جهل حال الشاهدين بحث عنهما بنفسه ـ إذا لم يوجد هناك شاهدان عادلان يزكيّانهما ـ فعن تفسير الإمام العسكري عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهما السلام قال:
« كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي: ألك حجة؟ فإن أقام بينة يرضاها ويعرفها ، أنفذ الحكم على المدّعى عليه ، وإن لم يكن له بينة ، حلف المدّعى عليه بالله ما لهذا قبله ذلك الذي ادّعاه ولا شيء منه . وإذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شرّ قال للشهود: أين قبائلكما ؟ فيصفان ، أين سوقكما، فيصفان، أين منزلكما ؟ فيصفان، ثم يقيم الخصوم والشهود بين يديه، ثم يأمر فيكتب أسامي المدعي والمدّعى عليه والشهود، ويصف ما شهدوا به، ثم يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثم مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه، ثم يقول: ليذهب كلّ واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما وأسواقهما ومحالهما والربض الذي ينزلانه، فيسأل عنهما، فيذهبان ويسألان.
فإن أتوا خيراً وذكروا فضلاً رجعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأخبراه، أحضر القوم الذي أثنوا عليهما وأحضر الشهود، فقال للقوم المثنين عليهما: هذا فلان ابن فلان، وهذا فلان ابن فلان، أتعرفونهما ؟ فيقولون: نعم، فيقول: إن فلاناً وفلاناً جاءني عنكم فيما بيننا بجميل وذكر صالح أنكما قالا، فإن قالوا: نعم، قضى حينئذ بشهادتهما على المدّعى عليه.
فإن رجعا بخبر سيّئ وثناء قبيح دعا بهم، فيقول: أتعرفون فلاناً وفلاناً ؟ فيقولون: نعم. فيقول: اقعدوا حتى يحضرا، فيقعدون، فيحضرهما فيقول للقوم: أهما هما ؟ فيقولون: نعم، فإذا ثبت عنده ذلك، لم يهتك سرّ الشاهدين ولا عابهما ولا وبّخهما، ولكن يدعو الخصوم إلى الصلح، فلا يزال بهم حتى يصطلحوا لئلاّ يفتضح الشهود ويستر عليهم، وكان رؤوفا رحيماً عطوفاً على اُمته.
فإن كان الشهود من أخلاط الناس، غرباء لا يعرفون، ولا قبيلة لهما ولا سوق ولا دار، أقبل على المدّعى عليه فقال: ما تقول فيهما ؟ فإن قال: ما عرفنا إلاّ خيراً ، غير أنهما قد غلطا فيما شهدا علي، أنفذ شهادتهما، وإن جرحهما وطعن عليهما ، أصلح بين الخصم وخصمه، وأحلف المدّعى عليه، وقطع الخصومة بينهما »(1).
قال: « وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما… وقال في الخلاف: يحكم، وبه رواية شاذة ».
أقول: لو جهل الحاكم إسلام الشاهدين أو عدالتهما ، من جهة الشك في إسلامهما، فلا خلاف في وجوب التوقف عن الحكم والتفحّص عن حالهما، وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما عند المشهور، لأن الواجب على الحاكم أن يحكم بالحق عند التخاصم إليه، ومن شرائط الحكم بالحق عدالة الشاهدين في مورد قيام البيّنة، فمع الجهل بها لا يكون الحكم بالحق.
ومذهب المشهور أن العدالة أمر زائد على الإسلام بل الإيمان أيضاً، واستدلّوا لذلك بقوله تعالى: ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْل مِّنكُمْ )(2) فإنه ظاهر في أن العدالة وصف زائد على الإسلام، إذ لو كان الإسلام كافياً لما قيّد بالعدالة مع وجود كلمة « منكم »، وهذه الآية المباركة تقيّد الآية الأخرى: (وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ )(3) بالمنطوق أو بمفهوم الوصف، والظاهر من الآية ـ لكونها في مورد الشهادة ـ بيان الحكم الوضعي ، أي: إن شرط قبول الحكم موقوف على كون البيّنة عادلة.
وعن الشيخ في ( الخلاف ) والمفيد وابن الجنيد(4): عدم وجوب الفحص عن عدالة الشاهدين مع العلم بإسلامهما، قالوا: والآيتان تدلاّن على قبول شهادة المسلم، والتقييد المذكور غير تام، لعدم حجية مفهوم الوصف، وقال تعالى: ( إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأ فَتَبَيَّنُوا … )(5) وهو ظاهر في أن وجوب التبيّن مشروط بالعلم بالفسق، فمع الشك في كونه فاسقاً لا وجوب للفحص والتبين.
أقول: إنا لو سلّمنا ما ذكروا بالنسبة إلى الآيتين، فإن هذه الآية الثالثة الدالّة على عدم قبول قول الفاسق تقيّدهما، فيكون الحاصل: استشهدوا شهيدين غير فاسقين من رجالكم، فإن أرادوا التمسّك بإطلاق الآيتين ، كان من التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة. وحيث أن الدليل الدالّ على اشتراط العدالة لا يوضّح معنى العدالة، كان للقائل بعدم وجوب الفحص والتحقيق عن حال الشاهدين المسلمين ، أن يقول بأن الإسلام عدالة، لكنّا نقول: لا إشكال في أن أحكام الإسلام مبنيّة على العدالة، وأن من كان مسلماً واقعاً كان عادلاً، لأنه يأتي بجميع الأحكام ويطيعها فعلاً وتركاً، فإن أرادوا من قولهم: « الإسلام عدالة » هذا المعنى، فهو صحيح، وإن أرادوا من « الإسلام » مجرّد التفوّه بالشهادتين، فإن أثر التفوّه بالشهادتين ـ كما في الروايات ـ هو أن له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، وهذا أمر تعبدي لا يفيد العدالة كما هو واضح.
نعم، قيل: إن الأصل في المسلم أن يكون عادلاً، لأن الإعتقاد إن كان كاملاً جاء العمل بالأحكام قهراً، فلا يعصي هذا المسلم ربّه إلاّ نادراً، وحينئذ، فمع الشك في عدالة مسلم أخذ بالأصل المذكور وحكم بعدالته، من باب أن الظن يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب، وهذا الأصل يبتني على القول بأن الإسلام غير العدالة، وأن العدالة ملكة، أو أنها فعل الواجبات وترك المحرّمات، أو كفاية حسن الظاهر.
ولكن الحقّ أنه مع وجود الدّواعي الكثيرة المختلفة إلى المعصية، لا غلبة حتى يلحق بها، بل قد يكون الأصل والغالب في بعض الأزمنة هو الفساد، وبه رواية(6)، وكذلك زماننا.
قال في ( المسالك ) بالنسبة إلى مذهب الشيخ قدّس سرّه: إن هذا القول وإن كان أمتن دليلاً.. لكنّ المشهور الآن بل المذهب خلافه…(7).
أقول: ومراد المحقّق من وصف الرواية بالشذوذ هو إعراض الأصحاب عمّا يدلّ على ذلك ، وإن كانت عليه روايات عديدة(8)، حتى أن الشيخ نفسه لم يعمل بها في مواضع أُخر، بل إن التفحّص عن الشهادة كان معمولاً به في زمن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كما دلّت على ذلك الرواية المذكورة سابقاً، وهي وإن كانت ضعيفة سنداً(9) لكن عليها العمل.
وقال السيد في ( العروة ): « لو جهل الحاكم حالهما وجب عليه أن يبيّن للمدّعي أن له تزكيتهما بالشهود إذا كان جاهلاً بذلك ثم يطلبها منه، ولو قال: لا طريق لي إلى ذلك أو قال: يعسر علي أو قال: لا أفعل، وطلب من الحاكم الفحص عن ذلك، هل يجب عليه أو لا ؟ قد يقال بوجوبه … والأقوى عدم وجوبه عليه، لمنع كون الحكم مطلقاً، وإلا لزم على الحاكم الفحص عن وجود الشاهد وعدمه أيضاً، مع أنه ليس كذلك قطعاً(10).
أقول: ليس المراد من قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: « إنما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان » ترك النظر في الدعوى، إذا لم يكن للمدّعي بينة عادلة على دعواه، بل المعنى أنه حينئذ يقضي باليمين، نظير الصّلاة، حيث تجب الصّلاة مع الوضوء في حال وجدان الماء ، وإلاّ وجبت مع التيمم بعد الفحص واليأس عنه في الحدود المعينة لذلك شرعاً، غير أن الشارع لم يحدّد وجود البيّنة بل أحال الأمر إلى العرف، وأهل العرف يفحصون عن حال الشاهدين في بلدهما وعشيرتهما، بل روي ذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أيضاً، فحاصل معنى الحديث : أنه إن كان هناك ـ مع الجهل بحال الشاهدين ـ طريق متعارف إلى معرفة حالهما، فالفحص عن ذلك لازم، وإلاّ فيكون الحكم بالأيمان… وهذا تقريب آخر لمذهب المشهور، بل يجب على الحاكم الإرسال خلف الشاهدين ـ لو امتنع المدّعي عن إحضارهما ـ إن أمكنه ذلك، لأن الحكم واجب عليه، فيجب عليه تحصيل مقدماته بحسب الإمكان والمتعارف… فالحقّ مع المشهور.

(1) وسائل الشيعة 27 : 239/6 . أبواب كيفية الحكم ، الباب 6 ، عن تفسير الإمام العسكري : 284.
(2) سورة الطلاق 65 : 2.
(3) سورة البقرة 2 : 282.
(4) كتاب الخلاف 6 : 217 / المسألة 10 ، حكاه عنه العلاّمة في المختلف 8 : 499 ، الإشراف ( مصنفات الشيخ المفيد 9 : 25 ).
(5) سورة الحجرات 49 : 6.
(6) في سفينة البحار 5 : 394 : الدرّة الباهرة: قال أبو الحسن الثالث عليه السلام: إذا كان زمان العدل فيه أغلب من الجور فحرام أن تظن بأحد سوء حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً حتى يبدو ذلك منه.
نهج ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه خزية فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله فأحسن رجل الظن برجل فقد غرّر.
(7) مسالك الأفهام 13 : 403.
(8) قد أخرج قسم منها في أبواب الشهادات من وسائل الشيعة ومنها: ما عن علقمة قال « قال الصّادق عليه السلام ـ وقد قلت له: يا ابن رسول الله، أخبرني عمّن تقبل شهادته ومن لا تقبل ـ فقال: يا علقمة، كلّ من كان على فطرة الإسلام جازت شهادته. قال فقلت له:
تقبل شهادة مقترف الذنوب ؟ فقال: يا علقمة، لو لم تقبل شهادة المقترفين للذنوب لما قبلت إلاّ شهادة الأنبياء والأوصياء عليهم السلام، لأنهم المعصومون دون سائر الخلق، فمن لم تره بعينك يرتكب ذنباً أو لم يشهد عليه بذلك شاهدان فهو من أهل العدالة والستر وشهادته مقبولة وإن كان في نفسه مذنباً، ومن اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية الله داخل في ولاية الشيطان » وسائل الشيعة 27 : 395/13. كتاب الشهادات ، الباب 41.
ومنها: ما عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام « في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا فعدل منهم اثنان ولم يعدل الآخران.
فقال: إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزّور أجيزت شهادتهم جميعاً، وأقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه، إنما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا وعلموا، وعلى الوالي أن يجيز شهادتهم إلاّ أن يكونوا معروفين بالفسق » وسائل الشيعة 27 : 397/18 . كتاب الشهادات ، الباب 41.
ومنها: مرسلة يونس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: « سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحلّ للقاضي أن يقضي بقول البينة ؟ فقال: خمسة أشياء يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات والمناكح والذبائح والشهادات والأنساب. فإذا كان ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه » وسائل الشيعة 27 : 392/18. كتاب الشهادات ، الباب 41. وقد ذكر هذا الخبر في الكتاب وبحث عن لفظه ومعناه.
ومنها: ما عن عبد الله بن المغيرة قال قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: رجل طلق امرأته وأشهد شاهدين ناصبيين. قال: كلّ من ولد على الفطرة وعرف بالصّلاح في نفسه جازت شهادته « وسائل الشيعة 27 : 398/18 . كتاب الشهادات ، الباب 41.
وقد أطال في الجواهر البحث عن هذه الأخبار ودلالتها ووجوه الجواب عن الاستدلال بها، في صلاة الجماعة من كتاب الصلاة ، لمزيد من الإطلاع انظر جواهر الكلام 13 : 281.
(9) لأنها من أخبار التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري عليه السلام، وفي ثبوت هذا التفسير له عليه السلام بحث بين علمائنا وكلام طويل مذكور في كتب الحديث .
(10) العروة الوثقى 3 : 71 / المسألة 8.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *