بماذا يتحقق المعاطاة؟

بماذا يتحقق المعاطاة؟
والتحقيق:
إن للوجه الأوّل ثلاثة صور:
الاولى: الإعطاء من الطرفين والثمن غير متشخّص في الخارج وإنْ كان نقداً من النقود.
والثانية: الإعطاء منهما، والثمن متشخّص كذلك، فيعطي الشيء في مقابل الثمن، وهذه الصّورة على قسمين، لأنه:
تارةً: يكون آخذاً بقصد التملّك ويعطي الثمن في مقابله.
واُخرى: يكون آخذاً لا بقصد التملّك لكنْ يقصده عندما يدفع الثمن المتشخص المتعيّن.
أمّا الصّورة الاولى حيث الإعطاء من كليهما، بأن يسأله مثلاً: بكم هذا؟ فيقول: بعشرة، فيأخذه ثم يخرج العشرة من كيسه، فيكون دفع البائع المال إيجاباً وأخذه من المشتري قبولاً، وأمّا إعطاء العشرة فأداء لما في الذمّة.
وأمّا الصّورة الثانية، حيث الثمن متشخّص في الخارج، فيعطي المال في مقابل العشرة التي بيد المشتري، فإنْ أخذه بقصد التملّك بالعوض، فقد تحقّق القبول وتمّ البيع، وكان إعطاء العشرة تسليماً للعوض الملتزم به وليس بقبول. وإنْ أخذه لا بقصد التملّك بالعوض وإنّما كان مجرّد تناول خارجي للشيء، وأعطى العشرة بقصد التملّك، كان القبول متحقّقاً بإعطائها.
فالإعطاء هو القبول، وعلى هذا، فلو أعطاه العشرة بقصد التمليك لا التملّك بالعوض، وقع فاسداً، لأن المتحقّق في الخارج تمليكان وإيجابان لا تمليك وقبول.
هذا بالنّسبة إلى الوجه الأوّل.
والوجه الثاني يتصوّر بثلاثة صور كذلك:
الاولى: أن يعطي المتاع والثمن نسيئة إلى أجل معيّن… .
فإعطاء هذا إيجاب والأخذ من ذاك قبول، وذمّته مشغولة بالثمن.
الثانية: أن يعطي المشتري الثمن فيوجب ويكون المثمن في ذمة البائع إلى أجل، ويكون بأخذه قابلاً، وهذا بيع سلم.
والثالثة: أنْ يعطي المشتري الثمن عوضاً بعنوان الاشتراء، ويأخذه الآخر على أن يكون بيعاً للمثمن الذي في ذمّته.
وهذا ما صوّره الشيخ، ونحن لا يمكننا تصوّره، لأن ذلك قد أعطى بعنوان الاشتراء والآخذ قد أخذ العوض، وكيف يكون أخذ العوض بيعاً للمعوّض، مع أنه لم يحقّق إنشاءً لا فعلاً ولا قولاً بالنسبة إلى بيعه؟
نعم، القرائن الخارجيّة تفيد ذلك، لكنّ إنشاء التمليك يحتاج إلى دالّ يدلّ عليه من فعل أو قول، وهو غير موجود.
واُضيف هنا صورة رابعة، وذلك: إنه ربما يكون المثمن في يد المشتري، كما لو كان قد استأجر داراً ثم جاء إلى المالك يشتريها منه، فيعطيه الثمن وهو في الدار، يقول الشيخ: يكون إعطاؤه الثمن اشتراءً وأخذ المالك الثمن بيع، وهذا عندنا غير تام، لأن البيع يحتاج إلى إنشاء قولاً أو فعلاً وهو مفقود.
نعم، إن التمليك من عالم النفس، فإن كان حقيقة البيع عبارةً عن العزيمة النفسانيّة فقط، والإنشاء قولاً أو فعلاً كاشف ومبرز لتلك العزيمة، تمّ ما ذكره الشيخ من أنه بالأخذ من المالك يتحقّق.
وأمّا بناءً على أنّ البيع هو أن يتحقّق للعزيمة المزبورة خارجيّة، والخارجيّة لا تتحقّق إلاّ بالفعل أو القول، فلا يتمّ ما ذكره.
إذن، لا نوافق على كلام الشيخ، لا في السّلم ولا في هذه الصّورة.
وصورة خامسة وهي: أن يكون الثمن موجوداً من قبل عند مالك الدار، فلا إعطاء للثمن من المشتري، غير أن المالك يعطي الدار، فهو موجب والمشتري قابل بالأخذ. وهذا لا إشكال فيه أصلاً.
الوجه الثالث، أنْ يكون وصول وإيصال بلا قول وفعل، وقد مثّل الشيخ بما تعارف بين النّاس من أخذ الماء مع غيبة السقّاء والخضروات ونحوها ووضع الفلوس في المكان المعدّ له، وكدخول الحمام ووضع الاُجرة في الكوز مع غيبة الحمّامي.
ولقد كان الأولى أنْ يقسّم هذا الوجه إلى قسمين. وسيأتي.
ومن أمثلة المقام: وضع الأجناس في المكان الخاصّ بها وأسعارها مكتوبة عليها، فيأتي المشتري ويأخذ ما يريده منها ويضع الثمن في محلّه المعيّن له.
قوله:
وربما يدّعى انعقاد المعاطاة بمجرّد إيصال الثمن وأخذ المثمن… .
أقول:
ربما يدّعى أن هذا بيع، لأن المناط في البيع وصول العوضين إلى طرفي المعاملة مع تراضيهما، فلا حاجة إلى قول أو فعل.
لكنّ البيع إنشاء تمليك عين بعوض، فلابدّ من الإنشاء، ولا يحقّقه إلاّ الفعل أو القول وهذا هو البيع لغةً وعرفاً، وهو المتسالم عليه بين الأصحاب، فمجرّد الوصول والإيصال ليس ببيع.
نعم، يمكن أنْ يقال: إن وضع المتاع وسعره مكتوب عليه إذنٌ عامٌّ لمن يريد المعاملة، بأن يضع الثمن المعيّن في المكان المعدّ له ويأخذ المتاع ويتملّكه عوضاً عن الثمن الذي يضعه، فإنْ تمّ استكشاف هذا الإذن في تملّك المشتري، فما ذكره الشيخ تام.
أللهم إلاّ أن يقال: بأنه لا يعتبر في المعاملة المعاطاتيّة كلّ ما يعتبر في اللّفظيّة، بل إنّ نفس وضع المتاع هناك بيع وإعطاء لكلّي المشتري، ثم يتعيَّن هذا الكلّي بمجيء الشخص وأخذه ووضع القيمة في مكانه.
فإنْ صحّ بشيء من هذه التكلّفات فهو، وإلاّ، فالوصول والإيصال لا يحقّق البيع.
وأمّا لو كان وصول ولا إيصال، كما لو كانت الدار عند المشتري، وكان لهذا المستأجر مال عند صاحب الدار، فتراضيا بأن تكون الدار للمشتري والثمن هو المال الموجود من قبل لدى صاحبها.
فهذه الصّورة لا تسمّى بيعاً أصلاً.
الوجه الرّابع:
قال الشيخ:
لا يبعد صحّته مع صدق البيع عليه بناءً على الملك. وأمّا على القول بالإباحة، فالإشكال المتقدّم هنا آكد.
والإنصاف: إن المقاولة بمالها من المفهوم مباينة للمعاملة، والقول بأنها نحو من المعاملة ممنوع. نعم، لو كان في ضمن المقاولة إنشاء تمليك وإنْ لم يكن بلفظ بعت وملّكت، كان بيعاً، بناءً على عدم لزوم لفظ خاصٍّ في البيع وأنه يكفي كلّما يتمشّى به البيع.
وهذا تمام الكلام في الوجوه.
ولا يخفى أنه مبنيّ على إفادة المعاطاة الملك، وأمّا بناءً على القول بإفادتها الإباحة، فإن كان المراد الإباحة المالكيّة فلا بأس، لأنها مؤثرة بأيّ نحو من الإنحاء اُفيدت، وإنْ كان المراد الإباحة الشرعيّة، اُشكل الأمر في كثير من الصّور.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *