نقل العينين أو احداهما؟

نقل العينين أو احداهما؟
قوله:
ولو نقل العينان أو احداهما بعقد لازم، فهو كالتلف على القول بالملك، لامتناع الترادّ. وكذا على القول بالإباحة إذا قلنا بإباحة التصرّفات الناقلة.
أقول
النقل إمّا يكون لأحدهما أو كليهما، وعلى كلٍّ إمّا بعقد لازم أو جائز، وعلى الأوّل، فإن عادت العين بحدوث حق الفسخ ـ كما لو ظهر الغبن ـ أو بإقالة أو بإرث أو هبة أو ابتياع جديد أو بتقاصٍّ، وبالجملة، فالمراد العود الملكي، فما هو الحكم؟ وهل يجري الاستصحاب؟
إنْ حصل النقل بناقل لازم، فعلى القول بالملك ـ وكذا على الإباحة بناءً على قيام دليل يجوّز له التصرّف الناقل ـ فهل الحكم هو اللّزوم، أو الجواز، بأنْ يجوز الرجوع وأخذ البدل، أو التفصيل بين ما لو باع ـ مثلاً ـ أحدهما فالجواز وما لو باع كلاهما فاللّزوم؟
التحقيق: أنه إنْ كان النقل الحاصل نقلاً ملكيّاً مطلقاً، فإنه يلتزم على كلا القولين بالملكيّة آناًمّا، فيكون مالكاً قبل النقل والعوض الآخر ملك لمن هو بيده، وإلاّ يلزم اجتماع العوض والمعوّض في ملك الواحد، ووجه اللّزوم هو: انتفاء موضوع جواز ترادّ العينين المملوكين، بالخروج عن الملكيّة بالنقل اللاّزم.
فإن قلت: المراد من الجواز في المعاطاة أنْ يثبت لكلٍّ منهما الحقُّ في استرجاع العين، فيكون النقل بمنزلة جعل الخيار للأجنبي. وبعبارة اخرى: إنه إذا نقل العين المتعلّق بها حقٌ للغير فقد باع ملكاً غير طلق، فالجواز مانع عن تحقّق موضوع العقد اللاّزم.
قلت: إنّ الجواز ـ والإباحة ـ في المعاطاة حكم وليس بحق، فالمراد منه جواز الترادّ بحكم الشارع، فليست العين متعلّقاً لحقّ الغير حتى لا تكون طلقاً.
قوله:
ولو عادت العين بفسخ، ففي جواز الترادّ على القول بالملك لإمكانه، فيستصحب، وعدمه لأنّ المتيقّن من الترادّ هو المحقّق قبل خروج العين عن ملك مالكه، وجهان، أجودهما ذلك.
أقول:
أمّا لو عادت العين بابتياع ونحوه، فمن الواضح عدم جواز الترادّ، لأنّها ملكيّة جديدة بسبب جديد ولا ربط لها بالمعاطاة، لأنّ العين التي كانت موضوع الجواز هي التي تملّكت بالمعاطاة، وأمّا لو عادت بفسخ كخيار الغبن أو الإقالة، فيمكن أنْ يقال: بأنّ الفسخ عبارة عن حلّ العقد، فالعوضان يرجعان إلى ما كانا عليه من الملكيّة الاُولى، ويكون الدّاخل في الملك بعد الخروج كأنْ لم يخرج، ويردّه: أن الفسخ إن كان مملّكاً ـ كما عليه جمع ـ فهذا تملّك جديد، نظير ما لو عادت بابتياع ونحوه، وإلاّ، فإن هذه الملكيّة ليست الاولى، لأن الملكيّة من الإضافات، وهي تتشخّص بطرفها، فبمجرّد زوال الطرف تزول الإضافة، والذي قام الدَّليل على جواز الترادّ فيه هو الملكيّة الاولى، والمفروض زوالها، فالحكم هو اللّزوم.
قوله:
فالموضوع غير محرز في الاستصحاب.
أقول:
قال السيّد: لا شك في البقاء.
ويمكن تقريبه: بأنّ المعاطاة قد اقتضت جواز ترادّ العينين، ثم حصل المانع وهو النقل اللاّزم إلى الغير، فلمّا ارتفع المانع أثّر المقتضي أثره.
فأجاب الشيخ: بأن الموضوع في الحالة السّابقة المتيقَّنة للجواز، والدليل عليه هو الإجماع، هو وجود العينين على الملكيّة الأوّلية، فلمّا عادت العينان فقد عادتا إلى ملكيّة مغايرة للملكيّة السّابقة، ولا أقلّ من الشك، فالموضوع غير محرز في الاستصحاب، والمقتضي غير باق حتى يؤثّر أثره بعد ارتفاع المانع.
وبعبارة اخرى: هل الفسخ سبب للملكيّة الجديدة كما يقول المشهور أوْلا بل إنّما يؤثّر في رجوع العقد إلى حالته السّابقة؟ فعلى القول الأوّل، لا يجري الاستصحاب، وعلى القول الثاني يجري إنْ اُحرز الموضوع، والشيخ يقول بعدم إحرازه، وهذا هو الصحيح.
قوله:
وكذا على القول بالإباحة، لأنّ التصرّف الناقل يكشف… .
أقول:
لأنّ المباح له قد حصل له الملكيّة آناًمّا قبل وقوع الناقل الملزم، وإذْ فسخ فقد عاد إلى الملكيّة قبل النقل، ولا دليل على كون هذه الملكيّة جائزةً، فلا مجال لاستصحاب الجواز.
إلاّ أنّ هنا شبهة هي: إن هذه الإباحة كانت شرعيّةً مع قصدهما الملكيّة، وهي إباحة معوّضة، فهي من شئون المعاطاة، فيمكن استصحابها بعد الفسخ.
لكنّها تندفع: بأنّ جواز الترادّ قد كان بما هما مباحان، وبعد التملّك آناًمّا خرجا عن الجواز، فالموضوع غير محرز.
قوله:
نعم، لو قلنا: بأن الكاشف عن الملك هو العقد الناقل، فإذا فرضنا ارتفاعه بالفسخ عاد الملك إلى المالك الأوّل وإنْ كان مباحاً لغيره ما لم يسترد عوضه، كان مقتضى قاعدة السّلطنة جواز الترادّ… .
أقول:
ليس المراد: أن الفسخ حلّ العقد من أصله فالملكيّة من أوّل الأمر غير حاصلة. وإنْ قيل بذلك، لأن الفسخ حلّه من حينه، فالملكيّة حاصلة. هذا أوّلاً.
وثانياً: على فرض كونه من أصله، فليس بمعنى أنّه لم يكن له ملكاً حقيقةً من أوّل الأمر، وإنّما هو تعبّد، بمثابة أنه لم يكن بملك من الأوّل، فالملك حاصل حقيقةً، والتعبّد من بعد بعدمه لا أثر له بالنسبة إلى ما تقدّم.
وثالثاً: لو سلّمنا عدم الملكيّة من أوّل الأمر، كان لازمه أنْ نقول بأن الملكيّة كانت مشروطةً بعدم مجئ الفسخ بعد ذلك، والشرط المتأخّر بلا وجه.
ورابعاً: لو كان معنى العبارة ذلك فقوله «بارتفاعه» غير صحيح، لأنه عدم لا ارتفاع. وأيضاً: قوله «عاد الملك» لا معنى له، لكونه حينئذ باقياً في ملك المالك الأوّل.
فالمعنى المذكور مردود بما ذكرناه، وغير منسجم مع عباراته.
بل يمكن أنْ يكون المراد: إن المباح له كان يجوز له البيع، فيكون إنشاؤه للبيع سبباً لأنْ يملك هو العين، ففي آن الإيجاب يكون مالكاً للعين، والمشتري في آن القبول يتلقّى الملكيّة من المباح له المالك قبل آن القبول، ثم بعد الفسخ يرتفع السبب ـ وهو البيع ـ ويرتفع المسبّبان أي ملكيّته هو وملكيّة المشتري، ويتحقّق جواز التراد.
وهل أنه مع ملكيّته لما بيده بإيجابه البيع عليه، يبقى مالكاً لما أباحه للطرف الآخر، وإنما يضمن له المثل أو القيمة للعين التي تملّكها من جهة أن بيعها بمنزلة التلف، أو أنه بمجرّد إيجابه للبيع والتملّك يصير ذاك ملكاً للطرف الآخر؟ وجهان.
قوله:
وكذا لو قلنا بأنّ البيع لا يتوقّف على سبق الملك، بل يكفي فيه إباحة التصرّف والإتلاف ويملك الثمن بالبيع، كما تقدّم استظهاره عن جماعة في الأمر الرابع.
أقول:
قد تقدّم هناك أنّ الذي يستظهر من جماعة ـ منهم قطب الدين والشهيد ـ في باب بيع الغاصب: أن تسليط المشتري للبائع الغاصب على الثمن والإذن في إتلافه، يوجب جواز شراء الغاصب به شيئاً وأنه يملك الثمن بدفعه إليه، فليس للمالك إجازة هذا الشراء ـ قال الشيخ: ـ ويظهر أيضاً من محكيّ المختلف… .
وفيما نحن فيه: المباح له يجوز له أنْ يبيع مال الغير من دون وكالة أو إذن ويتملّك الثمن، فلو فسخ العقد رجع الثمن إلى المشتري والمبيع إلى المالك الأوّل وجاز الترادّ.
وحاصله: ثبوت جواز الترادّ في هذين الوجهين.
قوله:
لكنّ الوجهين ضعيفان، بل الأقوى رجوعه بالفسخ إلى البائع.
أقول:
وهو كما قال، أمّا ضعف الوجه الأوّل، فلأنه بالفسخ يرتفع ملكيّة المشتري، ولا وجه لارتفاع ملكيّة المباح له البائع. وأمّا ضعف الوجه الثاني، فلأنّ الشيخ يرى اعتبار دخول الثمن في ملك من خرج عنه المثمن.
قوله:
ولو كان الناقل عقداً جائزاً، لم يكن لمالك العين الباقية إلزام الناقل بالرجوع فيه ولا رجوعه بنفسه إلى عينه، فالترادّ غير متحقّق وتحصيله غير واجب.
أقول:
إنه لو كان لأحدهما الخيار بالذّات، كخيار الحيوان ـ وثبوته لكليهما لا للمشتري فقط غير بعيد ـ أو بالشرط، فإنه يسقط جواز الترادّ، لخروج الشيء بالبيع عن ملكه، لأن جواز الترادّ هو استرجاع المملوك بالتعاطي، فإذا باع ارتفع موضوع الجواز، وحينئذ، لم يكن لمالك العين الباقية إلزام الناقل بالرجوع فيها ولا رجوعه بنفسه إلى عينه.
بل مقتضى الدقّة أنه إذا أرجع البائع الملك إلى نفسه بالفسخ، فإنه لا يرجع جواز الترادّ، لأن هذه الملكيّة الحاصلة بالفسخ غير الملكيّة السّابقة التي حصلت بالمعاطاة.
قوله:
وكذا على القول بالإباحة، لكون المعارضة كاشفةً عن سبق الملك.
أقول:
إن العقد التمليكي الجائز الذي يوقعه، إنما هو بعد تملّكه قبل العقد، فالمباح له قد تملّك فباع، فلو رجع بالفسخ فلا دليل على جواز الترادّ حينئذ، بل إنَّ جواز الترادّ ساقط بسقوط موضوعه.
قوله:
نعم، لو كان غير معاوضة كالهبة، وقلنا بأنّ التصرّف في مثله لا يكشف عن سبق الملك… اتّجه الحكم بجواز الترادّ مع بقاء العين الاخرى أو عودها… .
أقول:
لو كان العقد الجائز لا بعقد معاوضة كالهبة، فقد خرج الشيء عن ملك المالك، لكنّ الشيخ يرى جواز الترادّ بأن هذه الهبة إنّما وقعت في مال الغير ـ ولم يتملّك العين قبل الهبة ـ وللمالك حقّ الرجوع في الهبة، فإذا رجع عن الهبة لكون الشيء ملكاً له، تحقّق موضوع الترادّ في الرجوع عن المعاطاة.
هكذا نوضّح كلام الشيخ، بأنْ يكون الرجوع في الهبة مقدّمةً للرجوع في المعاطاة، لا أنّ بالرجوع عن الهبة يتحقق التراد.
هذا، وقد تقدّم أنّ الترادّ ردّ كلٍّ منهما واسترداده في الملكيّة، فلابدّ من المملوكيّة والترادّ من الطرفين، وهذا معقد الإجماع، فيتوجّه عليه:
إن المالك ليس له حق الرجوع، لأنّ مقتضى الأدلّة أن الحق للواهب، فهل الواهب الذي له الحق مقيَّد بكونه مالكاً؟ فهنا ليس لأحدهما الرجوع، وإنْ كان مطلق الواهب، فالمباح له هو الذي يرجع لا المالك، فما ذكره الشيخ غير تام.
أللّهم إلاّ أنْ يقال: المستفاد من الأدلّة ثبوت حقّ الرجوع في الهبة للواهب المالك، ثم يدّعى أن العلّة التامّة لهذا الحق هو حيث المالكيّة لا حيث الواهبيّة، وإذا كان كذلك فللمالك الرجوع وإن لم يكن هو الواهب.
ولا يخفى أنه تكلّف وتعسّف.
هذا أوّلاً.
وثانياً: قوله أنّ برجوع المالكِ يتحقّق موضوع الترادّ.
فيه: إنه لمّا يرجع المالك عن الهبة التي وقعت من المباح له، فإنّ العين ترجع إلى المالك على ما ذكره رحمه اللّه، ولكن ما الدليل على عود الإباحة التعبديّة الشرعيّة التي اعتبرها الشارع في المعاطاة؟ إنّ جواز الترادّ قد جعله الشارع في النقل والانتقال المعاطاتي، والحاصل بعد الهبة رجوعٌ إلى الملكيّة.
وثالثاً: إذا وهب المباح له، كانت هبته صحيحةً مؤثّرةً في الملكيّة، وبذلك تخرج العين عن ملك المبيح، ولكنْ هل خرجت بالمجانّ أو بالعوض؟ إنّه لم يكن خروجه مجّاناً، بل الواقع في مورد المعاطاة هو الإباحة الشرعيّة مع قصدهما الملك، فلو خرجت العين من يد المباح له بهبة إلى الشّخص الثالث، فقد خرجت من ملك المبيح، ودخل في ملكه عوضاً عنها ما كان بيده ملكاً للمباح له الواهب، لكون الواهب ضامناً بهبته مال المبيح بالمسمّى وإلاّ فبالمثل أو القيمة، وإذا أخذ المالك العوض لم يكن له استرداد العين الموهوبة إلى ملكه، وإلاّ يلزم الجمع بين العوض والمعوّض، فجواز الرجوع محال.
وتلخّص: أنه إن كان العقد الناقل جائزاً غير معاوضي، فالمعاطاة لازمة كالصّورة السّابقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *