الثامنة: فيما يتعلّق بانعزال القاضي و عزله

المسألة الثامنة

( فيما يتعلّق بانعزال القاضي وعزله )

قال المحقق قدّس سرّه: « إذا حدث به ما يمنع الإنعقاد انعزل ، وإن لم يشهد الإمام بعزله كالجنون والفسق، ولو حكم لم ينفذ حكمه »(1).
أقول: إذا فقد القاضي أحد الشروط المعتبرة ، سقط حكمه عن الإعتبار ولم ينفذ، لأن أدلة اعتبار الصفات تقتضي وجودها فيه ابتداءاً واستدامة، فلا وجه للإستصحاب ، لأنه أصل وهو لا يعارض الأدلّة، فإن ارتفع المانع ، فهل تعود التولية أو لابدّ من نصب جديد ؟
إختار في ( المسالك ) الثاني ووافقه في ( الجواهر ) قال: لا تعود بزوال هذه العوارض ، للأصل.
أقول: والمراد من الأصل ، إما استصحاب حال الجنون ـ مثلاً ـ وإما أن التولية تحتاج إلى دليل، وبعد زوال الجنون فالأصل عدم التولية، فيكون نظير الوكالة إذا جنّ الوكيل…
والحق: أنه إن نصب شخص الإمام عليه السلام أحداً بخصوصه للقضاء ، كان حاله حال الوكيل فيما ذكر، وأما إذا كان حكم النصب كلّياً ، سواء في زمن الحضور أو الغيبة كما في معتبرة أبي خديجة، فإنه مع زوال العارض يشمله الحكم الكلّي وينفذ حكمه، نظير: « صلّ خلف من تثق بدينه »(2)، فلو حدث في إمام الجماعة فسق لم تجز الصّلاة خلفه، فإن تاب وعاد جاز الائتمام به لقوله عليه السلام : « صلّ » لأن معناه: جواز الصلاة خلفه في كلّ زمان حصل الوثوق بدينه وعدالته… ولعلّ كلمات الأصحاب ناظرة إلى المنصوب من قبل الإمام عليه السلام بشخصه، وهذا جار في المنصوب من قبل المجتهد أيضاً ، بناء على أن له ذلك.
هذا كلّه في الإنعزال القهري، فإن القاضي ينعزل بحدوث ما يمنع انعقاد القضاء له ، وإن لم يعلم الإمام عليه السلام بذلك ، لأنهم إذا شاءوا علموا كما في الأخبار.
وربما فرّق بين ما إذا كان العارض سريع الزوال كالإغماء، وبين غيره كالجنون، فتعود في الأوّل قياساً على السهو والنسيان دون الثاني.
أقول: وفيه إنه يشترط في القاضي العقل، وإن زواله يوجب العزل ، سواء كان بالإغماء أو الجنون، إذ لا أثر لقلّة زمان الزوال حتى يفرق بين الإغماء والجنون، وأما في حال النوم والسّهو والنسيان ونحو ذلك فلا يزول العقل، فهو قياس مع الفارق.
قال المحقق قدّس سرّه: « وهل يجوز أن يعزل اقتراحاً ؟ الوجه : لا، لأن ولايته استقرّت شرعاً فلا تزول تشهيّاً »(3).
أقول: إن كان في العزل مصلحة فلا إشكال في جوازه، ومورد البحث ما إذا أراد عزله لا لمصلحة بل تشهياً، وقد استدلّ المحقق قدّس سرّه للعدم بما سمعت، لكنه مصادرة محضة.
وقيل: لأنه عبث ، والإمام عليه السلام لا يفعله.
وفيه: إنه إن عزله فلا يكون عبثاً.
وقيل: إنه يعرض بذلك للقدح من ليس بمقدوح فيه.
وفيه: إن عزله مع رفع هذه الشبهة ، فلا إشكال، على أن لزوم ذلك أمر ثانوي ، والعنوان الثانوي قد يحصل حتى من النصب، فقد ينصب الحاكم للقضاء ويترتب على ذلك المفسدة، فلابدّ من البحث في جهة أخرى ، وهي أنه هل يجوز عزل القاضي عن القضاء أو لا ؟
لقد ذكرنا سابقاً : أن الولاية على القضاء أمر اعتباري عرفي قابل للجعل، كالزوجيّة والملكيّة ونحوهما، فهي موجودة بين أهل العرف ، وقد جعل الشارع هذه الولاية للنبي والإمام عليهما الصلاة والسلام، ثم رخّص المجتهد في ذلك أيضاً، فهل يستفاد من نفس التمكن من الجعل التمكن من العزل كذلك ؟
أمّا بالنسبة إلى الإمام عليه السلام، فلا ريب في انعزال من يعزله، وأمّا بالنسبة إلى المجتهد، فهذا مشكل، بل لابدّ من دليل آخر، كما ليس لحاكم الشرع عزل من جعله متولياً على وقف أو نصبه وليّاً على أمر من الأمور من غير سبب يقتضي ذلك شرعاً، إلاّ أن يدّعى النيابة العامة للمجتهد، بأن يكون له فعل كلّ ما فعله الإمام عليه السلام… وهذا يتوقف ـ بالإضافة إلى إثبات ذلك من ناحية الأدلة ـ على إثبات فعل الإمام عليه السلام ذلك، إلاّ أن يقال بأن أمير المؤمنين عليه السلام كان قد نصب وعزل بعض القضاة، ولكن هذا يحتاج إلى الإثبات، فلعلّه أرجع القاضي من ذاك البلد ليرسله إلى بلد آخر.
وكيف كان، فيحتاج إلى دليل آخر غير ما دلّ على جواز النصب.
نعم ، كلّ شيء يتوقف على الإذن ـ لا الجعل ـ جاز الرجوع فيه عن الإذن.
ولو عيّن الواقف أحداً للتولية على الوقف، فليس له عزله عن التولية، لأن ذلك كالرجوع عن الوقف ، وقد ثبت أن الوقوف على مايوقفها أهلها، على أن بعض الفقهاء يفتون بعدم جواز عزله حتى مع الخيانة، قالوا: بل يجب حينئذ ضمّ أحد إليه. وهذا كلّه مما يشهد بأن جواز الجعل بوحده لا يكفي للدلالة على جواز العزل.
هذا، وليس من شأننا البحث عن حكم الإمام عليه السلام، لثبوت عصمته ، على أن نفس إرادة الإمام مرجّحة، إذ لا يتصور التوقف له في مورد التعارض بين طرفي الفعل والترك، ولا يشترط أن يكون لفعله مرجّح، بل يكفي عدم المرجوحيّة للفعل.
وعلى فرض جواز العزل، فهل ينعزل القاضي بمجرد العزل أو بعد بلوغ الخبر إليه كالوكيل؟ قال في ( المسالك ): قولان، أظهرهما الثاني، لعظم الضرر في ردّ قضيته بعد العزل وقبل بلوغ الخبر، فيكون الحكم فيه أولى من الوكيل(4).
وفي الأوّل: إن الضرر اللازم كما يمكن أن يكون متوجهاً إلى من كان له الحق ، كذلك يحتمل أن يتوجه إلى مدعي الباطل منهما ، ودليل « لا ضرر » لا ينفي مثل هذا الضرر، فيكون المورد شبهة مصداقية له فلا يجوز التمسك به، فيكون حكم هذا القاضي حينئذ نظير حكم من حكم بتوهّم كونه منصوباً لذلك من قبل الامام، ثم بان له أنه لم يكن له ذلك ، فإن حكمه باطل، وكذا من باع مال غيره متخيلاً أنه وكيلٌ عنه في ذلك ، ثم ظهر العدم.
وفي الثاني: إن الأولويّة ممنوعة، إلا أن يقال بأن الولاية على القضاء وكالة مع زيادة السلطنة أو يصحح ذلك بتنقيح المناط.
وبما ذكرنا ظهر أنه لا مجال للتمسّك باستصحاب بقاء نفوذ الحكم.
قالوا: هذا إذا عزل القاضي لفظاً أو كتب إليه: أنت معزول ـ مثلاً ـ ، وأما إذا كتب إليه: إذا قرأت كتابي فأنت معزول ، ففيه فروع:
منها: أنه لا ينعزل إلاّ بعد قراءة الكتاب، سواء وصل إلى يده أو لا، فلو وصل إليه الكتاب وحكم في قضية قبل أن يقرأه نفذ حكمه بلا إشكال.
ومنها: أنه لا يشترط قراءته للكتاب مباشرة، بل الظاهر أن المراد فهمه بما فيه ، ولو بقراءة غيره له.
ومنها: أنه هل يشترط قراءة الكتاب كلّه أو يكفي العلم بحاصل المراد؟ وتظهر الفائدة فيما لو ذهب بعض الكتابة أو تعذّر عليه قراءته…
قال في ( الجواهر )(5) إن هذه احتمالات باردة ، أطنب فيها العامة في كتبهم لغرض صيرورة الكتاب ضخماً.
قلت: ويمكن أن تثمر هذه الفروع في الإجازات والوكالات التي يكتبها الفقهاء للأشخاص… ولكنها قليلة الجدوى.

(1) شرائع الإسلام 4 : 70.
(2) وسائل الشيعة 8 : 309/2 . أبواب صلاة الجماعة ، الباب 10.
(3) شرائع الإسلام 4 : 71.
(4) مسالك الأفهام 13 : 358.
(5) جواهر الكلام 40 : 63.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *