تكلّم ابن عمر في ابن الزبير

تكلّم ابن عمر في ابن الزبير
وتكلّم ابن عمر أيضاً في ابن الزبير بما لا يحتمل التأويل كذلك، فقد أخرج الحاكم بإسناده:
«عن نافع عن ابن عمر أنّه قال لرجل يسأله عن القتال مع الحجاج أو مع ابن الزبير؟ فقال له ابن عمر: مع أيّ الفريقين قاتلت فقتلت، ففي لظى» قال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه»(1).
ومن المعلوم أنّه إذا كان من يقتل مع ابن الزبير في لظى، فإبن الزبير نفسه فيها بطريق أولى، مع أنّه قد قتل في نفس هذه المعركة التي حكم عبدالله ابن عمر على من قتل فيها بما حكم… هذا مضافاً إلى هتكه حرمة الحرم، ولأجل ذلك تكلّم فيه ابن عمر أيضاً، فيما رواه الحكيم الترمذي حيث قال:
«حدّثنا إبراهيم بن المستمر الهذلي قال: حدّثني عبدالرحمان بن سليمان ابن غياث أبو زيد قال: سمعت أبي يذكر عن أبيه قال: صحبت ابن عمر من مكّة إلى المدينة، فقال لنافع: لا تمر بي على المصلوب ـ يعني ابن الزبير ـ .
قال: فما فجئه في جوف الليل إلاّ أن صكّ محمله جذعه، فجلس يمسح عينيه ثمّ قال: يرحمك الله يا أبا خبيب إن كنت وإن كنت، ولقد سمعت أباك الزبير يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يعمل سوء يجز به في الدنيا أو في الآخرة، فإن يك هذا بذاك فهه فهه.
قال أبو عبدالله: فأمّا في التنزيل فقد أجمله فقال: (فمن يعمل سوء يُجزَ به)ودخل فيه البرّ والفاجر والولي والعدو والمؤمن والكافر، ثمّ ميّز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في هذا الحديث بين الموطنين فقال: يجز به في الدنيا وفي الآخرة، كأنّه أخبر بأن يجزي بذلك السوء في أحد الموطنين، إمّا في الدنيا وإمّا في الآخرة، وليس يجمع عليك الجزاء في الموطنين.
ألا ترى أنّ ابن عمر قال: فإن يك هذا بذاك فهه فهه، معناه أنّه قاتل في حرم الله، وأحدث حدثاً عظيماً فيها، حتّى أحرق البيت ورمي الحجر الأسود بالمنجنيق، فانصدع حتّى ضبب بالفضة، فهو إلى يومنا كذلك، وسمع للبيت أنين آه آه، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم فتح مكّة: إنّها لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، وإنّما حلّت لي ساعة من نهار، وإنّها حرمت يوم خلقت السماوات والأرض.
ولمّا رأى ابن عمر فعله، ثمّ رآه مقتولاً مصلوباً، ذكر قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من يعمل سوء يجز به، ثمّ قال: إن يك هذا القتل بذاك الذي فعله فهه، أي كأنّه جوزي بذلك السوء من هذا القتل والصلب»(2).
هذا، وقد رووا عن ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إخباره عن صنع عبدالله، مع التعبير عن ذلك بـ«الإلحاد»:
«يلحد رجل من قريش بمكة يقال له عبدالله، عليه شطر عذاب العالم، طب عن ابن عمر».
«إنّه سيلحد في الحرم رجل من قريش، لو توزن ذنوبه بذنوب الثقلين لرجحت. حم ك عن ابن عمر».
«يحلّها ويحلّ به رجل من قريش، لو وزنت ذنوبه بذنوب الثقلين لوزنتها. حم عن ابن عمر».
«يلحد بمكّة كبش ـ أي سيّد ـ من قريش اسمه عبدالله، عليه مثل أوزار نصف الناس. حم عن عثمان.
يلحد رجل من قريش بمكّة، يكون عليه نصف عذاب العالم. حم عن عثمان. ورجال الحديثين ثقات»(3).
بل لقد رووا أنّ ابن عمر قد ذكّر ابن الزبير بقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا، وحذّره من أن يكون الملحد القرشي هو:
في (جمع الجوامع) للسيوطي عن ابن أبي شيبة:
«عن إسحاق بن سعيد، عن أبيه قال: أتى عبدالله بن عمر عبدالله بن الزبير، فقال لابن الزبير: إياك والإلحاد في حرم الله، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إنّه سيلحد فيه رجل من قريش، لو أنّ ذنوبه توزن بذنوب الثقلين لرجحت عليه، فانظر لا تكونه. ش».
فكان هذا رأي عبدالله بن عمر في ابن الزبير… وبذلك صرّح الحجّاج عند أسماء اُم ابن الزبير، إذ قال لها ـ كما في (السيرة الحلبيّة) ـ :
«رأيت كيف نصر الله الحق وأظهر أنّ ابنك ألحد في هذا البيت، وقد قال تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم) وقد أذاقه الله ذلك العذاب الأليم»(4).
وقال في (إتحاف الورى):
«سنة ست وستّين: فيها دعا عبدالله بن الزبير محمّد ابن الحنفيّة ومن معه من أهل بيته وسبعة عشر رجلاً من وجوه أهل الكوفة، منهم أبوالطفيل عامر بن واثلة الصحابي، ليبايعوه، فامتنعوا وقالوا: لا نبايع حتّى تجتمع الاُمّة.
فأكثر ابن الزبير الوقيعة في ابن الحنفيّة وذمّه، فأغلظ له عبدالله بن هاني الكندي وقال: لئن لم يضرّك إلاّ تركنا بيعتك لا يضرّك شيء، وإنّ صاحبنا يقول: لو بايعني الاُمّة كلّها غير سعد مولى معاوية قتلته، وإنّما عرّض بذكر سعد، لأنّ ابن الزبير أرسل إليه فقتله، فسبّه عبدالله وسبّ أصحابه وأخرجهم من عنده، فأخبروا ابن الحنفيّة بما كان منهم، فأمرهم بالصبر، ولم يلحّ عليهم ابن الزبير.
فلمّا استولى المختار على الكوفة، وصارت الشيعة تدعو لابن الحنفيّة، خاف ابن الزبير أن يتداعى النّاس إلى الرماية، فحينئذ ألحّ على ابن الحنفيّة وعلى أصحابه على البيعة له، فحبسهم بزمزم وتوعّدهم بالقتل والإحراق، وأعطى الله عهداً إن لم يبايعوه ينفذ فيهم ما توعّدهم به، وضرب لهم في ذلك أجلاً.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفيّة عليه، أن يبعث إلى المختار وإلى من بالكوفة رسولاً يعلمهم حالهم وحال من معهم، وما كان توعّدهم به ابن الزبير، فوجد ثلاثة نفر من أهل الكوفة حين نام الحرس على باب زمزم، وكتب معهم إلى المختار وأهل الكوفة يعلمهم حاله وحال من معه وما توعّدهم به ابن الزبير من القتل والتحريق بالنّار، ويطلب منهم النجدة، ويسألهم أن لا يخذلوه كما خذلوا الحسين وأهل بيته.
فقدموا على المختار، فدفعوا إليه الكتاب، فنادى في الناس، فقرأ عليهم الكتاب.
(إلى أن قال في إتحاف الورى): فوجّه ـ يعني المختار ـ أبا عبدالله الجدلي في سبعين راكباً من أهل القوّة، ووجّه ظبيان بن عمارة أخا بني تميم ومعه أربعمائة، وبعث معه لابن الحنفيّة أربعمائة درهم، وسيّر أباالمعتمر في مائة، وهاني بن قيس في مائة، وعمير بن طارق في أربعين، ويونس بن عمران في أربعين، وكتب إلى محمّد بن علي مع أبي الطفيل عامر ومحمّد بن قيس بتوجيه الجند إليه.
وخرج النّاس أثرهم في أثر بعض، وجاء أبو عبدالله الجدلي حتّى نزل ذات عرق في سبعين راكباً، فأقام بها حتّى أتاه عمير ويونس في ثمانين راكباً، فبلغوا مائة وخمسين رجلاً، فسار بهم حتّى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الكافركوبات وهم ينادون: يالثارات الحسين، حتّى انتهوا إلى زمزم، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم، وكان قد بقي من الأجل يومان، فطردوا الحرس وكسروا أعواد زمزم ودخلوا على ابن الحنفيّة فقالوا: خلّ بيننا وبين عدوّ الله ابن الزبير.
فقال لهم: إنّي لا أستحلّ القتال في حرم الله.
فقال ابن الزبير: واعجبا لهذه الخشبية، ينعون حسيناً كأنّي أنا قتلته، والله لو قدرت على قتلته لقتلتهم.
وإنّما قيل لهم خشبيّة، لأنّهم وصلوا إلى مكّة وبأيديهم الخشب، كراهة إشهار السيوف في الحرم.
وقيل: لأنّهم أخذوا الحطب الذي أعدّه ابن الزبير.
وقال ابن الزبير: أيحسبون أنّي اُخلّي سبيلهم دون أن اُبايع ويبايعون.
فقال أبو عبدالله الجدلي: أي وربّ الكعبة والمقام وربّ الحلّ والحرام، لتخلّينّ سبيلهم أو لنجالدنّك بأسيافنا جلاداً يرتاب منه المبطلون.
فقال ابن الزبير: هل أنتم ـ والله ـ إلاّ أكلة رأس، لو أذنت لأصحابي ما مضت ساعة حتّى تقطف رؤوسكم.
فقال له قيس بن مالك: أما والله إنّي لأرجو إذ رمت ذلك، أن يرسل إليك قبل أن ترى ما تحب.
فكفّ ابن الحنفيّة أصحابه وحذّرهم الفتنة.
ثمّ قدم أبوالمعتمر في مائة، وهاني بن قيس في مائة، وظبيان بن عمارة في مائتين ومعه المال، حتّى دخلوا المسجد الحرام فكبّروا وقالوا: يالثارات الحسين.
فلمّا رآهم ابن الزبير خافهم.
فخرج محمّد بن الحنفيّة ومن معه إلى شعب علي، وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمّد بن الحنفيّة فيه، فيأبى عليهم، واجتمع مع محمّد في الشعب أربعة آلاف رجل، فقسّم بينهم ذلك المال.
ويقال: إنّ ابن الزبير أرسل إلى ابن عبّاس وابن الحنفيّة أن يبايعا، فقالا: حتّى يجتمع النّاس على إمام ثمّ نبايع فإنّك في فتنة، فعظم الأمر بينهما وغضب من ذلك، وحبس ابن الحنفيّة في زمزم، وضيّق على ابن عبّاس في منزله، وأراد إحراقهما، فأرسل المختار جيشاً كما تقدّم.
(إلى أن قال في إتحاف الورى): سنة سبع وستّين، فيها حجّ بالنّاس عبدالله بن الزبير رضي الله عنه، وفيها أو في التي بعدها ـ بعد أن قتل المختار بالكوفة ـ استوسقت البلاد لابن الزبير، وتضعضع حال ابن الحنفيّة وأصحابه واحتاجوا، فأرسل ابن الزبير أخاه عروة إلى ابن الحنفيّة أن ادخل في بيعتي وإلاّ نابذتك.
فقال ابن الحنفيّة: بؤساً لأخيك، ما ألحّه فيما أسخط الله تعالى، وأغفله عن ذات الله عزّ وجلّ.
وقال لأصحابه: إنّ ابن الزبير يريد أن يثور بنا، وقد أذنت لمن أحبّ الإنصراف عنّا، فإنّه لا ذمام عليه ولا لوم، فإنّي مقيم حتّى يفتح الله بيني وبين ابن الزبير وهو خير الفاتحين.
فقام إليه أبو عبدالله الجدلي وغيره، فأعلموه أنّهم غير مفارقيه.
وبلغ خبره عبدالملك بن مروان، فكتب إليه يعلمه أنّه إن قدم عليه أحسن مقدمه، وأنّه ينزل أيّ الشام أراد، حتّى يستقيم أمر النّاس.
فخرج ابن الحنفيّة وأصحابه إلى الشام.
(إلى أن قال في إتحاف الورى): فارتحل ابن الحنفيّة إلى مكّة، ونزل شعب آل أبي طالب، فأرسل إليه ابن الزبير يأمره بالرحيل عليه، وكتب إلى أخيه مصعب ابن الزبير يأمره أن يسيّر نساء من مع ابن الحنفيّة، فسيّر نساء منهنّ امرأة أبي الطفيل عامر بن واثلة، فجاءت حتّى قدمت عليه.
فقال أبوالطفيل:
وإن يك سيّرها مصعب *** فإنّي إلى مصعب متعب
أقود الكتيبة مسليما *** كأنّي أخو عرّة أجرب
وهي عدّة أبيات.
وألحّ ابن الزبير على ابن الحنفيّة بالانتقال عن مكّة، فاستأذنه أصحابه في قتال ابن الزبير فلم يأذن لهم وقال: اللّهمّ ألبس ابن الزبير لباس الذلّ والخوف، وسلّط عليه وعلى أشياعه من يسومهم الذي يسوم النّاس، ثمّ صار إلى الطائف.
فدخل ابن عبّاس على ابن الزبير، فأغلظ له وجرى بينهما كلام، وخرج ابن عبّاس أيضاً فلحق بالطائف، وأرسل ابنه عليّاً إلى عبدالملك بالشام وقال: لأن يربّني بنو عمّي أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من بني أسد، يعني ببني عمّه بني اُميّة، لأنّهم جميعهم من ولد عبد مناف، ويعني برجل من بني أسد ابن الزبير، فإنّه من بني أسد بن عبدالعزّى بن قصي»(5).

ثمّ قال السيوطي في (الإتقان):
«وقد ورد عن جماعة من الصحابة غير هؤلاء اليسير من التفسير.
كأنس وأبي هريرة وابن عمر وجابر وأبي موسى الأشعري.
وورد عن عبدالله بن عمرو بن العاص أشياء تتعلّق بالقصص وأخبار الفتن والآخرة وما أشبهها بأن يكون ممّا تحمّله عن أهل الكتاب، كالذي ورد عنه في قوله تعالى (في ظلل من الغمام)»(6).
أقول:
إنّه وإن كان يكفي معرفة أحوال الصحابة المذكورين، وهم الذين رووا عنهم الكثير من التفسير، لمعرفة شأن تفاسيرهم وقيمة رواياتهم وأخبارهم في التفسير، لكنّا نتعرّض لحال هؤلاء ـ الذين رووا عنهم اليسير ـ أيضاً ولو بإيجاز، فنقول:

(1) المستدرك على الصحيحين 4: 471 كتاب الفتن والملاحم.
(2) نوادر الأصول 2: 16. وقد اُسقط منه: «قال أبو عبدالله…».
(3) كنز العمّال 12: 208 ـ 209/34691 ـ 34695: وبعضه عن ابن عمرو.
(4) إنسان العيون = السيرة الحلبيّة 1: 175.
(5) إتحاف الورى بأخبار اُمّ القرى ـ حوادث السنة 66.
(6) الإتقان في علوم القرآن 4: 240.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *