التحقيق في المقام

التحقيق في المقام
أقول:
والتحقيق عدم ورود شئ مما ذكر.
وهنا مقدّمات:
الاولى: إنه ليس بين الفاعل وما يقع عليه الفعل إلاّ الفعل، فإنْ نسب المبدء إلى الفاعل سمّي بالمصدر كالإيجاد، وإنْ نسب إلى ما وقع عليه سمّي باسم المصدر كالوجود، فالمصدر واسم المصدر واحد في الحقيقة والتعدّد اعتباري، وكذا التمليك والملكيّة، فإن المبدء إذا نسب إلى المالك يقال: التمليك، وإنْ نسب إلى الشيء المملّك يقال: الملكيّة، ومن هذا القبيل الإنشاء والمنشأ، والتأثير والأثر، وغير ذلك.
الثانية: إن الموجودات على أقسام، فمنها: الجوهر، وهو ما لا يحتاج في تحقّقه إلى موضوع، ومنها: العرض، وهو ما يحتاج في تحقّقه إلى موضوع، ومنها: الوجود الذهني، وهو على قسمين، أحدهما: الوجود التصوّري، والآخر: الوجود الاعتباري، وهو ما يخترعه الذهن ويبدعه.
والملكيّة ليست من الجواهر والأعراض، إذ ليس في الخارج غير الشخص ومتاعه، بل هي أمر اعتباري كالزّوجيّة ونحوها.
والمعتبر للملكيّة تارة: هو الشخص، واخرى: العقلاء، وثالثة: هو الشارع، وربما يتحقق الاعتبار من الشخص في مورد ولا يعتبر العقلاء والشارع، كبيع الطير في الهواء، وربما يعتبر الشخص والعقلاء، والشارع لا يعتبر كالبيع الغرري، وربما يعتبر الكلّ، كبيع زيد داره وغير ذلك من البيوع.
الثالثة: إن الأمر الاعتباري يتقوّم دائماً بالمعتبر، والقول بأنّ العقد سبب وآلةٌ، مجاز، وإلاّ فليس للفظ بعت واشتريت دخل في تحقق الملكيّة، لأنّ اللّفظ أمر خارجي، والملكيّة أمر اعتباري نفساني، ولا يعقل أن يكون الأمر الاعتباري مسبّباً للأمر الخارجي. نعم، اللّفظ مبرز للاعتبار، وبهذه المناسبة يعبّر عنه بالآلة والسّبب مجازاً.
فالرّضا بالبيع شرط للاعتبار وجزءٌ للموضوع الشرعي.
الرابعة: كلّ عقد صادر من الوكيل، فإنّ صدوره ينسب إلى العاقد الوكيل لأنه الفاعل له، ولا ينسب إلى الموكّل المالك، إلاّ كنسبة الحدث إلى اسم المصدر.
وقد تحصّل مما ذكرنا:
إنه لا يعقل أنْ يكون الاعتبار في وقت، والمعتبر في وقت آخر، لأنهما واحد حقيقةً.
وإنه في كلّ مورد لم يتطابق اعتبار الشارع مع اعتبار العقلاء ـ كما في البيع الغرري ـ فالملكيّة العقلائيّة متحقّقة، لأنّ الاعتبار العقلائي موجود.
وعلى هذا:
فما جاء في أوّل الإشكالات من أنّ الرّضا شرط للملكيّة ـ متقدّماً أو مقارناً ـ صحيح، لكنّ الجواب هو أنه شرطٌ للملكيّة الشرعيّة، وهو متقدّم عليها، فالإشكال مندفع.
وبه يظهر الجواب عن الإشكال الثاني.
وأمّا الثالث ففيه:
إنّ غاية ما ذكر اشتراط استناد البيع أو العقد أو التجارة إلى المالك، وإلاّ فلا حليّة ولا يجب الوفاء، ومن الواضح أن الإجازة تفيد الاستناد، ويترتب أثر الحليّة وغيرها. وأمّا اعتبار الصّدور ـ صدور البيع أو العقد أو التجارة ـ منه، فلا دلالة عليه في الآيات. وأيضاً: لو اعتبر ذلك، يلزم بطلان ما وقع وكالةً أو إذناً عن المالك.
وأمّا الرّابع:
فإنّ صاحب الكفاية قسّم المسألة إلى أربعة أقسام، ففي قسمين أجاز التمسّك بالعامّ، وذهب في الثالث إلى استصحاب حكم المخصّص، وأما في الرابع، فلا التمسّك بالعامّ ولا استصحاب حكم الخاصّ.
ففي مثل (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ) و (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الَْمحيضِ) يتمسّك بالعام بعد زمان الحيض.
وكذا في ما لو قال: أكرم العلماء في كلّ يوم، ثم قام الإجماع على حرمة إكرام زيد العالم في يوم خاص، فإنّه يتمسّك بالعام في غيره.
ولو لم يكن العام مقيّداً بزمان، لكنّ الخاص مقيّد، فلا يتمسّك بالعام في غير زمان التقييد، ولا يستصحب حكم الخاص.
وأمّا لو لم يكن أحدهما مقيّداً بزمان، فإنه يستصحب حكم الخاصّ في غير اليوم الذي قام الدليل على عدم إكرامه فيه.
وقد جعل ما نحن فيه من هذا القبيل.
فنقول:
لو قال أكرم العلماء الذين في المدرسة، ثم قام الدليل في يوم الجمعة على عدم إكرام زيد، وكان السّبب في عدم إكرامه عدم كونه في المدرسة، فإنه يتمسّك بالعام لإكرامه في يوم السّبت، لأن عدم إكرامه يوم الجمعة لم يكن من باب التخصيص، وإنما كان للخروج الموضوعي.
وما نحن فيه من هذا القبيل.
وذلك، لأنّ عدم وجوب الوفاء بعقد الفضولي ما لم يأتِ الإجازة من المالك، إنما هو لعدم كون العقد مرتبطاً به، فعدم وجوب الوفاء به ليس للتخصيص بل لعدم الموضوع، لأنّ الموضوع في الآية «عقودكم».
وكذا آية الحلّ، فإن الموضوع «بيعكم» وبيع الفضولي ما لم يجز المالك ليس كذلك، فليس حلالاً لعدم الموضوع لا للتخصيص.
فظهر مما ذكرنا:
سقوط جميع الإشكالات، وأنّ الاستدلال بالقاعدة تام.]1[.

]1[ إن ما ذكره السيّد الجدّ هنا ناظر إلى ما أفاده شيخه الميرزا ـ ولم يصرّح باسمه تأدّباً ـ فإنّه قد أشكل بوجوه على استدلال الشيخ بالعمومات، لكنّه قرّب الاستدلال بها بطريقة اخرى، ثم استدل للمدّعى بالسّيرة العقلائية أيضاً على مسلكه، فلاحاجة بعد ذلك إلى الاستدلال بالنّصوص الخاصّة، كخبر عروة البارقي وغيره، وهذا نصّ كلامه بتمامه:
وأما الثاني: أعني تقريب مطابقة صحة الفضولي مع القواعد محاذياً مع ماهو المختار من اعتبار الاستناد والرضا، فبيانه يتوقف على مقدّمة، وهي إنه لا إشكال أن باب العقود والإيقاعات إنما هو باب الإيجاد والإنشاء، لكن الإيجادات تنقسم على قسمين: فمنها ما يتعلق بالامور الخارجية التي موطن وجودها وعالم تحققها هو الخارج، ومنها ما يتعلق بالامور الاعتبارية التي لاوعاء لوجودها إلاعالم الاعتبار. وبين القسمين فرق، إذ في الخارجيات يترتب وجودها على إيجادها بلا مهلة ولا يعقل التفكيك بينهما، فإذا تحقق الكسر يتحقق الانكسار أو تحقق التسخين يتحقق التسخن.

وأما في الاعتباريات، ففيها مرحلتان: مرحلة وجود المنشأ في موطن الإنشاء، وهذه المرحلة كالخارجيات لا ينفك المنشأ فيها بوجوده الإنشائي عن الإنشاء، ومرحلة تحقق المنشأ في عالم الاعتبار، وهذه المرحلة يمكن انفكاكها عن الإنشاء، وذلك فيما إذا توقف تحققه على أمر آخر من اعتباره ممن بيده الاعتبار، إذ ليس كلّ منشئ ممن بيده الاعتبار، وعلى هذا، ففي مثل ملّكتك السماء أيضاً يتحقّق المعنى الإنشائي بالإنشاء، لكنه لا تحقّق له في عالم الاعتبار.
إذا ظهر ذلك فنقول: أما الخارجيّات، فلا يخلو إما أن تقبل النيابة كالضرب ونحوه أو لاتقبل النيابة، وعلى كلا التقديرين، فشيىء منها لايقبل الفضولي، أما ما ليس قابلا للنيابة فواضح، إذ كلّما تحقق يكون مستنداً إلى مباشره محضاً. وأما ما يقبل النيابة، فإن كان بإذن من الغير سابقاً على وقوعه، يكون مستنداً إلى الآذن، وإن لم يكن مع سبق الإذن، فلايصير بالإذن اللاّحق مستنداً إلى الآذن. كما إذا ضرب ضارب وأنت تجيز ضربه بعد العلم بصدوره، وذلك، لأن ضربه هذا له جهتان، وهما جهة صدوره عن الفاعل بالمعنى المصدري وجهة صدوره وتحققه في الخارج بمعنى الاسم المصدري، وإذا استنابه في ضربه يستند الضرب إلى المنوب عنه، وإذا أجازه بعد صدوره لايستند إليه بالإجازة، لامعناه المصدري ولامعناه الاسم المصدري، أمّا معناه المصدري، فلاستحالة انقلابه عمّا وقع عليه، والمفروض أنه صادر عن الفاعل، ولايعقل أن يصير بالإجازة مستنداً إلى المجيز. وأما المعنى الاسم المصدري، فلتحققه حين الإيجاد من غير تراخ وتوقف في تحققه على أمر مترقب، والشيء الواقع لا يعقل

أن ينقلب عمّا وقع عليه، ففي مثله يستحيل تأثير الإجازة المتأخرة، فلا يتمشى فيه الفضولي بوجه من الوجوه.
وأما الاعتباريات، فما لا يقبل منها النيابة أيضاً لا يقبل الفضولي، والقابل منها للنيابة، فبالنسبة إلى المعنى المصدري، لا تؤثّر الإجازة المتأخرة في استناد إلى المجيز كما في المعنى المصدري من الخارجيّات، وبالنسبة إلى المعنى الاسم المصدري، تكون هي قابلة للإجازة بخلاف الخارجيّات، وذلك لإمكان تخلّف وقوعه عن وقوع المعنى المصدري، لأجل توقفه على أمر مترقب من اعتبار ممن بيده الاعتبار أو إجازة أو نحو ذلك، وعلى هذا، فيصير المعنى الاسم المصدري الواقف لولا الإجازة متنفذاً بالإجازة وتكون الإجازة منفذّاً له.
ومنه يظهر، أن الإجازة لابدّ من أن تقع على عقد متحقق بحيث تؤثر في نفوذه وترتيب الأثر عليه، لا أن تكون هي بنفسها مما يترتب عليه الأثر، كان في البين عقد أم لا، ويترتب على ذلك أنه يعتبر في مورد تأثير الإجازة أمران:
أحدهما: أن يكون ترتب الأثر على متعلّق الإجازة متوقفاً على الإجازة، بحيث لولاها لما ترتب عليه الأثر، فلو كان هو بنفسه مما يترتب عليه الأثر، كانت في البين إجازة أم لا، لكان خارجاً عن مورد الفضولي، وذلك كأداء الدين والزكوات والأخماس من المتبرع، حيث أن نفس تأديتها يوجب تخلية ذمّة المديون منها، بلا توقف منها على إجازة المديون، فلايقع فيه الفضولي ولايصير بالإجازة مستنداً إلى المجيز.
ثانيهما: أن تكون الإجازة تنفيذاً لفعل الفضولي ولم تكن مما يترتب عليه بنفسه الأثر

ولو لم يكن فعل فضولي في البين، ولو كان كذلك لكان خارجاً عن باب الفضولي، وذلك كما في مثل الرجوع وجميع العقود الإذنية التي يكفي فيها الإذن، حيث أن الإجازة فيها رجوع أو إذن.
إذا تبيين ذلك، فنقول: إذا كان مصبّ الإجازة هو المعنى الاسم المصدري لا المعنى المصدري لعدم قابليّته لأن يلحقه الإجازة، يكون مرجع الشك في صحّة الفضولي إلى الشك في اعتبار صدور المعنى المصدري عمّن يعتبر إجازته، فإنه لوكان صدور المعنى المصدري منه معتبراً في صحة العقد لم يكن الفضولي صحيحاً، ولو لم يكن معتبراً، لما كان مانعاً عن صحة الفضولي.
وحيث رجع الشك إلى اعتبار صدور المعنى المصدري عمّن له الإجازة، زايداً عن اعتبار استناد المعنى الاسم المصدري إليه يدفع اعتباره بالاطلاقات، حيث أنه بعد الإجازة يستند العقد أو التجارة وكلّ ما كان من نظائر ذلك موضوعاً لحكم في عام من العمومات مثل (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) ونحوه إلى المجيز، وبعد استناده إليه وكون الشك في الصحة ناشياً عن الشك في اعتباره، حيث صدور المعنى المصدري عن المجيز يدفع اعتباره ببركة الاطلاقات والعمومات، ولا يلزم حينئذ المحذور الذي أوردناه على مسلك المصنف قدّس سرّه، من أنه مع عدم الاستناد لا دلالة في العمومات، وظهر الفرق البيّن بين المسلكين، وتبيّن فساد التمسّك بالعمومات على المسلك الأوّل دون المسلك المختار بمالا مزيد عليه. هذا إذا انتهت النوبة إلى الشك في اعتبار استناد الإنشاء إلى من له الإجازة زائداً عن اعتبار استناد المنشأ اليه. ويمكن دفع الشك في ويقع البحث بعد ذلك في الأدلّة الخاصّة:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *