هل حكم العقد الفاقد لبعض الشرائط حكم المعاطاة؟

هل حكم العقد الفاقد لبعض الشرائط حكم المعاطاة؟
المحكيّ عن المحقق والشهيد الثانيين وغيرهما: أن القول الفاقد لبعض الشرائط معاطاة، ولعلّهم يريدون أنّه بمنزلة المعاطاة وحكمه حكمها، وعليه، فكيف يجمع بين هذا الكلام وما اتّفقوا عليه من أنّ المعاملة الفاسدة لا يترتّب عليها شيء ووجودها كالعدم؟
قال الشيخ:
فإن قلنا بعدم اشتراط اللّزوم بشيء زائد على الإنشاء اللّفظي ـ كما قوّيناه سابقاً… فلا إشكال في صيرورة المعاملة بذلك عقداً لازماً. وإنْ قلنا بمقالة المشهور من اعتبار اُمور زائدة على اللّفظ، فهل يرجع ذلك الإنشاء القولي إلى حكم المعاطاة مطلقاً، أو بشرط تحقّق قبض العين معه، أو لا يتحقق به مطلقاً؟
أقول:
ينبغي تقديم مقدّمة فيها اُمور:
الأوّل: إنّ اللّزوم والجواز من عوارض العقد، وأمّا الشّرائط المتعلّقة بالعوضين أو المتعاقدين، فلا علاقة لها باللّزوم والجواز، بل لها ربط بعالم الصحّة والفساد، ففقدان شرائط اللّزوم أمر، وفقدان شرائط العوضين مثلاً أمر آخر، اللهم إلاّ أنْ يقال بكفاية الرّضا المستكشف ـ ولو ضمناً ـ فيتعدّى إلى المورد الفاقد لشرائط العوضين مثلاً.
وعلى الجملة، فإن موضوع البحث هنا هو العقد الفاقد لشرائط اللّزوم، ولا دخل للامور الاخرى في البحث.
والثاني: إنّ المعاوضة عبارة عن جعل العوضيّة، وجعل العوضيّة أمرٌ وجعل الرّخصة في التصرّف أمر آخر، والفرق بينهما واضح.
والثالث: التمليك وغيره من مضامين المعاملات امور إراديّة قصديّة، لكنْ لا الإرادة الباطنية، ولا هي مع إبرازها في الخارج بأيّ نحو، بل هي إيجاد ما في الضمير في الخارج على النحو المعتبر، المعبَّر عنه بالإنشاء، فهو يُوجد مراده النفسانيّ وينشؤه في الخارج، وعليه، فالمناط هو المراد النفساني والجاعل له النفس الناطقة الإنسانيّة، لكن مع الجعل خارجاً، فإنْ اعتبرنا اللَّفظ الخاصّ فهو، وإنْ قلنا بكفاية أيّ مبرز كان ـ كما عليه السيّد رحمه اللّه ـ كفت المصافقة والكتابة والإشارة والإمضاء.
والرابع: المتعاملان، تارةً: يقصدان التسبّب إلى الاعتبار الشرعي للملكيّة واللّزوم، وهما يعتقدان بأنّ العقد الفاقد الذي أو جداه سبب لما يعتبره الشارع، واُخرى: هما غير ملتفتين إلى السببيّة الشرعيّة وعدمها، أو هما جاهلان بما يراه الشارع سبباً. وأمّا أنْ يوجدا عقداً كذلك وينسبانه إلى الشارع مع العلم بعدم مشروعيّته، فبعيدٌ جدّاً.
والخامس: إن الإنشاء بالقول الفاقد لبعض الشرائط، تارةً: غير متعقّب بوصول العوضين وإيصالهما، فهذا لا أثر له إلاّ على قول الشهيد والمحقّق الثّانيين من أنّ القول الفاقد لبعض الشرائط وإنْ لم يكن عقداً لازماً إلاّ أنه معاطاة، فيكون لمثله اقتضاء التأثير، ولكلٍّ من الطرفين أنْ يتصدّى لأنْ يتناول ما تقاولا عليه، وحينئذ يترتّب عليه أحكام المعاطاة من الملزمات وغيرها، فلو نقل أحدهما الشيء قبل أنْ يتناوله بنقل لازم إلى ثالث لزمت المعاملة.
واخرى: يتحقّق الوصول مع تراضيهما من دون إيصال منهما.
وثالثة: يتحقّق الوصول بغير رضاً منهما، كأن يكون قهراً عليهما وإجباراً لهما.
ورابعةً: يتعقّب بالإيصال بعنوان الجري على مقتضى العقد.
وخامسةً: يتحقّق إنشاء التمليك ثم يتعقّبه الإقباض والإيصال بقصد التمليك عملاً، إحتياطاً أو تأكيداً للإنشاء القولي.
وسادسةً: أن ينشئ العقد ثم يُقبض الشيء بداعي الإذن في التصرّف حتى لو كان العقد القولي فاسداً، مع علمه بفساد العقد أو جهله بذلك.
فالصّور ستة. نعم، تبقى صورة ما إذا تحقّق الإيصال بلا عقد لفظيّ مطلقاً ولا معاطاة من الطرفين، كدخول الحمّام ووضع الفلوس في كوز الحمّامي، حيث لم يستبعد الشيخ أنْ يكون معاطاة، وسيأتي التحقيق فيها.
أمّا في صورة عدم الإيصال والوصول، فقد قال المحقق والشهيد الثانيان بكونه معاطاةً. قال الأوّل: وإنْ كان غير ما قلناه يكون معاطاة(1): أي: إنّ نفس العقد الفاقد للشرائط يكون معاطاة مع الرضا بالتصرّف، حتى لو جاء وأخذ ولم يكن إعطاء من الطرفين أصلاً. وفيه:
أوّلاً: إن المعاطاة مفاعلة من العطاء، والمفروض عدم تحقّقه، فلذا عبّرا بالمعاطاة، أللّهم إلاّ أن يكون المراد أنه في حكم المعاطاة، كما ذكرنا.
وثانياً: الشرائط التي ذكراها هي الشرائط التي يذكرها الفقهاء للعقد المؤثّر شرعاً، فلو لم تكن الشرائط فلا ملكيّة ولا إباحة. أمّا الملكيّة، فلعدم الشرائط، وأمّا الإباحة، فلعدم الشرائط، وأمّا الإباحة، فلعدم التّسليط الخارجي حتى يكون متضمّناً للإباحة المالكيّة، فبأيّ وجه يكون ترتب حكم المعاطاة.
وثالثاً: قوله مع الرّضا بالتصرّف. إن أراد الرّضا الباطني، فلا دليل على تأثيره، اللّهم إلاّ من باب شاهد الحال، لكنّ هذا لا ربط له بالمعاطاة لأنّها معاوضة، بحيث لو تحقّق شيء من الملزمات ثبت الضّمان بالمسمّى، أمّا الرّضا الباطني المستكشف من شاهد الحال، فلا وجه لأنْ يكون معاطاة.
فالقول المذكور ساقط. اللهم إلاّ أن نتأوّله بأنّ العقد الفاقد لبعض الشرائط تشمله العمومات، والمراد من الشرائط هي شرائط اللّزوم، فإذا فقد بعضها أفاد العقد الملكيّة غير اللاّزمة، وهذا هو حكم المعاطاة.
لكن مقتضى العمومات المستدلّ بها على المعاطاة هو الملكيّة اللاّزمة، سواء تحقّق الإيصال والوصول أو لم يتحقّق.
وأمّا إذا تحقّق العقد اللّفظي الفاقد لبعض الشرائط، ثمّ حصل الإعطاء بداعي التمليك، إمّا تأكيداً للعقد اللّفظي أو احتياطاً أو علم بأنَّ الإنشاء اللّفظي غير مؤثّر، فهذا معاطاة بلا ريب.
وأمّا الإيصال بمقتضى الجري على المعاملة، أو الوصول بلا إيصال من الطّرف بل قهراً عليه، ففي هاتين الصّورتين قالوا: بالفساد، لعدم كونه مؤثّراً في الملكيّة والإيصال لم يكن برضىً مستقل، فهو لغو، والوصول القهري فاسدٌ بالأولويّة. قال الشيخ.
وهذان الوجهان ممّا لا اشكال فيه في حرمة التصرّف في العوضين.
إلاّ أنّ ما ذهبوا إليه إنّما يصحّ فيما إذا كانت الشرائط شرائط للصحّة، وأما على القول بكونها شرائط اللّزوم، فالصحيح هو القول بحصول الملكيّة الجائزة في الصّورة الاُولى من الصورتين.
وأمّا الصّورتان الباقيتان:
بأنْ ينشىء العقد ثم يعطي العوض عن رضاً لكنْ لا بالرضا العاملي، ومن دون قصد إنشاء تمليك به، ومن دون أن يكون الإعطاء جرياً على العقد، بل يعطي بقطع النظر عن العقد، فهو راض حتى لو نُبّه على فساد العقد.
أو بأنْ ينشئ العقد ثم يصل العوض وهو راض بذلك.
فالمفروض أن العقد فاقد للشرائط ولا أثر له، والإيصال الحاصل لم يكن بقصد الإنشاء ولا جرياً على العقد، فإذن، لا يوجد الإنشاء لا قولاً ولا فعلاً، لكنّ المعاملة متقوّمة بالإنشاء كما هو معلوم، ومجرّد الرّضا لا يحقّق المعاملة، فمقتضى القاعدة عدم تحقّقها.
قوله:
فإدخال هذا في المعاطاة يتوقف على أمرين: الأوّل: كفاية هذا الرّضا المركوز في النفس بل الرّضا الشأني… الثاني: إنه لا يشترط في المعاطاة إنشاء الإباحة أو التمليك بالقبض… بل يكفي وصول كلٍّ من العوضين إلى المالك الآخر… وفيه إشكال من أنّ ظاهر محلّ النّزاع… ومن أنّ الظّاهر أن عنوان التعاطي… وأن عمدة الدليل على ذلك هي السّيرة… .
أقول:
قد ذكر الشيخ في التنبيه الرّابع أنّ مجرّد الإباحة من المالك لا يكفي لجواز التصرّفات المتوقّفة على الملك، فليس للمالك إباحة جميعها، فهل يقصد فيما نحن فيه التصرّفات المتوقّفة على الملك أيضاً؟
إنّه إن لم تكن التصرّفات المذكورة جائزةً، فهذا لا صلة له بالمعاطاة، لأنّ القائلين بإفادتها الإباحة يقولون بجوازها، وقد ذكرنا أن مقتضى التحقيق بناءً على هذا القول، أنْ تكون المعاطاة مفيدة للملكيّة بشرط التلف أو التصرّفات، وكلام الشيخ ناظر إلى هذا. وعلى الجملة، فهم يقولون بجواز التصرّفات وأن المعاطاة تلزم بحصولِ واحد منها.

(1) رسائل المحقق الثاني 1 / 178.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *