التحقيق في المقام

التحقيق في المقام
وتفصيل الكلام وتحقيق المقام هو:
إنّ المعاملة على ثلاثة أنحاء:
تارةً: هي إباحة بعوض معيّن، واخرى: هي معاملة معاطاتيّة، وثالثة: هي معاملة تمليكيّة إنشائيّة باللّفظ.
فإن كانت بالنحو الأوّل ـ كما هو المتداول في الدخول إلى الحمّام، حيث يبيح صاحب الحمام التصرّف في الماء بعوض معيّن يوضع في المكان المخصّص له وإنْ لم يكن حاضراً ـ فالتحقيق أنها معاملة صحيحة، سواء كانت من الكبير أو الصبيّ إذا كان بمنزلة الآلة، لكونه آلةً لإظهار الرّضا ممّن له الأمر. ويدلّ عليه ـ بالإضافة إلى مفهوم التوقيع الشريف عن صاحب الأمر: لا يحلّ لأحد… الدالّ على الحليّة التكليفيّة ـ عموم قوله تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)أي العهود، وهذا عهد من صاحب المال، بأنْ يجوز التصرّف في ماله بعوض خاصّ.
وإنْ كانت بالنحو الثاني، فقد قلنا بأنّ المناط في المعاطاة هو إيصال المال إلى الغير بقصد التمليك، والإيصال يتحقّق بإعطاء المالك بنفسه أو بواسطة شخص آخر. وكون الصبيّ آلةً في مجرّد الإيصال وفعليّة المعاملة بعد الإنشاء من البائع، لا مانع عنه.

وأمّا قول الشيخ:
ودعوى حصول الإنشاء بدفع الولي المال إلى الصبيّ. مدفوعة: بأنه إنشاء إباحة لشخص غير معلوم، ومثله غير معلوم الدخول في حكم المعاطاة مع العلم بخروجه عن موضوعها.
فعجيب جدّاً، لعدم ارتباطه بالبحث، لأنّ الشّخص غير المعيّن يكون نكرةً، والنكرة بما هي كذلك لا يحكم عليها بشيء، ولا يترتب عليها أمر وضعي، لأن النكرة لا تعيّن لها لا ماهيّة ولا هويّة، وقد بيّنا هذا في بحوثنا كراراً. ولكنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، وإنما يعطى المال للصبيّ لأنْ يكون واسطةً في الإيصال لكلّي الآخذ، وكون الآخذ غير معلوم غير مضرٍّ بصحّة البيع، نظير ما تقرّر في الواجب الكفائي.
فكون الصبيّ آلةً في المعاملة المعاطاتيّة لا مانع عنه.
وإنْ كانت بالنحو الثالث، فعلى القول بأنّ عمد الصبي كلا عمد، ـ لأحاديث «عمد الصبيّ خطأ» لأنّها كناية عن لازم الخطأ وهو نفي العمد ـ لا يترتب الأثر على إنشاء الصبيّ، لأنّ الإنشاء يتوقف على القصد، والمفروض سلب الاعتبار عن قصده، ولكنّ التحقيق عدم تماميّة الاستدلال بالأحاديث على ذلك:
أمّا أوّلاً: فلأن الكناية خلاف الأصل.
وأمّا ثانياً: فلأن جعل هذه الأحاديث من باب الكناية بالنحو المذكور بعيدٌ عن الصّواب جدّاً.
ولذا قلنا بأن هذه الأحاديث معناها أن أثر الخطأ يترتب على العمد، وهو مختصّ بمورد وجود الأثر على الخطأ بما هو خطأ، فتكون أجنبيّة عن مباحث المعاملات.
وإنْ قلنا بأنّ مدلول أحاديث رفع القلم هو: أنّ كلّ أمر وضعيّ يراد ترتّبه على عمل الصبيّ، سواء كان من قبل نفسه أو كان آلةً، فهو مرفوع، أمكن القول بالبطلان. ولكنْ قد تقدّم أنّ تلك الأحاديث غير ظاهرة في هذا المعنى.
إذن، الصبيّ الذي يقدر على إنشاء الصّيغة، يصحّ أنْ يكون آلةً في إنشائها في مال نفسه بإذن وليّه أو في مال غيره بإذن المالك أو توكيله، للعمومات.
فإن قلت:
مقتضى إطلاق الرواية عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: «لا يجوز أمر الغلام في الشراء والبيع(1)» ومفهوم ما دلّت عليه النصوص من أنه «إذا بلغ الحلم جاز أمره(2)» عدم جواز كون الصبيّ آلةً، بل عدم جواز معاملاته في أمواله بإذن الولي وفي أموال غيره بإذن المالك.
ويؤيّد الإطلاق خبر محمد بن مسلم عن أبي جعفر(3) وعبيد بن زرارة عن أبي عبدالله في رجل وهب ماله إلى أولاده، قال: «… لأن الوالد هو وليّ أمر الصغار…»(4) فإنه يفيد أن قبض الصبي لا قبض كما ذكر العلاّمة(5).
وعن علي بن رئاب عن موسى بن جعفر عليه السلام: عن رجل مات وله مماليك وجواري، «فماترى فيمن يشتري منهم الجارية فيتخّذها امّ ولد؟ فقال: لابأس بذلك إذا باع عليهم القيّم»(6) فإن ظاهر إطلاقه عدم كفاية الإذن من القيّم.
وعن علي بن يقطين عن موسى بن جعفر عليه السلام في رجل أوصى إلى امرأة وولد صغير قال عليه السّلام: الوصاية للمرأة.(7) ومن المعلوم أن الوصاية بمثابة الوكالة بعد الموت، فهذا الخبر يدلّ على عدم جواز تصرف الصبي في مال غيره بالوكالة عنه.
قلت:
إنّ كلمة «الأمر» مضافة إلى «الغلام»، بمعنى كون زمام أمر الصبيّ بيده، فالرّواية ظاهرة في عدم استقلال الصبيّ في تصرّفاته وأنّها بدون الإذن غير نافذة، فلا إطلاق للّرواية حتّى تدلّ على المنع من التصرّف في ماله بإذن وليّه أو في مال غيره بإذن أو وكالة منه، لأنه إذا وقع كذلك كان صادراً في الحقيقة من الولي والمالك، ولذا قال فخر المحققين: إن العقد إذا وقع بإذن الوليّ كان كما لو صدر منه، فيكون صحيحاً(8) فإذا كان الصبيّ آلةً كان أولى بالصحّة.
وأمّا رواية الهبة، فإن قبض الوليّ قبض المولّى عليه، فعدم ذكر قبض الصبيّ لا يدل على عدم صحته بإذن من الولي.
وأما رواية علي بن يقطين في الوصاية، فمعارضة بخبر تزويج ابن اُم سلمة اُمّه من رسول الله صلّى الله عليه وآله، لأنه إذا جازت وكالة الصّغير في النكاح جازت في البيع والشراء بالأولويّة، إلاّ أن يخدش فيه بضعف سنده، وأنه يمكن أنْ يكون من خصائصه صلّى الله عليه وآله، فيجاب عن رواية ابن يقطين بجواز الفرق بين الوكالة في الحياة والوكالة بعد المماة.
وحينئذ، فإنّ العمومات من (وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ) و (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض)و (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وغيرها محكّمة، إلاّ صورة الاستقلال، وصورة التفويض الكلّي من الوليّ، فإن هاتين خارجتان بمقتضى قوله تعالى (وَابْتَلُوا الْيَتامى…). والله العالم.

(1) وسائل الشيعة 18 / 411.
(2) وسائل الشيعة 17 / 360، كتاب التجارة، الباب 14.
(3) وسائل الشيعة 19 / 178، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4 رقم: 1.
(4) وسائل الشيعة 19 / 180، كتاب الوقوف والصدقات، الباب 4، رقم: 5 .
(5) تذكرة الفقهاء 2/80.
(6) وسائل الشيعة 17 / 361، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع، الباب 15 رقم: 1.
(7) وسائل الشيعة 19 / 375، كتاب الوصايا، الباب 50 رقم: 2.
(8) إيضاح الفوائد 2/55.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *