تكلّمه في أميرالمؤمنين بسبب حروبه

تكلّمه في أميرالمؤمنين بسبب حروبه
ومن قوادحه العظيمة وبراهين نصبه لمولانا أميرالمؤمنين عليه السلام: أنّه كان يفضّل عثمان ويقول: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها، مع أنّ حروب الإمام عليه السلام كانت بأمر من الله ورسوله، فهي شرف جليل وفخر عظيم، فكيف تكون منقصةً له وعيباً حتّى يقال له مثل هذا الكلام؟ إنّ هذا الكلام ـ في الحقيقة ـ ردّ على الله ورسوله… وقد أورده ابن تيميّة متبجّحاً به مرتضياً إيّاه حيث قال:
«أمّا جمهور الناس، ففضّلوا عثمان، وعليه استقرار أهل السنّة، وهو مذهب أهل الحديث ومشايخ الزهد والتصوّف وأئمّة الفقهاء، كالشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وأبي حنيفة وأصحابه، وهو احدى الروايتين عن مالك وعليها أصحابه، قال مالك: لا أجعل من خاض في الدماء كمن لم يخض فيها، وقال الشافعي وغيره: إنّه بهذا السبب قصد والي المدينة الهاشمي ضرب مالك، وجعل طلاق المكره سبباً ظاهراً، وهو أيضاً مذهب جماهير أهل الكلام: الكرامية والكلابية والأشعرية والمعتزلة، وقال أيوب السختياني: من لم يقدّم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، وهكذا قال أحمد بن حنبل وأبوالحسن الدارقطني وغيرهما أنّهم اتفقوا على تقديم عثمان، ولهذا تنازعوا فيمن لم يقدّم عثمان هل يعدّ مبتدعاً؟ على قولين هما روايتان عن أحمد، فإذا قام الدليل على تقديم عثمان كان ما سواه أوكد»(1).
وعلى الجملة، فإنّ أميرالمؤمنين عليه السلام أفضل الصحابة قاطبةً، بل هو أفضل من سائر الأنبياء عدا سيّد المرسلين، وجهاده في سبيل الله ومقاتلاته لأعداء الله من أشهر مناقبه وأفضل مقاماته ومنازله، وقد قال علماء القوم بأنّ حروبه كلّها كانت على الحق وكان الحق معه فيها، وحتّى أنّ الدهلوي ينصّ على أن من اعترض على أميرالمؤمنين عليه السلام في شيء من آرائه وأقواله فهو جاهل أحمق(2).
ويقول الدهلوي أيضاً في كلام له حول الحديث «قال لعلي: إنّك تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله»: «ولا دلالة في هذا الحديث على أنّ الأمير إمام بلا فصل، إذ لا ملازمة بين المقاتلة على تأويل القرآن والإمامة بلا فصل بوجه من الوجوه، بل لو استدلّ به على مذهب أهل السنّة لأمكن، لأنّه يفهم منه بالصراحة أنّ الأمير قد يكون إماماً في عصر يقاتل فيه على تأويل القرآن ووقت قتاله معلوم متى كان، وهو من دلائل أهل السنّة على أنّ الحقّ كان في جانب الأمير وكان مقاتلوه على الخطأ، حيث لم يفهموا معنى القرآن وأخطأوا في اجتهادهم، وإنكار تأويل القرآن ليس بكفر إجماعاً. وإنْ أنكر أحد معنى القرآن الظاهر بسوء فهمه ففي كفره تأمّل…»(3).
لكنّ مالكاً لم يكتف في الطعن بأميرالمؤمنين بالكلمة الخبيثة المذكورة، بل قال أكثر من ذلك وأشد، قال ابن تيمية: «وعلي لم يخص أحداً من أقاربه بعطاء، لكن ابتدء بالقتال لمن لم يكن مبتدئاً له بالقتال، حتّى قتل بينهما اُلوف مؤلّفة من المسلمين، وإن كان ما فعله هو متأوّل فيه تأويلاً وافقه عليه طائفة من العلماء وقالوا: إنّ هؤلاء بغاة والله تعالى أمر بقتال البغاة بقوله تعالى: (فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله) لكن نازعه أكثر العلماء كما نازع عثمان أكثرهم وقالوا: إنّ الله تعالى قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنّ الله يحبّ المقسطين) قالوا: فلم يأمر الله بقتال البغاة ابتداء، بل إذا وقع قتال بين طائفتين من المؤمنين فقد أمر الله بالإصلاح بينهما، وحينئذ فإن بغت إحداهما على الاُخرى قوتلت، ولم يقع الأمر كذلك، ولهذا قالت عائشة: ترك الناس العمل بهذه الآية; رواه مالك بإسناده المعروف عنها.
ومذهب أكثر العلماء أنّ قتال البغاة لا يجوز، إلاّ أن يبتدؤا الإمام بالقتال، كما فعلت الخوارج مع علي، فإنّ قتاله الخوارج متفق عليه بين العلماء ثابت بالأحاديث الصحيحة عن النبي، بخلاف قتال صفين، فإنّ أولئك لم يبتدؤا بقتال بل امتنعوا عن مبايعته، ولهذا كان أئمّة السنيّة كمالك وأحمد وغيرهما يقولون أنّ قتاله للخوارج مأمور به، أمّا قتال الجمل وصفّين فهو قتال فتنة، فلو قال قوم نحن نقيم الصلاة ونؤتي الزكاة ولا ندفع زكاتنا إلى الإمام ونقوم بواجبات الإسلام، لم يجز للإمام قتالهم عند أكثر العلماء كأبي حنيفة وأحمد، وأبوبكر الصدّيق إنّما قاتل مانعي الزكاة لأنّهم امتنعوا من أدائها مطلقاً، وإلاّ فلو قالوا نحن نؤتيها بأيدينا ولا ندفعها إلى أبي بكر، لم يجز قتالهم عند الأكثرين كأبي حنيفة.
ولهذا كان علماء الأمصار على أنّ القتال كان قتال فتنة، وكان من قعد عنه أفضل ممّن قاتل فيه، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل والأوزاعي بل الثوري، وكذلك نقل عن أبي حنيفة ومن لا يحصى عدده»(4).
وقال ابن تيمية: «اضطرب الناس في خلافة علي على أقوال:
فقالت طائفة: إنّه إمام وإنّ معاوية إمام، وإنّه يجوز نصب إمامين في وقت إذا لم يكن الإجتماع على إمام واحد، وهذا يحكى عن الكرامية وغيرهم.
وقالت طائفة: لم يكن في ذلك الزمان إمام بل كان زمان فتنة، وهذا قول طائفة من أهل الحديث البصريّين وغيرهم، ولهذا لمّا أظهر الإمام أحمد التربيع بعلي في الخلافة وقال: من لم يربّع بعلي في الخلافة فهو أضلّ من حمار أهله، أنكر ذلك طائفة من هؤلاء وقالوا: قد أنكر خلافته من لا يقال هو أضلّ من حمار أهله، يريدون من تخلّف عنها من الصحابة، واحتجّ أحمد وغيره على خلافة علي بحديث سفينة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: تكون خلافة النبوّة ثلاثين سنة ثمّ تصير ملكاً، وهذا الحديث قد رواه أهل السنن كأبي داود وغيره.
وقالت طائفة ثالثة: بل هو الإمام، وهو مصيب في قتاله لمن قاتله، وكذلك من قاتله من الصحابة كطلحة والزبير، كلّهم مجتهدون ومصيبون، وهذا قول من يقول كلّ مجتهد مصيب، كقول البصريّين من المعتزلة أبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعريّة كالقاضي أبي بكر وأبي حامد وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعري، وهؤلاء أيضاً يجعلون معاوية مجتهداً مصيباً في قتاله كما أنّ عليّاً مصيب، وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم، ذكره أبو عبدالله ابن حامد، ذكر لأصحاب أحمد في المقاتلين يوم الجمل وصفّين ثلاثة أوجه: أحدهما: كلاهما مصيب، والثاني: المصيب واحد لا بعينه، والثالث: إنّ عليّاً هو المصيب و من خالفه مخطئ، والمنصوص عن أحمد وأئمّة السنّة أنّه لا يذم أحد منهم وإنّ عليّاً أولى بالحقّ من غيره، أمّا تصويب القتال فليس هو قول أئمّة السنّة، بل هم يقولون إنّ تركه كان أولى.
وطائفة رابعة: تجعل عليّاً هو الإمام، وكان مجتهداً مصيباً في القتال، ومن قاتله كانوا مجتهدين مخطئين، وهذا قول كثير من أهل الكلام والرأي من أصحاب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وغيرهم.
وطائفة خامسة تقول: إنّ عليّاً مع كونه خليفة وهو أقرب إلى الحقّ من معاوية، فكان ترك القتال أولى وينبغي الإمساك عن القتال لهؤلاء وهؤلاء، فإنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الساعي، وقد ثبت أنّه قال للحسن: إنّ ابني هذا سيّد وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المؤمنين، فأثنى على الحسن بالإصلاح، ولو كان القتال واجباً أو مستحبّاً لما مدح تاركه. قالوا: وقتال البغاة لم يأمر الله به ولم يأمر بقتال باغ بل قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاُخرى فقاتلوا التي تبغي حتّى تفيء إلى أمر الله) فأمر إذا اقتتل المسلمون بالإصلاح بينهم فإن بغت إحداهما قوتلت. قالوا: ولهذا لم يحصل بالقتال مصلحة، والأمر الذي يأمر الله به لابدّ أن يكون مصلحة راجحة على مفسدته.
وفي سنن أبي داود: حدّثنا الحسن بن علي، ثنا يزيد، ثنا هشام عن محمّد يعني ابن سيرين قال: قال حذيفة: ما أحد من الناس تدركه الفتنة إلاّ أنا أخافها عليه إلاّ محمّد بن مسلمة، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: لا تضرّك الفتنة.
قال أبو داود: حدّثنا عمرو بن مرزوق، ثنا شعبة عن الأعمش بن سليم، عن أبي بردة عن ثعلبة بن ضبيعة قال: دخلت على حذيفة فقال: إنّي أعرف رجلاً لاتضرّه الفتن شيئاً، فخرجنا فإذا فسطاط مضروب فإذا فيه محمّد بن مسلمة، فسألناه عن ذلك، فقال: ما اُريد أن يشتمل علي شيء من أمصاركم حتّى تنجلي عمّا انجلت.
فهذا الحديث يبيّن أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنّ محمّد بن مسلمة لا تضرّه الفتنة، وهو ممّن اعتزل في القتال فلم يقاتل لا مع علي ولا مع معاوية، كما اعتزل سعد بن أبي وقّاص واُسامة بن زيد وعبدالله بن عمر وأبو بكرة وعمران بن حصين وأكثر السابقين الأوّلين، وهذا يدلّ على أنّه ليس هناك قتال واجب ولا مستحب، إذ لو كان كذلك لم يكن ترك ذلك ممّا يمدح به الرجل بل كان من فعل الواجب، وفاعل الواجب أفضل ممّن تركه، ودلّ ذلك على أنّ القتال قتال فتنة كما ثبت في الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنّه قال: ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من المرضع، وأمثال ذلك من الأحاديث الصحيحة تبيّن أنّ ترك القتال كان خيراً من فعله من الجانبين.
وعلى هذا جمهور أئمّة أهل الحديث والسنّة، وهو مذهب مالك والثوري وأحمد وغيرهم، وهذه أقوال من يحسن القول في عليّ وطلحة والزبير ومعاوية»(5).
فأيّ ريب وشك يبقى في ضلال مالك وهلاكه بعد هذا؟ لاسيّما بالنظر إلى كلام الفخر الرازي في أنّ من تكلّم في الشّافعي فقد آذى الله ورسوله واستحقّ اللّعن، وذلك ليس إلاّ لكونه قرشيّاً، فكيف بمن تكلّم في علي أميرالمؤمنين، الذي هو بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيّد قريش وبني هاشم، وهو سيّد الوصيّين؟!
أللّهمّ إلاّ انْ يكون ابن تيميّة كاذباً في نسبة تلك الأقوال إلى مالك!!

كان لا يروي عن الإمام الصادق حتّى يضمّه إلى أحد!
ومن ذلك: ما ذكره الذهبي قال: «قال مصعب بن عبدالله عن الدراوردي قال: لم يرو مالك عن جعفر حتّى ظهر أمر بني العبّاس. قال مصعب بن عبدالله: كان مالك لا يروي عن جعفر حتّى يضمّه إلى أحد»(6).
وكفى طعناً في مالك وكتابه ورواياته أن يكون هذا رأيه في الإمام أبي عبدالله الصادق عليه السلام؟ وكيف يكون القادح في الإمام الصادق ثقةً؟
وعلى الجملة، فهذا حال مالك وديانته وثقته وأمانته!!

(1) منهاج السنّة 8: 225.
(2) التحفة الإثني عشرية: 302 ـ 303، جواب المطعن الحادي عشر من مطاعن عمر.
(3) مختصر التحفة الإثني عشرية: 196، الحديث الحادي عشر من باب الإمامة.
(4) منهاج السنّة 4: 436 ـ 437.
(5) منهاج السنّة 4: 437.
(6) ميزان الاعتدال 2: 144/1521.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *