جهود سائر أئمّة أهل البيت

جهود سائر أئمّة أهل البيت

وهكذا كان حال سائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد كانوا الحافظين لحدود الشريعة المقدّسة من أن يتلاعب بها المبتدعون، بإدخال شيء في الدين أو نقص شيء منه، وللعقائد الثابتة من الشبهات، والاُمّة من الضّلالات، وبواسطتهم انتشرت المعارف الإسلاميّة، ومنهم أخذ فقهاء المذاهب، وقد جاء ذلك كلّه بتراجمهم في كتب مخالفيهم أيضاً:
* فقد ذكروا بترجمة الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين: أنّه كان «أفضل هاشميّ في زمانه»(1) و«كان كثير الحديث»(2) وقد سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فيما رواه الفريقان عن جابر بن عبدالله ـ «سيّد العابدين»(3)، وأنّه قد روى عنه الزهري في جماعة من أكابر القوم(4).
والزهري هو الذي دوَّن السنّة لمّا أمر بذلك عمر بن عبدالعزيز، بعد قرن من منع عمر بن الخطّاب كتابة الأحاديث النبويّة.
* وبترجمة الإمام محمّد بن علي الباقر: إنّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الذي سمّاه بهذا اللّقب، في حديث جابر بن عبدالله الأنصاري الذي أشرنا إليه.
وروى ابن قتيبة: «إنّ هشاماً قال لزيد بن علي: ما فعل أخوك البقرة؟ فقال زيد: سمّاه رسول الله باقر العلم وأنت تسمّيه بقر! فاختلفتما إذن»(5).
وقال الجوهري: «التبقّر: التوسّع في العلم… وكان يقال: محمّد بن علي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الباقر، لتبقّره في العلم»(6).
وقال الزبيدي صاحب تاج العروس: «وقد ورد في بعض الآثار عن جابر ابن عبدالله الأنصاري: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: يوشك أن تبقى حتّى تلقى ولداً لي من الحسين يقال له محمّد، يبقر العلم بقراً، فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام. خرّجه أئمّة النسب»(7).
روى عنه من الأئمّة: الزهري والأوزاعي والأعمش وأبوحنيفة وابن جريج(8).
* وبترجمة الإمام جعفر بن محمّد الصادق:
عن مالك بن أنس: «اختلفت إليه زماناً، فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلّ وإمّا صائم وإمّا يقرأ القرآن. وما رأيته يحدّث إلاّ عن طهارة»(9).
وعن أبي حنيفة: «ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد.
لمّا أقدمه المنصور بعث إليّ فقال: يا أبا حنيفة: إنّ الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمّد، فهيّئ له من المسائل الشداد، فهيّأت له أربعين مسألة. ثمّ بعث إلي أبوجعفر ـ وهو بالحيرة ـ فأتيته فدخلت عليه، وجعفر بن محمّد جالس عن يمينه، فلمّا أبصرت به دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمّد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفر، فسلّمت عليه وأومأ إليّ، فجلست، ثمّ التفت إليه فقال:
يا أبا عبدالله، هذا أبو حنيفة.
قال جعفر: نعم. ثمّ أتبعها: قد أتانا. كأنّه كره ما يقول فيه قوم أنّه إذا رأى الرجل عرفه.
ثمّ التفت المنصور إليّ فقال: يا أبا حنيفة، ألق على أبي عبدالله من مسائلك. فجعلت اُلقي عليه فيجيبني فيقول:
أنتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، فربّما تبعناهم وربّما خالفنا جميعاً.
حتّى أتيت على الأربعين مسألة.
ثمّ قال أبو حنيفة: ألسنا روينا أنّ أعلم الناس أعلمهم باختلاف الناس»(10).
فهذا كلام مالك وأبي حنيفة وهما من تلامذته، وقال الآلوسي في كلام له:
«هذا أبو حنيفة يفتخر ويقول بأفصح لسان: لولا السّنتان لهلك النّعمان»(11).
وعن أبي حاتم الرازي: «لا يسئل عن مثله»(12).
وعن ابن حِبان: «كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلاً»(13).
وقال النووي: «اتّفقوا على إمامته وجلالته»(14).
وقال الشهرستاني: «قد أقام بالمدينة مدّةً يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين أسرار العلوم، ثمّ دخل العراق وأقام بها مدّةً»(15).
وقال اليافعي: «له كلام نفيس في علوم التوحيد وغيرها، قد ألّف تلميذه جابر بن حيّان الصّوفي كتاباً يشتمل على ألف ورقة، يتضمّن رسائله وهي خمسمائة رسالة»(16).
وقال ابن حجر: «ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في البلدان. وروى عنه الأئمّة الأكابر، كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني»(17).
* وبترجمة الإمام موسى بن جعفر الكاظم: إنّه كان يدعى «العبد الصالح» من عبادته واجتهاده(18).
وإنّه «إمام من أئمّة المسلمين»(19).
وقال الذهبي: «موسى الكاظم… الإمام القدوة… ذكره أبو حاتم فقال: ثقة صدوق، إمام من أئمّة المسلمين…
له مشهد عظيم مشهور ببغداد، دفن معه فيه حفيده الجواد، ولولده عليّ ابن موسى مشهد عظيم بطوس»(20).
وقال ابن حجر: «هو وارث أبيه علماً ومعرفةً وكمالاً وفضلاً، سمّي الكاظم لكثرة تجاوزه وحلمه، وكان معروفاً عند أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند الله، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم»(21).
* وبترجمة الإمام عليّ بن موسى الرضا: أنّه كان يفتي بمسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو ابن نيّف وعشرين سنة(22).
وقال الذهبي: «علي بن موسى الرضا، أحد الأعلام. هو الإمام أبوالحسن… كان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم، وكان المأمون يعظّمه ويخضع له ويتغالى فيه، حتّى أنّه جعله وليَّ عهده من بعده وكتب بذلك إلى الآفاق»(23).
وذكر أبوالفرج ابن الجوزي وغيره في خبر جعل المأمون الإمام وليّ العهد:
«وذلك أنّه نظر في بني العبّاس وبني عليّ، فلم يجد أحداً أفضل ولا أورع ولا أعلم منه، وأنّه سمّاه الرضي من آل محمّد، وأمر بالبيعة له»(24).
روى عنه من الأئمّة: أحمد بن حنبل(25).
وأخرج عنه: الترمذي وأبو داود وابن ماجة.
وروى الحافظ ابن حجر عن الحاكم أبي عبدالله قوله: «سمعت أبابكر محمّد بن المؤمّل بن الحسن بن عيسى يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر ابن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا ـ وهم إذ ذاك متوافرون ـ إلى زيارة قبر عليّ بن موسى الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه ـ يعني ابن خزيمة ـ لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا»(26).
وجاء في غير واحد من الكتب: إنّه لمّا دخل الإمام عليه السلام نيسابور راكباً، خرج إليه علماء البلد وبأيديهم المحابر والدّوى، وتعلَّقوا بلجام دابّته وحلّفوه أن يحدّثهم بحديث عن آبائه فقال: حدّثني أبي موسى الكاظم عن أبيه… عليّ بن أبي طالب قال: حدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: حدّثني جبريل قال: سمعت ربّ العزّة يقول: لا إله إلاّ الله حصني، فمن قالها دخل حصني وأمن من عذابي.
وفي رواية: إنّه روى عن آبائه عن أميرالمؤمنين عليه السلام قال: سألت رسول الله: ما الإيمان؟ قال: معرفة بالقلب وإقرار باللّسان وعمل بالأركان.
وعن أحمد بن حنبل: إن قرأت هذا الإسناد على مجنون برئ من جنونه.
هذا، وكان على رأس العلماء الذين طلبوا من الإمام أن يحدّثهم:
أبوزرعة الرازي، ومحمّد بن أسلم الطوسي، وياسين بن النضر، وأحمد ابن حرب، ويحيى بن يحيى…
وقد عدّ أهل المحابر والدّوى الذين كانوا يكتبون، فأنافوا على عشرين ألفاً(27).
* فهؤلاء ـ وسائر الأئمّة الإثنى عشر ـ هم المؤسّسون لمذهب الإماميّة، والمشيّدون لأركان العلوم الإسلاميّة.
وقد علم ممّا تقدّم:
1 ـ إنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام كان كلّ واحد منهم أعلم الناس في زمانه وأفضلهم، وقد شهد بذلك المخالف كالمؤالف.
2 ـ إنّ العلوم الإسلاميّة إنّما انتشرت في البلاد بواسطة الأئمّة عليهم السلام في كلّ عصر، فالصّحابة العلماء كابن عبّاس وابن مسعود واُبيّ بن كعب وأبي ذر الغفاري وأمثالهم، تعلّموا من أميرالمؤمنين، وكذلك التابعون قد أخذوا عنه وعن الأئمّة من بعده والصحابة من تلامذته.
3 ـ إنّ علماء المذاهب الاُخرى قد حضروا عند الأئمّة، ومنهم أخذوا وعنهم رووا، وعلى رأسهم: مالك بن أنس وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل…

(1) تهذيب التهذيب 7/304 وفي ط 268 .
(2) تهذيب التهذيب 7/304 وفي ط 268 .
(3) الصواعق المحرقة : 120 ، تذكرة الخواص : 337 ، مناقب آل أبي طالب 4/196 ، كشف الغمّة في معرفة الأئمّة 2/331 .
(4) انظر ترجمته في تهذيب التهذيب وغيره .
(5) عيون الأخبار 1/212 .
(6) صحاح اللغة «ب . ق . ر» .
(7) تاج العروس في شرح القاموس «ب . ق . ر» .
(8) تهذيب التهذيب 10/401 و9/312 ، حلية الأولياء 3/188 ، تذكرة الحفّاظ 1/124 .
(9) تهذيب التهذيب 2/89 .
(10) جامع مسانيد أبي حنيفة 1/222 ، تذكرة الحفّاظ 1/157 .
(11) مختصر التحفة الإثنى عشريّة : 8 .
(12) تهذيب التهذيب 2/89 .
(13) تهذيب التهذيب 2/88 .
(14) تهذيب الأسماء واللغات 1/155 .
(15) الملل والنحل 1/147 .
(16) مرآة الجنان 1/304 .
(17) الصواعق المحرقة : 111 .
(18) تهذيب التهذيب 10/302 ، تاريخ بغداد 13/27 ، تهذيب الكمال 29/44 ، صفوة الصفوة 2/124.
(19) تهذيب الأسماء 1/302 .
(20) سير أعلام النبلاء 6/270 .
(21) الصواعق المحرقة : 112 .
(22) تهذيب التهذيب 7/338 ، المنتظم 10/120 ، تذكرة الخواص : 351 .
(23) تاريخ الإسلام ، حوادث 201 ـ 210 ص : 269 .
(24) المنتظم في تاريخ الاُمم 10/93 ، وفيات الأعيان 2/432 وغيرهما .
(25) سير أعلام النبلاء 9/387 .
(26) تهذيب التهذيب 7/339 .
(27) أخبار اصبهان 1/138 ، المنتظم 10/120 وغيرهما .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *