استقرار وظائف النبوّة في أهل البيت

استقرار وظائف النبوّة في أهل البيت
هناك فرق لغويّ بين البيت والدّار، فالبيت أخص من الدّار، وهو يعني الغرفة، والدار يشتمل على الغرفة وغيرها من الأجزاء.
ولابدّ لكلٍّ من البيت والدار ـ من أيّ مادّة كان إنشاؤه ـ من حائط أو سور وسقف، ليصبح سكناً ومستقراً للإنسان ويحفظه من الحرّ والبرد ويحميه من الأذى ويستره من الأجنبي، حتى يذوق في العيش فيه طعم الإطمئنان الروحي والجسدي، وفي غير هذه الصّورة لا يصح إطلاق البيت عليه.
ولمّا كان البيت مفهوماً ما يستتب فيه الإستقرار والسكون، ولذا قالوا: البيت المسكن(1)، فإنه يمكننا إطلاق هذا العنوان على مصاديق معنوية، فيقال: فلان من بيت علم، أو من بيت تقوى. إذ المراد هنا استقرار العلم والتقوى فيه، وإلاّ فالعلم والتقوى ليسا من الأشياء التي تأخذ حيزاً خاصّاً أو تشغل مكاناً معيّناً.
وعلى الجملة، فإن «البيت» هو محلّ الاستقرار، ومن هنا يظهر معنى «بيت الله» أي «الكعبة» المكرّمة، إذ قال تعالى:
(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَأَمْنًا)(2).
وقال إبراهيم عليه السّلام:
(رَبَّنا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتي بِواد غَيْرِ ذي زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ)(3).
فقد اُضيف «البيت» إلى «الله» إضافة تشريفيّة، ولا شك أنّ المراد كون «الكعبة» محلاًّ لتوجّه الناس في عبادة الله سبحانه، فعبادة الله ومعرفته والتضرّع إليه مستقرّة في هذا المكان.
وكذلك يظهر المراد من الخبر المرويّ عن أهل البيت عليهم السّلام من قولهم:
«نحن… بيت الله»(4).
فهم موضع معرفة الله، وبواسطتهم يعرف ويعبد، وأنّ من توجّه إليهم فقد توجّه إلى الله، ومن قصدهم فقد قصد الله.
وكذلك المراد من قولهم:
«نحن… بيت الرحمة»(5).
أي: إنّ الرّحمة مستقرّة عندنا وكامنة فينا، وسيأتي في الزّيارة: «ومعدن الرحمة».
من هنا يتضح أن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام هم أهل بيت النبوّة، لما ينطوون عليه من حقائق وأسرار وخصوصيّات ربّانية لا توجد في غيرهم، لعدم وجود الأهليّة لذلك إلا لهم.
وخير دليل على انفرادهم بهذه الخصوصيّة ما جاء في الأحاديث والروايات المستفيضة التي غصَّت بها كتب المسلمين من الفريقين، بأن النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله كان يختصّ الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام بلقاءات خاصّة، حيث كان يخلو به دون حضور أحد، ويفرغ له من العلوم والمعارف أبواباً لا تحصى، ولم يحظ أحد غيره بهذه الحظوة إطلاقاً.
وقد أشار إلى هذه الحقيقة الراهنة غير واحد من كبار علماء الجمهور المفسّرين للقرآن الكريم والشرّاح للأحاديث النبويّة:
فقد قال الحافظ السّمهودي بشرح قول النبيّ صلّى الله عليه وآله: «إني تارك فيكم الثقلين…»:
الّذين وقع الحثّ على التمسّك بهم من أهل البيت النبويّ والعترة الطاهرة، هم العلماء بكتاب الله عزّ وجلّ، إذْ لا يحثّ صلّى الله عليه وآله وسلّم على التمسّك بغيرهم، وهم الّذين لا يقع بينهم وبين الكتاب افتراق حتّى يردا الحوض، ولهذا قال: «لا تقدّموهما فتهلكوا ولا تقصروا عنهما فتهلكوا ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»(6).
وقال الشيخ ملاّ علي القاري بشرح الحديث المذكور:
الأظهر هو: إنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم، المطّلعون على سيرته، الواقفون على طريقته، العارفون بحكمه وحكمته. وبهذا يصلح أنْ يكونوا مقابلاً لكتاب الله سبحانه كما قال: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)(7).
وقال نظام الدين النيشابوري صاحب التفسير المعروف، بتفسير قوله تعالى:
(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللّهِ وَفيكُمْ رَسُولُهُ)(8).
قال:
وأمّا النبيّ، فإنّه وإنْ كان مضى إلى رحمة الله في الظاهر، ولكن نور سرّه باق بين المؤمنين فكأنّه باق، على أن عترته ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً،… ولهذا قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي»(9).

(1) المصباح المنير: 68.
(2) سورة البقرة، الآية: 125.
(3) سورة إبراهيم، الآية: 37.
(4) بحار الأنوار 23 / 44، الغارات 1 / 119.
(5) الكافي 1 / 221.
(6) جواهر العقدين: ق 2، 1 / 93.
(7) المرقاة في شرح المشكاة 5 / 600.
(8) سورة آل عمران، الآية: 101.
(9) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان 2 / 221.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *