حكم الرجل يضمّ الجارية إليه في الصلاة

حكم الرجل يضمّ الجارية إليه في الصلاة
وشُنّع بعضهم على الإماميّة روايتهم عدم البأس بأنْ يضمّ الرجل الجارية إليه في الصلاة، وذكر الخبر التالي:
«في الوافي، نقلاً من الاُصول، عن مسمع، قال: سألت أباالحسن عليه السلام فقلت: أكون اُصلّي فتمرّ بي الجارية، فربّما ضممتها إليَّ. قال: لا بأس…»(1).
أقول:
وهذا التشنيع أيضاً في غير محلّه، وإنّما نشأ من الغلط في فهم الرّواية، لأنّه قد ظنّ أنّ «الجارية» هي المرأة أو خصوص «الأمة» الكبيرة، وأنّ «الضمّ» المذكور في الرواية بمعنى «المعانقة والتقبيل» وغير ذلك ممّا يفعله الرجل مع حليلته… وليس المقصود ذلك قطعاً…
أمّا «الجارية» ففي (الصحاح) و(مجمع البحار) وغيرهما من كتب اللغة: «الصبيّة ومن لم تبلغ الحلم من النساء»(2).
وأمّا «ضمّ الجارية» فالمراد منه حملها في أثناء الصّلاة، وبذلك باب في كتاب البخاري، حيث قال: «باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة» فأخرج فيه الحديث أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله…(3).
وأخرجه مسلم في كتابه كذلك(4).
وكذا تجد هذا الحديث وما بمعناه في سائر الكتب، كمسند أحمد، وموطّأ مالك، وفي السنن لأبي داود والنسائي، وفي المصابيح والمشكاة وغيرها… وقد رواه صاحب (جامع الاُصول) عن أكثرها حيث قال:
«أبو قتادة: إنّ رسول الله كان يصلّي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولأبي العاص بن ربيعة بن عبد شمس، فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها.
وفي رواية: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها. أخرجه البخاري ومسلم.
وأخرج الموطّأ وأبو داود والنسائي الاُولى.
وفي اُخرى لأبي داود ومسلم: بينا نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، واُمّها زينب بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ـ وهي صبيّة ـ على عنقه، فصلّى رسول الله وهي على عاتقه، يضعها إذا ركع ويعيدها إذا قام حتّى قضى صلاته، يفعل ذلك بها.
وفي اُخرى له قال: بينا نحن ننتظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الظهر والعصر وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج إلينا وأمامة بنت أبي العاص بنت بنته على عنقه، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مصلاّه وقمنا خلفه، وهي في مكانها الذي هي فيه. قال: فكبّر فكبّرنا، حتّى إذا أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يركع أخذها فوضعها، ثمّ ركع وسجد حتّى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردّها في مكانها، فما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصنع بها ذلك في كلّ ركعة حتّى فرغ من صلاته.
وأخرج النسائي أيضاً الرواية التي لأبي داود قبل هذه»(5).
وقد أجاب الحفّاظ عن التوهّمات التي تعترض هذا الحديث والحكم به:
قال النووي بشرحه: «قوله: رأيت النبي…
هذا يدلّ لمذهب الشافعي ومن وافقه أنّه يجوز حمل الصبي والصبيّة وغيرهما من الحيوان الطاهر في صلاة الفرض وصلاة النفل، ويجوز ذلك للإمام والمأموم والمنفرد.
وحمله أصحاب مالك على النافلة ومنعوا جواز ذلك في الفريضة.
وهذا التأويل فاسد; لأنّ قوله يؤمّ النّاس صريح أو كالصريح في أنّه كان في الفريضة.
وادّعى بعض المالكيّة أنّه منسوخ وبعضهم أنّه خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبعضهم أنّه كان لضرورة.
وكلّ هذه الدعاوي باطلة مردودة، فإنّه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع; لأنّ الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفوّ عنه لكونه في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا، والأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلّت أو تفرّقت، وفعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا بياناً للجواز وتنبيهاً به على هذه القواعد التي ذكرها.
وهذا يرد ما ادّعاه الإمام أبو سليمان الخطابي أنّ هذا الفعل يشبه أن يكون كان بغير تعمد لحملها في الصلاة، لكنّها كانت تتعلق به صلّى الله عليه وسلّم فلم يدفعها، وإذا قام بقيت معه. قال: ولا يتوهّم أنّه حملها أو وضعها مرّة بعد اُخرى عمداً، لأنّه عمل كثير وشغل القلب وإذا كان علم الخميصة شغله فكيف لا يشغله، هذا كلام الخطابي.
وهو باطل ودعوى مجرّدة، وممّا يردّه قوله في صحيح مسلم: فإذا قام حملها. وقوله: فإذا رفع من السجود أعادها. وقوله في رواية غير مسلم: خرج علينا حاملاً أمامة فصلّى، وذكر الحديث.
وأمّا قضيّة الخميصة، فلأنّها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا يسلّم أنّه يشغل القلب، وإن شغله فتترتّب عليه فوائد وبيان قواعد ممّا ذكرنا وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة.
فالصواب الذي لا معدل عنه: أنّ الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه القواعد فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين، والله أعلم»(6).
وابن حجر العسقلاني اقتفى أثر النووي، فقال في (فتح الباري):
«قوله: فإذا سجد وضعها كذا لمالك أيضاً، ورواه مسلم من طريق عثمان ابن أبي سليمان ومحمّد بن عجلان، والنسائي من طريق الزبيدي، وأحمد من طريق ابن جريج، وابن حبّان من طريق أبي العميس، كلّهم عن عامر بن عبدالله شيخ مالك فقالوا: إذا ركع وضعها، ولأبي داود من طريق المقبري عن عمرو بن سليم: حتّى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثمّ ركع وسجد حتّى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردّها في مكانها.
وهذا صريح في أنّ فعل الحمل والوضع كان منه لا منها.
بخلاف ما أوّله الخطابي حيث قال: يشبه أن تكون الصبية كانت قد أَلِفَتْه فإذا سجد تعلّقت بأطرافه والتزمته فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. قال: هذا وجهه عندي.
وقال ابن دقيق العيد: من المعلوم أنّ لفظ حمل لا يساوي لفظ وضع في اقتضاء فعل الفاعل، لأنّا نقول فلان حمل كذا ولو كان غيره حمله بخلاف وضع، فعلى هذا فالفعل الصادر منه هو الوضع لا الرفع فيقلّ العمل. قال: وقد كنت أحسب هذا حسناً، إلى أن رأيت في بعض طرقه الصحيحة: فإذا أقام أعادها.
قلت : وهي رواية لمسلم، ورواية أبي داود التي قدّمناها أصرح في ذلك وهي: ثمّ أخذها فرّدها في مكانها. ولأحمد من طريق ابن جريج: وإذا قام حملها فوضعها على رقبته.
قال القرطبي: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، والذي أحوجهم إلى ذلك أنّه عمل كثر، فروى ابن القاسم عن مالك أنه كان في النافلة، وهو تأويل بعيد، فإنّ ظاهر الأحاديث أنّه كان في فريضة، وسبقه إلى استبعاد ذلك المازري وعياض، لما ثبت في مسلم: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يؤمّ الناس وأمامة على عاتقه.
قال المازري: إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة».
ثمّ قال ابن حجر:
«قال القرطبي: وروى عبدالله بن يوسف التنيسي عن مالك أنّ الحديث منسوخ.
قلت: روى ذلك الإسماعيلي عقب روايته للحديث من طريقه، لكنّه غير صريح ولفظه: قال التنيسي: قال مالك: من حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ناسخ ومنسوخ وليس العمل على هذا.
وقال ابن عبدالله: لعلّه نسخ بتحريم العمل في الصلاة، وتعقّب بأنّ النسخ لا يثبت بالإحتمال، وبأنّ هذه القصّة كانت بعد قوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ في الصلاة لشغلاً; لأنّ ذلك كان قبل الهجرة، وهذه القصّة كانت بعد الهجرة قطعاً بمدّة مديدة.
وذكر عياض عن بعضهم: إنّ ذلك كان من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم لكونه كان معصوماً من أن تبول وهو حاملها، ورُدّ: بأنّ الأصل عدم الإختصاص، وبأنّه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك»(7).

(1) الوافي للشيخ محمّد محسن الكاشاني 8: 892/7329 ـ 6، كتاب الصلاة، باب الضحك والعبث.
(2) صحاح اللغة 6: 2398 مادّة صبا.
(3) صحيح البخاري 1: 137/ باب 106: إذا حمل جارية صغيرة…
(4) صحيح مسلم 1: 385/543، كتاب المساجد، الباب 9.
(5) جامع الاصول 5: 524 ـ 525/3749، الفرع الثامن.
(6) شرح صحيح مسلم 5: 32 ـ 33، كتاب المساجد، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة.
(7) فتح الباري في شرح صحيح البخاري 1: 469 باب إذا حمل جاريةً صغيرة…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *