الكلام على الإشكالات في هذا المقام

الكلام على الإشكالات في هذا المقام
واُورد عليه بوجوه :
الأول :
إنّ الطريقيّة غير قابلة للجعل ، لأنّ الأمارة إنْ كانت طريقاً فجعل الطريقية لها تحصيل للحاصل ، وإنْ لم تكن ، فلا يمكن أنْ يصيّر ما ليس بطريق طريقاً . كما أن الطريقية ليست من الامور الاعتباريّة ، فلا تقبل الجعل والاعتبار .
بل إنه من العمل على طبق الأمارة ينتزع لها الطريقيّة . كما أنّ الحجيّة كذلك ، فهي غير قابلة للجعل ، بل بعد العمل وترتيب الأثر ينتزع الحجيّة للخبر مثلاً .
والجواب
أمّا أن « ما ليس بطريق لا يمكن جعله طريقاً » فدعوى بلا دليل . هذا أوّلاً .
وثانياً : لا يقول الميرزا بجعل الطريقيّة ، بل يقول : إن طريقية الخبر ـ مثلاً ـ وكاشفيّته ناقصة ، لاحتمال الخلاف ، لكنّ العقلاء يلغون الاحتمال ، وتتمّ كاشفيّته ، لأنّ الخبر عندهم كاشف غالباً عن الواقع وموصل إليه ، وهذا هو الأساس عندهم لقاعدة : الشيء يُلحق بالأعمّ الأغلب .
وأمّا أن الطريقيّة ليست من الامور الاعتباريّة .
ففيه : هناك امور اعتبارية بالذات ، وامور حقيقيّة لا اعتبارية فيها ، وأمور لها الوجود الاعتباري والوجود التكويني ، والطريقيّة من القسم الثالث ، فالقطع طريق حقيقةً ، وخبر الثقة طريق اعتباراً ، ومثلها : الملكيّة ، فملكيّة الباري وأوليائه حقيقيّة وملكيّة سائر الناس اعتباريّة .
وأمّا قول بعضهم : بأنّ الحجيّة أيضاً غير قابلة للجعل ، بل إذا جعل التكليف فإنه ينتزع منه الحجيّة ، فهي أمر انتزاعي ، ومثلها الطريقيّة .
ففيه : إنه إنْ لم تكن الطريقية قابلةً للجعل والاعتبار ، فلا معنى لانتزاعها من جعل التكليف ، لكونها إمّا من الانتزاعيّات التكوينيّة أو الاعتباريّة ، لكنّها ليست من التكوينيات من قبيل الفوقيّة للفوق ، فهي من الانتزاعيات الاعتباريّة من قبيل الملكيّة المنتزعة من « من حاز ملك » حيث تكون الحيازة سبباً للملكيّة ، والشرطيّة للوضوء المنتزعة من « لا صلاة إلاّ بطهور »(1) .
والحاصل : إنه إنْ لم تكن الطريقيّة من الاعتباريات ، فلا يعقل كونها من الانتزاعيّات الاعتباريّة .
والقول : بأنّ الحجيّة منتزعة من وجوب العمل .
فمردود : بالدليل في مقام الإثبات ، حيث فرّع وجوب العمل على الحجيّة ، ولم تفرّع الحجيّة على وجوب العمل ، فلاحظ ما روي عن الإمام عليه السلام : «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها … فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه »(2) .
والثاني :
إن ظاهر الأدّلة في باب الطرق والأمارات هو عدم الرّدع عن بناء العقلاء ، وعدم الرّدع شيء وجعل الطريقيّة شيء آخر .
والجواب
صحيح أنْ لا تأسيس للشارع هنا ، ولكنْ دعوى أنه مجرّد عدم الرّدع ، غير مسموعة ، بل الواقع هو الإمضاء وهو أمر وجودي يكشف عنه عدم الردع ، ومعنى الإمضاء جعل المماثل لاعتبار العقلاء ، فللشارع جعل . . . وهذا ظاهر الأدلّة في مقام الإثبات مثل قوله تعالى ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ )(3) وقوله عليه السّلام : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنّا ثقاتنا »(4) .
والثالث :
لزوم نقض الغرض ، لأنّ للشارع غرضاً من الحكم الواقعي ، فإذا جعل الطريقيّة للطريق والأمارة انتقض غرضه ، وقد أوردتم على الشيخ هذا الإشكال ـ لزوم نقض الغرض ـ فهو يتوجّه على القول بأنّ المجعول هو الطريقيّة أيضاً .
والجواب
إنه غفلة عن كلام الميرزا ، فإنه يرى أن الغرض تارةً : يتعلّق بما لا يمكن رفع اليد عنه لأهميّته كالدّماء ، فهنا يجعل الاحتياط للتحفّظ عليه ، واخرى : ليس كذلك ، بل الغرض يحصل بالجعل والاعتبار ، فإنْ وصل بطريق متعارف فهو وإلاّ فلا يقتضي لزوم التحفّظ عليه ـ حتى في ظرف الشك ـ بجعل الإحتياط . والطرق من هذا القبيل ، ومن هذا القبيل أيضاً : الاصول غير المحرزة ، فإنّ الغرض المترتّب على الواقع ليس بحيث يريده الشارع حتّى في ظرف الشك .
والرابع :
لزوم تفويت مصلحة الواقع .
والجواب
إن هذا أيضاً ناشئ من عدم التأمّل ، لأن الميرزا يرى تقدّم مصلحة التسهيل من جعل الطرق على الأغراض ، وقد حلّ العراقي نفسه المشكل بهذا المسلك . هذا أوّلاً .
وثانياً : إن الميرزا قد وافق الشيخ على القول بالمصلحة السّلوكية ، فلا يلزم تفويت المصلحة .
لقد ظهر عدم ورود شيء من الإشكالات ، وأنّ الذي عليه بناء العقلاء في الطرق هو عملهم بها من جهة كونها طريقاً وكاشفاً ، والأصل في ذلك هو غلبة إصابة الطّرق للواقع وحصول الظنّ القويّ به بواسطتها ، بحيث أنّهم يلغون احتمال الخلاف ، فإذا قام خبر الثقة ـ مثلاً ـ رأوا الواقع والحقيقة … والشارع قد أمضى هذا البناء العملي من العقلاء .
أقول :
لكنّ المهمّ هو مساعدة مقام الإثبات ، فليس في الأدلّة ما يفيد بصراحة أنّ الشارع جَعَل الطريقية في مورد الطّرق والأمارات ، بل الذي جاء في النصوص وجوب « الأخذ » بخبر الثقة ، وهو غير جعل الطريقية ، كما في الأخبار الواردة في: « عمّن أخذ معالم ديني »(5) . وفيها جعل « المؤدّى » كقوله عليه السّلام : « العمري وابنه ثقتان فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان »(6) لكن جعل المؤدى غير جعل الطريقية إلاّ بالدّلالة الالتزاميّة ، أي : بما أنه طريقٌ كاشف عن الواقع يؤدّيان عن الإمام ، فلولا الطريقيّة لم يكن قولهما مؤدّياً عن قول الإمام ، بل إنّ هذه الرواية واردة في مورد السّيرة العقلائيّة القائمة على كاشفيّة قول الثقة عن الواقع .
نعم ، الخبر الظاهر في الطريقية هو قوله : « لا عذر لأحد … »(7) . لكنْ في السند « إبراهيم المراغي » وهو غير موثّق .
وقد يمكن استفادة الطريقيّة من مفهوم آية النبأ ـ بعد تسليم الدلالة ـ على تأمّل فيه .
وعلى الجملة ، فما ذهب إليه الميرزا في الطرق والأمارات من أنّ المجعول فيها هو الطريقية ، تام ثبوتاً وإثباتاً .

(1) وسائل الشيعة 1 / 315 ، الباب 9 من أبواب أحكام الخلوة .
(2) وسائل الشيعة 27 / 137 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 1 .
(3) سورة البقرة : 275 .
(4) وسائل الشيعة 27 / 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 40 .
(5) وسائل الشيعة 27 / 148 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 34 .
(6) وسائل الشيعة 27 / 138 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 4 .
(7) وسائل الشيعة 27 / 150 ، الباب 11 من أبواب صفات القاضي ، رقم : 40 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *