كتاب المنخول للغزالي

كتاب المنخول للغزالي
ثم إنّ بعضهم لمّا رأى هذا الطعن والذمّ الشديد من إمامهم الغزالي في أبي حنيفة في كتاب المنخول، ولم يتمكن من تكذيب الغزالي، إضطرّ إلى نفي نسبة الكتاب المذكور إليه، فقال بأنّه ليس من تصانيف الغزالي صاحب إحياء العلوم، بل هو تأليف محمود الغزالي المعتزلي.
ولكنّ هذه المحاولة أيضاً للدفاع والحماية عن أبي حنيفة لا تجدي نفعاً، فالكتاب للغزالي قطعاً… وقد ذكره له كبار العلماء والمؤرخين المشاهير، كابن خلّكان، واليافعي، بترجمة الغزالي في عداد مصنّفاته(1).
كما اعترف الملاّ علي القاري بذلك في كتابه المؤلَّف ردّاً على إمام الحرمين فقال:
«ثمّ رأيت الإمام الكردري صنّف تصنيفاً في الردّ على الغزالي فيما نقل عنه أنّه ذكر في كتابه المنخول طعناً في أبي حنيفة وأصحابه الفحول، ولعلّه كان في أيّام جهالته وزمان حيرته ومبدأ ضلالته، قبل أن يدخل في طريق الأولياء وتصنيفه الإحياء، على ما تدلّ عليه ترجمته للإمام الأعظم مع سائر العلماء».
وقال الحافظ الزين العراقي في (شرح ألفيّة الحديث):
«اختلف في التعديل والجرح هل يقبلان أو أحدهما من غير ذكر أسبابهما أم لا يقبلان إلاّ مفسَّراً، على أربعة أقوال؟» ثمّ قال:
«القول الثاني عكس القول الأوّل: إنّه يجب بيان سبب العدالة ولا يجب بيان سبب الجرح، لأنّ أسباب العدالة يكثر التصنّع فيها، فيبني المعدّلون على الظاهر. حكاه صاحب المحصول وغيره، ونقله إمام الحرمين في البرهان والغزالي في المنخول تبعاً له عن القاضي أبي بكر» ثمّ قال بعد ذكر القول الثالث:
«والقول الرابع عكسه، إنّه لا يجب ذكر سبب واحد منهما، إذا كان الجارح أو المعدّل عالماً بصيراً، وهو اختيار القاضي أبي بكر ونقله عن الجمهور فقال: قال الجمهور من أهل العلم: إذا جرح من لا يعرف الجرح، يجب الكشف عن ذلك، ولم يوجبوا ذلك على أهل العلم بهذا الشأن. قال: والذي يقوى عندنا ترك الكشف عن ذلك إذا كان الجارح عالماً، كما لا يجب استفسار المعدّل عمّا به صار عنده المزكّى عدلاً. إلى آخر كلامه.
وممّن حكاه عن القاضي أبي بكر الغزالي في المستصفى خلاف ما حكاه عنه في المنخول».
وذكر ابن جماعة كتاب المنخول بترجمة الغزالي في عداد مصنّفاته(2)، وحكى بترجمة القاضي الحسين بن الحسن السعدي المقدسي الأصل الدمياطي، عن الحافظ الدمياطي أنّه قرأ عليه المنخول للغزالي(3).
ونقل الحافظ السيوطي في رسالته في الإجتهاد ـ (جزيل المواهب) ـ كلاماً عن الغزالي في المنخول قائلاً: «قال الغزالي في المنخول: الإجتهاد ركن عظيم في الشريعة…».
هذا، وإنّ عدّةً من الأعلام يروون بالأسانيد كتاب (المنخول) للغزالي، فقد قال الشيخ تاج الدين الدهان المكّي الحنفي في كتاب (كفاية المتطلع لما ظهر وخفي من غالب مرويّات شيخنا العلاّمة الحسن بن علي العجيمي) ما نصّه:
«كتاب المستصفى والمنخول، للإمام حجة الإسلام أبي حامد محمّد بن محمّد بن محمّد الغزالي الشافعي: أخبر بهما عن الشيخ صفي الدين أحمد بن محمّد القشاشي والشهاب أحمد بن محمّد الخفاجي، عن العلاّمة شمس الدين محمّد بن أحمد الرملي، عن أبي الفضائل عبدالحق بن محمّد السنباطي، عن الشيخ الزاهد شرف الدين أبي الفتح محمّد بن الزين أبي بكر ابن الحسين المراغي قال: أخبرنا بهما جماعة أعلاهم الحافظ بهاء الدين عبدالله بن محمّد بن خليل العثماني المكي إذناً، عن الرضي إبراهيم بن محمّد الطبري المكي قال: أخبرنا أبوالحسن علي ابن المقيّر البغدادي إذناً قال: أخبرنا أبوالعبّاس أحمد بن طاهر الميهني قالا: أخبرنا بهما مؤلّفهما الإمام حجّة الإسلام أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي الطوسي. فذكرهما»(4).
ثمّ إنّه ممّا يبطل دعوى كون (المنخول) لمحمود المعتزلي وجود الردود الكثيرة على المعتزلة فيه:
فقد جاء في (المنخول):
«مسألة: لا يستدرك حسن الأفعال وقبحها بمسالك العقول، بل يتوقف دركها على الشرع المنقول، إذ الحسن عندنا ما حسّنه الشرع بالحثّ عليه، والقبيح ما قبّح بالزجر عنه والذمّ عليه، وقد خالف في ذلك المعتزلة والكراميّة والرافضة…»(5).
وفيه:
«مسألة: صيغة النفي إذا اتّصل بالجنس لم يقتض الإجمال كقوله: لا عمل إلاّ بالنيّة ولا صيام ولا صلاة، وزعمت المعتزلة أنّها مجملة من حيث أنّه يتردّد بين نفي العمل حسّاً وبين نفيه حكماً وهذه جهالة…»(6).
وفيه:
«الأمر قسم من أقسام الكلام، وأصل الكلام ممّا أنكره المعتزلة، فلابدّ من تقديمه، والكلام فيه في ثلاثة فصول: الفصل الأوّل في إثباته عليهم، فالكلام عندنا معنى قائم بالنفس على حقيقة وخاصيّة يتميّز بها عمّا عداها، وأمّا العبارات فإنّها تسمّى كلاماً مجازاً أو حقيقة؟ تردّد فيه شيخنا أبوالحسن وهو متلقّى من اللغة، وأنكرت المعتزلة جنس الكلام وزعمت أنّه فعل حركات مخصوصة وأصوات مقطوعة، وزعموا أنّ الباري سبحانه متكلّم بمعنى أنّه فاعل للكلام، والدليل على إثباته ثلاثة مسالك…»(7).
وفيه:
«مسألة: عند المعتزلة المأمور يخرج عن كونه مأموراً حالة الامتثال وحدوث الفعل المطلوب، لأنّ الأمر طلب والكائن لا يطلب، كما قالوا يخرج عن كونه مقدوراً، لأنّ القدرة لا تتعلّق بالموجود، وخالفهم أصحابنا في مسألتين وبنوا الأمر على القدرة»(8).
وفيه:
«قال شيخنا أبوالحسن: المعدوم مأمور على تقدير الوجود، إذ عنده ثبت الكلام القديم وثبت كون الباري آمراً أزلاً، وأبى المعتزلة وقالوا: الأمر طلب فكيف يتوجّه على المعدوم…»(9).
وفيه:
«قالت المعتزلة: لا يخصّص عموم القرآن بأخبار الآحاد، فإنّ الخبر لا يقطع بأصله بخلاف القرآن. وقال الفقهاء: يخصّص به ـ إلى أن قال ـ والمختار أنّه يخصّص، لعلمنا أنّ الصحابة كانوا يقبلون حديثاً نصّاً ينقل لهم الصدّيق في تخصيص عموم القرآن…»(10).
وفيه:
«القول في أفعال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا يتوصّل إلى ذلك إلاّ بذكر مقدّمة في عصمة الأنبياء عن المعاصي، وهي منقسمة إلى الصغائر والكبائر، وقد تقرّر بمسلك النقل كونهم معصومين عن الكبائر، وأمّا الصغائر، ففيه تردّد العلماء، والغالب على الظنّ وقوعه، وإليه يشير بعض الآثار والحكايات، هذا كلام في وقوعه، أمّا جوازه فقد أطبقت المعتزلة على وجوب عصمته عليه السلام عقلاً عن الكبائر، تعويلاً على أنّه يورث التنفير وهو مناقض لغرض النبوّة، وهذا يبطل بكون الحرب سجالاً بينه وبين الكفّار، وبه اعتصم بعض اليهود في تكذيبه.
والمختار ما ذكره القاضي وهو أنّه لا يجب عقلاً عصمتهم، إذ لا يستبان استحالة وقوعه بضرورة العقل ولا بنظر، وليس مناقضاً لمدلول المعجزة، فإنّ مدلوله صدق اللّهجة فيما يخبر عن الله تعالى، فلا جرم لا يجوز وقوع الكذب فيما يخبر به عن الله تعالى; لا عمداً ولا سهواً، ومعنى التنفير باطل، فإنّا نجوّز أن ينبّىء الله تعالى كافراً ويؤيّده بالمعجزة، والمعتزلة يأبون ذلك أيضاً»(11).

أقول:
وإذ وقفت على كلمات الشّافعي وغيره في أبي حنيفة، فهلمّ لننظر إلى كلمات سائر الأئمة فيه، وقد أوردها الحافظ الخطيب البغدادي بترجمته من (تاريخ بغداد)(12).

(1) وفيات الأعيان 4: 218، مرآة الجنان 3: 137.
(2) طبقات الشافعية لابن جماعة ـ ترجمة الغزالي
(3) طبقات الشافعية لابن جماعة ـ ترجمة القاضي حسين بن الحسن الدمياطي
(4) كفاية المتطّلع ـ مخطوط.
(5) المنخول: 8.
(6) المنخول: 77.
(7) المنخول: 98 ـ 99.
(8) المنخول: 122 ـ 123.
(9) المنخول: 124.
(10) المنخول: 174.
(11) المنخول: 123 ـ 124.
(12) ترجمة أبي حنيفة في تاريخ بغداد 13: 323 ـ 454 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *