متى يجوز النقض ؟

متى يجوز النقض ؟
وكيف كان، فمع جواز النظر يجوز نقض الحكم بالدليل الإجتهادي المعتبر، ولا يختص جواز النقض بصورة مخالفة الحاكم الأوّل للإجماع أو الدليل المعتبر كالخبر المتواتر. وبعبارة أخرى: إن كان الحكم الأوّل طبق الموازين الشرعيّة فلا يجوز نقضه ، سواء بالقطع النظري أو غيره من الأدلّة المعتبرة أو الظن الإجتهادي، وأما إذا كان الحاكم الأوّل مقصّراً في اجتهاده ، أو قد حكم غافلاً عن دليل معتبر في المسألة فأخطأ على أثر ذلك في الحكم ، جاز نقض الثاني حكمه ، سواء كان عن قطع أو غيره.
والأوضح أن يقال: إن أمكن للحاكم الثاني أن يعذر الأوّل في حكمه ـ وإن كان مخالفاً له في الرأي ـ فلا يجوز نقضه، وإن لم يمكنه ذلك نقضه بلا إشكال، بل إن هذا ليس نقضاً في الحقيقة ، وإنما يكون تنبيهاً على الخطأ في الحكم.
ولا فرق في هذا بين العقود والإيقاعات وغيرها، حتى الأحكام الوضعيّة كالطهارة والنجاسة ونحوهما ، ولا بين حق الله سبحانه وحق الناس.
وأما دعوى الإجماع من بعضهم على عدم جواز نقض الحكم الناشيء عن اجتهاد صحيح باجتهاد كذلك، وإنما يجوز نقضه بالقطعي من إجماع أو سنّة متواترة أو نحوهما، فمندفعة أولاً: بأنه إجماع منقول، وثانياً: بأن المفروض بطلان ذاك الإجتهاد عنده بعد تبدّل رأيه أو عند الحاكم الثاني، فلا يكون حجة حينئذ ولا يصدق عليه النقض، لعدم وجوب تنفيذه بعد ظهور بطلانه.
وحيث لم يجز النقض وجب على الحاكم الثاني إنفاذ حكم الحاكم الأوّل وإن خالفه في الرأي، ولكن هل يجب عليه متابعة الحاكم الأوّل حينئذ عملاً بالنسبة إلى نفسه ومقلّديه ، أو يكتفي في التنفيذ بمقدار فصل الخصومة به ؟ ظاهر ( الجواهر ) الأوّل، والمختار هو الثاني، لئلاّ يلزم القول بالتصويب.
وكما لا يجوز نقض الحكم بالحكم، كذلك لا يجوز نقضه بالفتوى، بل يبقى الحكم في مورد النزاع على قوّته ونفوذه وإن تبدل الرأي، ولا فرق هنا أيضاً بين العقود والإيقاعات والأحكام الوضعية، وكذا الأمر في العبادات، فلو توضّأ بماء محكوم بالطهارة صحّ وضوؤه وصلاته به. قالوا: والدليل هو الإجزاء.
أقول: الإجزاء تارة يكون بالحكم الظاهري، وأخرى بالحكم الاضطراري الثانوي. أما في الثاني ، فمع كشف الخلاف يكون الحكم متغيراً حقيقة، وأمّا في الأوّل ، فمعه يبتني الحكم بصحّة الصلاة على القول بالإجزاء. وكيف كان، فإنّ بقاء الحكم حينئذ يختص بمورده فقط كما هو واضح.
وأما الفتوى، فيجوز نقضها بالحكم، وحينئذ ، يجب على غير الحاكم من المجتهدين ومقلّديهم تنفيذ هذا الحكم وإمضاؤه، فلو كان مذهبه ـ إجتهاداً أو تقليداً ـ نجاسة عرق الجنب من الحرام مثلاً، واشترى مائعاً فتبين أنه كان ملاقياً لعرق الجنب من الحرام، فتنازع مع البائع في صحة البيع وعدمها، وترافعا إلى مجتهد كان مذهبه عدم نجاسته وصحة البيع ، فحكم بصحته، لزم على المشتري العمل بحكمه وجاز له التصرف في ذلك المائع، ففي هذا المورد بالخصوص يعمل بمقتضى الطهارة ويبني عليها وينقض الفتوى بالنسبة إليه بذلك الحكم.
وأما بالنسبة إلى سائر الموارد ، فيعمل على طبق مذهبه وهو القول بالنجاسة ، وحتى أنه إذا لاقى ذلك المائع بعد حكم الحاكم بالطهارة عرق الجنب من الحرام مرّة أخرى ، يبقى على ذلك، ما لم يقع نزاع ولم يرجع إلى الحاكم.
وحيث حكم بطهارة هذا المائع، فلو لاقاه مائع آخر ، فهل يحكم بطهارة الملاقي كذلك أو لا ؟ إن كان النزاع في صحة البيع وبطلانه ، فحكم الحاكم بصحّة البيع دون طهارة المائع ، فقيل في هذه الصورة يحكم بصحّة البيع وطهارة المائع الأوّل دون الملاقي.
وإن كان النزاع في نفس الطهارة والنجاسة، فمع الحكم بالطهارة يترتّب جميع آثار الطهارة عليه.
وسيجي تتمة لهذا الفرع إن شاء الله تعالى.
وبالجملة، فإن الحكم ينقض الفتوى، من غير فرق بين أن يكون الحكم في العقود والإيقاعات والأحكام الوضعية، فيجب تنفيذ الحكم مطلقاً ، إلا في صورة القطع بمخالفته للواقع.
وأما انتقاض الفتوى بالفتوى، فالظاهر ذلك، فلو عقد بنتاً لمن ارتضع معها عشر رضعات، ثم تبدّل رأيه في المسألة واختار القول بنشر هذا العدد للحرمة، قال في ( الجواهر ) ببقاء الزوجيّة، وهو مشكل، لأنه بناء على الطريقية ، فقد انكشف الخلاف وظهر له بطلان هذا العقد من أصله ، وبناء على السببية حيث يحكم باستمرار الحكم ، ففيه: أنه مع كشف الخلاف ينكشف له عدم تحقق علقة الزوجيّة بينهما، فالعقد باطل من أصله ، فكيف يستمر الحكم ؟
وكذا الكلام في ثوب غسل بماء أفتى بطهارته سابقاً ، ثم تبدّل رأيه وأفتى بنجاسته الآن، فإنه يجب عليه تطهير الثوب الآن وإلاّ لم تصح الصلاة فيه. وتفريق صاحب ( الجواهر ) ـ بين النكاح حيث اختار فيه العدم وبين الثوب حيث اختار فيه النقض ـ غير واضح ، وإن ادّعى في ( منية الطالب ) الإجماع على عدم النقض، وتمسّك في ( الجواهر ) بالسيرة، لأنه لو تم ذلك كان لازمه رفع اليد عن الحكم الواقعي في ذاك المورد ونظائره، وقد ذكر السيّد الاُستاذ دام بقاه في ( الحاشية على العروة ) في مسألة عدول المجتهد عن فتواه : أن الأحوط أن يرتّب المقلّد ما أمكنه من آثار الفتوى اللاّحقة ، إلاّ أن يدعى العسر والحرج، وفيها إشكال آخر، فإن الحرج يرفع التكليف ولكنه لا يغّير الحكم الشرعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *