تلف احدى العينين

تلف احدى العينين
قوله:
ومنه يعلم حكم ما لو تلف احدى العينين أو بعضها على القول بالملك.
أقول:
لأنّ القدر المتيقّن من الجواز بناءً على الملك هو وجود العينين، لأنّ الترادّ كان في صورة وجودهما بتمامهما، وأمّا مع تلف أحدهما أو بعضه، فالمرجع عمومات اللّزوم.
قوله:
وأمّا على القول بالإباحة، فقد استوجه بعض مشايخنا ـ وفاقاً لبعض معاصريه تبعاً للمسالك ـ أصالة عدم اللّزوم، لأصالة بقاء سلطنة مالك… .
أقول:
وجه القول بعدم اللّزوم هو: إنّ كلاًّ منهما كان يجوز له التصرّف بما في يده، فلو تلف أحد العوضين فلا دليل على تملّك الآخر، بل إنّ الذي تلف ما كان بيده يحكم عليه بدفع البدل، عملاً بدليل السّلطنة الثابتة للطّرف المقابل.
قوله:
وفيه: أنها معارضة بأصالة براءة ذمّته عن مثل التالف أو قيمته… .
أقول:
قال السيّد: لا معارضة بين الأصل والدّليل، بل الدّليل مقدَّم.
لكنّه غفلة عن كلام الشيخ، فقد تمسّك بأصالة السّلطنة لا قاعدتها، لأنّه بعد تلف احدى العينين واحتمال كون العوض الموجود بيد الآخر ملكاً له، فلا مجرى للقاعدة، لعدم إحراز كونه مالكاً له، فصدق «أموالهم» عليه غير معلوم، لكنه مجرى للاستصحاب، فيستصحب بقاء المال على الملكيّة السّابقة وتترتب عليه السّلطنة، وتكون ذمّة من تلف بيده مشغولة بالبدل، فلا يرد الإشكال، وما ذكره هو الصحيح.
إلاّ أنه يقع التعارض بين الإستصحاب وأصالة عدم اشتغال ذمّة من تلف عنده المال عن المثل والقيمة، فيتساقطان، ولا يبقى دليل للرجوع في العين الموجودة.
وممّا ذكرنا ظهر أن الصحيح هو التعبير بأصالة عدم اشتغال الذمّة لا براءتها، لأنّ أصالة البراءة أصل حكمي ولا يجري الأصل الحكمي مع وجود الأصل الموضوعي، لا سيّما الاستصحاب، إلاّ أن يكون مراده ما ذكرناه.
قوله:
والتمسّك بعموم على اليد هنا في غير محلّه، بعد القطع بأنّ هذه اليد قبل تلف العين لم تكن يد ضمان، بل ولا بعده، إذا بنى مالك العين الموجودة على إمضاء المعاطاة ولم يرد الرجوع، إنما الكلام في الضّمان إذا أراد الرجوع، وليس هذا من مقتضى اليد قطعاً.
أقول:
حاصله: إن الضّمان إنما يكون فيما لو كانت اليد يد ضمان من أوّل الأمر، ولكنها ليست كذلك. وأيضاً، لو لم يرد صاحب المتاع الرجوع لأخذه فذمّته غير مشغولة بالبدل، إنما يكون الإشتغال لو أراد الرجوع، وعلى هذا، فمعنى التمسّك بالقاعدة هو أن يده على الثمن كانت يد ضمان تعليقي، والقاعدة لا تفيد الضّمان التعليقي أصلاً.
وتلخّص: لزوم هذه المعاملة.
وقوله:
لكن يمكن أنْ يقال: إن أصالة بقاء السّلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة، مع أنّ ضمان التالف ببدله معلوم، إلاّ أنّ الكلام في أنّ البدل هو البدل الحقيقي، أعني المثل أو القيمة أو البدل الجعلي، أعني العين الموجودة، فلا أصل. هذا، مضافاً إلى ما قد يقال… فتدبّر.
أقول:
مراده تأييد ما ذهب ما ذهب إليه صاحب المسالك ومن تبعه، ودفع المعارضة التي ذكرها: بأن أصالة السّلطنة أصلٌ سببيّ وأصالة البراءة أصل مسبّبي، والأصل السبّبيُ حاكم على المسبّبي، لأن مفاد أصالة السّلطنة هو جواز الرّجوع في المال، وعليه، فلمّا كنّا نعلم بأنّ مال أحد لا يذهب مجّاناً، فلا محالة يكون بعد رجوعه في المال الموجود، ضامناً لمثل التالف أو قيمته للّطرف المقابل، فثبوت اشتغال ذمّة من تلف عنده المال لا يبقي مجالاً لجريان أصالة البراءة. هذا ما ذكره أوّلاً.
ثم قال: بأنّا نعلم إجمالاً بأنّ صاحب المال ضامن، لأنّ المال الذي أتلفه لم يكن مجّاناً، بل كان إباحةً بعوض، فهو ضامن إمّا للعين الموجودة وعليه دفعها للطرف ولا رجوع له فيها أو لمثل التالف أو قيمته. ومع هذا العلم الإجمالي لا يجري أصالة البراءة عن الضّمان، فتكون أصالة السّلطنة جاريةً بلا معارض.
أقول: لقد كان الأولى أنْ يقول: عندنا علم إجمالي بثبوت الضّمان، فالأصلان ـ أصالة عدم اشتغال ذمّته، بتسليم العين الموجودة، وأصالة عدم اشتغالها بالمثل أو القيمة ـ يتعارضان ويتساقطان.
ثم قال: إنّ صاحب العين التالفة له سلطنة على ماله الموجود بيد الطّرف، ومقتضى عموم «النّاس مسلّطون» أن يكون له إرجاعه، والطرف المقابل المالك للثمن يرجع على من تلف عنده، بمقتضى عموم السّلطنة، فيطالبه بالبدل بعد تلفه.
هذا تمام كلام الشيخ في المقام.
وفيما ذكره نظرٌ من جهات:
الاُولى: الذي في المسالك أنه يقوّي اللّزوم بصراحة، وأمّا عدمه، فقد احتمله احتمالاً، وهذا نصّ عبارته حيث قال: لو تلف احداهما خاصّةً، فقد صرّح جماعة بالاكتفاء به في تحقق ملك الاخرى، نظراً إلى ما قدّمناه من جعل الباقي عوضاً عن التالف، لتراضيهما على ذلك، ويحتمل هنا العدم، التفاتاً إلى بقاء الملك وعموم: الناس مسلّطون على أموالهم. والأوّل أقوى، فإنّ من بيده المال فقد ظفر بمثل حقّه بإذن مستحقّه فيملكه، وإنْ كان مغايراً له في الجنس والوصف، لتراضيهما على ذلك(1).
والثانية: لقد كان الأولى أنْ يتمسّكوا بقاعدة اليد فيقولوا: لا تجري البراءة ولا معارض لقاعدة السّلطنة، لأنه من تعليق الحكم بموضوعه، لكنّ الأحكام ـ وضعيّةً كانت أو تكليفيّةً ـ معلّقة على ثبوت الموضوع، ومعنى: لو رجع ضمن، أنه لو رجع انحلّ العقد، أي: إنه إن كان المال موجوداً أخذه وإنْ لم يكن موجوداً أخذ بدله، نظير رجوع ذي الخيار في زمنه على من تلف المال بيده بأخذ البدل، مع أن يده عند التلف لم تكن يد ضمان. وبعبارة اخرى: فإنّ معنى: على اليد ما أخذت… أنه إن كانت العين موجودة وجب عليه أداؤها، وإلاّ وجب عليه أداء البدل عنها.
فيرد على الشيخ:
أوّلاً: اليد يد ضمان، لأن الإباحة كانت معوّضة، فقوله: «ليست يد ضمان» غير تام.
وثانياً: قوله: إنه لو رجع ضمن بالبدل، معناه: إنه إنْ رجع يكون الطرف ضامناً، ومعنى الرجوع هو الفسخ، فيأخذ العين إن كانت وإلاّ فبدلها، وكان الأولى أنْ يقال: أصالة السلطنة معتضدة بقاعدة اليد.
وعلى ما ذكرنا في تصحيح كلام الجماعة، فلا حاجة إلى الوجوه التي أقامها الشيخ رحمه اللّه لتأييد ما ذهبوا إليه.
الثالثة: والوجوه هي:
1 ـ إنّ أصالة بقاء السّلطنة حاكمة على أصالة عدم الضمان بالمثل أو القيمة. وتقريبه: إن الشكّ في اشتغال ذمّته وعدمه، مسبَّب عن أنْ يكون له حقّ الرجوع أوْ لا يكون، وقاعدة السّلطنة تفيد أن له الرّجوع، وإذا جرى الأصل في ناحية السبب لم يبق شك في اشتغال الذمّة.
وفيه: عدم جريان الحكومة هنا، لأنها مشروطة بأنْ تكون السببيّة شرعيّةً وهي هنا عقليّة، بل الأصل هنا في الحقيقة مثبت، لأنّ أصالة السّلطنة تثبت حقّ الرّجوع، وإذْ لا يكون مال الآخر مجّاناً، فلازم السّلطنة براءة الذمّة.
بل لو أردنا إحراز قانون الشك السببيّ والمسبّبي مع النظر إلى اللّوازم، جاز أن يكون المورد بالعكس، بأنْ يكون الشكّ في الرجوع وعدمه مسبّباً عن الشكّ في اشتغال الذمّة بالبدل وعدمه، ويكون الحاكم استصحاب عدم الضّمان.
2 ـ إنّ ضمان التالف ببدله معلوم، إلاّ أنّ الكلام في أن البدل هو… .
فإمّا يريد: أنا لمّا نعلم بالإجمال بالضّمان، فلا أصل يعيّن ضمان البدل الجعلي وهو المسمّى، أو البدل الحقيقي وهو المثل أو القيمة، حتّى يجري أصالة عدم ضمان الآخر، فلا تجري البراءة عن المثل أو القيمة. أو يريد: اِنا لمّا نعلم إجمالاً بالضّمان، فإن أصالة عدم ضمان المسمّى تتعارض مع أصالة عدم ضمان البدل الحقيقي، وإذا تساقطا، فلا أصل يكون معارضاً لأصالة السلطنة.
وفي كلا الوجهين إشكال، وإنْ كان ظاهر بيان السيّد وروده على أحدهما فقط، لعدم جريان أصالة السّلطنة على كلّ تقدير، لأنّ معنى جعل الشارع البدل ـ وهو المسمّى أي العين الموجودة ـ كونها بدلاً عن الملك التالف بيد الآخر، لأنه قبل التلف صار ملكاً لمن تلف عنده آناًمّا، فتكون العين الموجودة ملكاً للطرف بحكم الشارع، وحينئذ، فقول الشيخ بالمعارضة ـ بين أصالة عدم جعل الشارع العين الموجودة بدلاً، وأصالة عدم اشتغال الذمة بالمثل والقيمة، وأنهما يتساقطان وتبقى أصالة السّلطنة بلا معارض ـ فيه:
إنّا قد ذكرنا سابقاً أن الأصل بقاء الملكيّة، والسّلطنة من آثارها وأحكامها ـ وقد احتملنا أن يكون هذا مراد الشّيخ من أصالة السّلطنة ـ ومقتضى ذلك هو عدم كون هذا الموجود بدلاً مجعولاً من الشارع، لكنّ هذا الاستصحاب معارضٌ بأصالة عدم اشتغال الذمّة بالمثل والقيمة، فيتساقطان، ولا يبقى موضوع لأصالة السّلطنة.
وإنْ اُريد من البدل الجعلي ما جعله المتعاطيان بدلاً، دار الأمر بين أن يكون الموجود بدلاً عن التالف أو يكون من تلف ما عنده مشغول الذمّة بالمثل أو القيمة، وحينئذ نقول: إنّ بدليّة هذا الموجود حاصلة من المتعاملين، والشارع قد أمضى ذلك، ومع الشك نستصحب بدليّة العين الموجودة، ونستصحب أيضاً الحالة السّابقة لجعل المثل والقيمة بدلاً، وهي عدم البدليّة، فالأصل كون العين الموجودة بدلاً، والأصل عدم اشتغال الذمّة بالقيمة والمثل، فالأصلان يجريان ولا منافاة بينهما.
ولو تعبّدنا بكون العين الموجودة هي البدل، فلا معنى للسّلطنة، لأنها لا تجري في الملك المضمون به.
وتلخّص: إنه إن كان المراد جعل الشارع، فلا موضوع لأصالة السّلطنة، وإنْ كان المراد جعل المتعاطيين، فلا مجرى لأصالة السّلطنة.
فهذا الوجه لعدم اللّزوم ساقط كذلك.
3 ـ إن عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على السّلطنة على المال الموجود بأخذه، وعلى المال التالف بأخذ بدله الحقيقي وهو المثل أو القيمة. فتدبّر.
أي: ومعه، لا مجال لجريان أصالة البراءة عن البدل، لأن القاعدة دليل اجتهادي حاكم عليها، ولا معارض للقاعدة، فلا لزوم.
وفيه: إن الموضوع في الحديث هو «أموالهم» وهذه الإضافة مالكيّة، وكلّ متلبّس بالإضافة فهو ظاهر في الفعليّة، ففقه الحديث هو كون الناس مسلَّطين على أموالهم التي هي أموالهم بالفعل، فيكون ظرف السّلطنة هو ظرف الملكيّة، فلا يعقل أن يقال: بأنّ الإنسان مسلّط الآن على ما كان مالاً له سابقاً وهو تالف الآن، لأنّ الإضافة تنعدم بانعدام طرفها، والتالف ليس الآن مصداقاً لـ«أموالهم»، وأمّا كونه مسلّطاً الآن على بدل التالف، فهذا معناه أنْ يكون الحكم محقِّقاً لموضوعه، وهذا باطل.
إذنْ، لا وجه للتمسّك بعموم قاعدة السّلطنة لوجوب البدل، ولعلّه الوجه في الأمر بالتدبّر.
والمختار: إن التلف مطلقاً مفيد للّزوم، سواء على القول بالملك أو الإباحة، ـ إلاّ على قول صاحب الجواهر من قصدهما الإباحة من أوّل الأمر ـ لأن القدر المتيقَّن من دليل الجواز ـ وهو الإجماع ـ وجود العوضين.
قوله:
ولو كان أحد العوضين ديناً في ذمّة أحد المتعاطيين… .
أقول:
هذا الكلام مبنيٌّ على عدم لزوم صدور الفعل من الطّرفين في المعاطاة، وهذا هو الصّحيح.
وأيضاً: فإنه إنْ كان من عليه الدين هو المشتري، فذاك يوجب، والمشتري بأخذه يقبل، وما في الذمّة هو الثمن، وإنْ كان العكس، بأنْ كان البائع هو الدّين، فالمبيع ما في الذمّة والذي يدفع خارجاً هو الثمن، فالمديون المشتري يعطي الثمن والبائع يأخذه والمبيع غير معطى، فإعطاء المديون الثمن قبول مقدَّم وأخذ ذاك إيجاب، مؤخّر، فقول الشيخ: لو كان أحد العوضين ديناً، يراعى فيه أمران: أحدهما كفاية الفعل من طرف واحد، والآخر كفاية القبول المقدّم والإيجاب المؤخّر.
قوله:
فعلى القول بالملك، يملكه من في ذمّته فيسقط عنه، والظاهر أنه في حكم التلف، لأن الساقط لا يعود.
أقول
كون الإنسان مالكاً لِما في ذمّته غير ممكن، إلاّ أنْ يملكه فيسقط، نظير تملّك الإنسان لأحد عموديه آناًمّا وانعتاقه عليه، وهذا يبتني على أن البيع عبارة عن التمليك، بأنْ يكون حقيقة البيع تمليك العوضين، فإنه يملك آناً فيسقط، بمعنى أنه غير معقول حدوثاً وهو اعتبار عقلائي، وأمّا بقاءً، فلا يعقل بل يسقط.
فيرد عليه الإشكال: بأنّه لا يعقل أنْ يكون ثبوت الشيء علّةً لسّقوط نفسه؟
ولكن يمكن أنْ يقال: بأن لا حاجة إلى الإيراد بذلك، لأن البيع على من هو عليه إبراء وإسقاط، إذ السّقوط بحكم التلف في إيجابه اللّزوم من أوّل الأمر، فلا ملزم للقول بالملكيّة آنّاًمّا ليرد عليه ما تقدّم.
وقد علّل رحمه اللّه كون هذا السّقوط في حكم التلف بأن: السّاقط لا يعود، والسرّ في ذلك هو: إن عود الشيء ملازم لوحدته، ووحدته مباينة لتخلّل العدم، فإذا انعدم الشيء لم يكن العائد هوهو بل هو مثله.
قوله:
ويحتمل العود وهو ضعيف.
أقول:
قال السيّد: بل لا وجه له.
لكنّ الإنصاف أنه يمكن توجيهه بوجهين: بأنْ يقال بأنّ الذمّة عبارة عن عهدة الإنسان، وأي مانع من أن يعود إلى العهدة مرّةً اُخرى ما خرج عنها؟ أو لأنّ وجود الحنطة ـ مثلاً ـ في الذمّة اعتباري، وملكيّتها أيضاً اعتباري، فما كان وجوده وملكيّته اعتباريّاً لم لا يكون عائداً اعتباراً كذلك؟ والبرهان الذي ذكرناه يختصّ بالامور التكوينيّة.
إذنْ يحتمل العود.
لكنّه ضعيف، لأنّ قوام العهدة مملوكيّة الحنطة، فإذا زالت المملوكيّة ارتفعت العهدة، فلا تكون العهدة أمراً منفصلاً عن مملوكيّة الحنطة، حتى يقال بخروج الحنطة عن العهدة ثم عودها إليها، فالوجه الأوّل ضعيف.
والوجه الثاني ضعيف كذلك، لأنه إذا فرضنا قابليّة الشيء للعود، فإنّ صِرف القابليّة لا يكفي دليلاً على إثباته، فإن كان المثبت للعود الاعتباري هو جواز المعاطاة، فهذا دور، وإنْ كان غير الجواز، فما هو؟ وعلى الجملة، فلا دليل مثبت له، ومجرّد الإمكان لا يكفي دليلاً.
وبعبارة اخرى: إنّ العهدة ليست بأمر ثابت كان فيه شيء فخرج عنه ثم عاد إليه، بل العهدة واعتبار الذمّة بمشغوليّتها بالدين، فإذا سقط الدين فلا ثبوت للذمّة والعهدة، لا حقيقةً ولا اعتباراً.
فإنْ قلت: نعتبر ثبوت الدين بالفعل، فإنه بالفسخ يعود ويعتبر.
قلت: إن مفهوم العود هو أنْ يكون الشيء موجوداً فينتقل من مكان إلى آخر، فاعتبار العود ملازم لاعتبار البقاء، إذْ لا يتحقّق مفهوم العود إلاّ مع بقاء الشيء، وإلاّ كان حدوثاً جديداً، فلابدّ من أن يقال بأن الدين الساقط باق اعتباراً في ظرف السّقوط ثم يعتبر عوده إلى الذمّة، ولكنّ اعتباره باقياً في ظرف السقوط غير معقول.
فإن قلت: لِمَ لا يكون كما لو فسخ أو استقال؟
قلت: بعد الفسخ والإقالة تتحقّق ملكيّة جديدة، لا أنه تعود الملكيّة السّابقة.
فإن قلت: لِمَ لا يكون ما نحن فيه كذلك؟
قلت: لا مانع، لكنْ لا دليل.
فإن قلت: الدليل جواز المعاطاة.
قلت: إثبات إمكان العود بجواز المعاطاة يستلزم الدور، لأنّ الجواز متوقف على هذا الإمكان، فإن ثبت الإمكان من ناحية الجواز فهذا دور.
فإن قلت: لم لا يجري الاستصحاب؟ إذ المعاطاة كانت جائزة ونشكّ بسبب سقوط الدين في ارتفاع الجواز ولزوم المعاطاة، فيستصحب الجواز، فيأخذ هذا العين الموجودة وذاك المماثل لما في الذمّة.
قلت: أوّلاً: هذه المعاطاة مشكوك في جوازها من أوّل الأمر، فلا حالة متيقّنة سابقة. وثانياً: الجواز الذي كان ـ على تقديره ـ جواز ردّ الشيء إلى الملك، وما في الذمّة ليس له وجود خارجي ليعود بعد السقوط.
قوله:
والظاهر أن الحكم كذلك على القول بالإباحة. فافهم.
أقول:
يعني: إن إباحة الدَّين عبارة اخرى عن سقوطه، وإذا صدق السّقوط كان بحكم التلف، والمقصود منها هو الإباحة الشرعيّة، فإنْ كان المراد إباحة الانتفاع فقط بالدين، فلا معنى للانتفاع بما في الذمّة، وإنْ أراد إباحة جميع التصرّفات حتى المتوقفة على الملك من البيع وغيره، فإن المفروض أنها إباحة، فلا مناص من الحكم ببطلان هذه المعاطاة.
أللّهم إلاّ أن يقال: إن هذه الإباحة عبارة اخرى عن الإسقاط، كما قال المحقق الخراساني.
لكنّ هذا يحتاج إلى دليل.
وحينئذ، نبقى والأدلّة الدالّة على إباحة المعاطاة، فإنها تدلّ على ذلك في كلّ مورد ممكن، وما نحن فيه لا تمكن الإباحة فيه.
فعلى القول بالإباحة لا مناص من البطلان.
لكنّا في سعة، لأنّا نقول بإفادتها الملك.

(1) مسالك الأفهام 1 / 165 ـ 166 ط الحجريّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *