الاستدلال بالآية (لا تَأْكُلُوا…)

الاستدلال بالآية (لا تَأْكُلُوا…)
قوله:
ويمكن الاستدلال أيضاً بقوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض)(1). ولا ريب أنّ الرجوع ليس تجارة ولا عن تراض، فلا يجوز أكل المال.
والتوهّم المتقدّم في السّابق…
أقول:
إن الأكل كناية عن التصرّف التملّكي، فلا يجوز في المعاملات إلاّ أن تكون تجارةً عن تراض، فإذا وقعت المعاملة وأصبح الطرف المقابل مالكاً، لم يجز للمعطي الرجوع أو الفسخ والتملّك لما أعطاه، إلاّ أن تكون تجارة عن تراض.
والتوهّم السابق جار هنا، بأنْ يقال: لِمَ لا يكون رجوعه جائزاً وموجباً لخروج المال عن كونه للغير؟ فأجاب الشيخ:
لأنّ حصر مجوّز أكل المال في التجارة إنما يراد به أكله على أنْ يكون ملكاً للآكل لا لغيره.
أي: نستدلّ بجملة المستثنى الدالّة على انحصار الأكل التملّكي في التجارة عن تراض، فإذا لم تكن، كذلك كان التملّك أكلاً بالباطل، فالرجوع لا عن تراض منهيٌّ عنه.
وقال السيّد في التعليق على قول الشيخ: «والتوهّم السابق جار هنا» قال: يعني مع دفعه(2).
أقول: لقد كان التوهّم السّابق أنه لا دلالة على اللّزوم، لأنه بالرجوع والفسخ يرتفع الموضوع وهو كون المال للغير، وكلّ حكم يدور مدار ثبوت موضوعه ولا يعقل أن يكون مثبتاً له، لا حدوثاً ولا بقاءً، ولا منافاة بين خروج المال عن كونه للغير بنحو من الأنحاء، سواء كان بالرجوع أو الفسخ أو غير ذلك، فهي ناهية عن أكل مال الغير بالمعنى الأعمّ من التصرّف فيه وتملّكه، إلاّ بالتجارة عن تراض.
لكنّ شيخنا الأستاذ قال: وفي بعض النسخ المصحّحة: والتوهّم المتقدّم في السابق غير جار هنا(3).
أقول: وهذا ليس ببعيد، لأن مساق كلام الشيخ: إن هذا أكل بنحو التملّك، والآية تحصر الأكل كذلك بأنْ يكون تجارة عن تراض. والحاصل: إن الرجوع والفسخ ليس من التملّك عن تراض، فهو غير جائز ونافذ.
قوله:
ويمكن التمسّك أيضاً بالجملة المستثنى منها… .
أقول:
ويمكن التمسّك أيضاً بالجملة المستثى منها، فإنه ـ بقتضى الفهم العرفي ـ يكون الرجوع في المال بغير رضا المالك تصرّفاً وأكلاً بالباطل.
قوله:
نعم، بعد أنْ أذن المالك الحقيقي وهو الشارع… .
أقول:
اللّهُمَّ إلاّ في كلّ مورد أذن الشارع فيه بالتصرّف، كما في خيار المجلس، فإنّه ـ لولايته العامّة المطلقة ـ قد أذن لكلٍّ من المتعاملين بفسخ المعاملة ما داما في المجلس وإنْ لم يرض الطرف الآخر، وكذا في خيار الحيوان، حيث جعل للمشتري السّلطنة على فسخ المعاملة إلى ثلاثة أيام وإنْ لم يرض البائع، وكذا في الشفعة، حيث يكون للشريك تملّك الحصّة المبيعة بدفع ثمنها للبائع وإنْ لم يرض المشتري.
قال:
ولذا كان أكل المارّة من الثمرة الممرور بها أكلاً بالباطل، لولا إذن المالك الحقيقي.
وبالجملة، فإنه في الموارد التي جعل صاحب الولاية الخيار أو السّلطنة على الرجوع، تكون الآية المباركة مخصّصةً، أمّا في غيرها، فهي دالّة على عدم الجواز.
فهذا وجه الإستدلال، والإنصاف أنه لا بأس به[1].
[1] هكذا قال السيّد الجدّ، وكأنه غير جازم بتماميّة الاستدلال، لأنه يتوقف على أنْ يكون الاستثناء متّصلاً دالاًّ على الحصر، أو يكون المراد من «الباطل» في الآية هو الباطل العرفي، وفي كلا الأمرين كلام، ولذا اختلفت أنظار الأكابر، فمنهم من وافق الشيخ في الاستدلال ومنهم من خالفه.
بل لقد اختلفت كلمات الشيخ نفسه في هذا الإستثناء، فذهب في شرائط العوضين في بحثه مع جامع المقاصد وصاحب الكفاية إلى أنه منقطعٌ، قال: «لأنَّ دلالة الآية على اعتبار وقوع إمّا بمفهوم الحصر وإمّا بمفهوم الوصف كما لا يخفى، ممنوعة لأن الإستثناء منقطع».
وفي بيع الفضولي كذلك، إذ قال: «إنّ دلالته على الحصر ممنوعة، لانقطاع الإستثناء كما هو ظاهر اللّفظ وصريح المحكيّ عن جماعة من المفسّرين…»(4).
وأيضاً، فإن القول بالاستثناء المتّصل والدلالة على الحصر، يستلزم تخصيص الأكثر، وجعل تلك الموارد كلّها «تجارةً» عرفاً مشكل، وقد حاول المحقق الإصفهاني(5) إخراج بعضها بالتخصّص، بأن الموضوع في الآية ـ بقرينة كلمة «بينكم» ـ هو المعاملات المعاوضيّة، فلا يلزم المحذور، فأشكل عليه شيخنا بما ورد في النصوص من تطبيق الإمام عليه السلام هذه الآية على القمار فقال: «كانت قريش تقامر الرجل بأهله وماله فنهاهم اللّه عن ذلك»(6) والقمار ليس معاوضةً، وفيه تأمّل، فإنّه لا يبعد كونه عندهم نوعاً من المعاوضة والمقابلة، غير أنّ الشارع نهاهم عن ذلك.
ووقع الكلام بين العلماء في المراد من «الباطل» في الآية، فإنه إنْ كان الباطل عند العرف، فالاستدلال صحيحٌ، وإنْ كان الباطل الشرعي فلا، لأنّا نحتمل احتمالاً عقلائيّاً أن يكون الفسخ من الأسباب الصحيحة للأكل لا من الأباطيل الواقعيّة، وعليه، فيكون التمسّك بالآية في المقام من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة. قاله المحقق الخوئي(7).
لكن يرد عليه: إنه لمّا كانت الخطابات الشرعيّة ملقاةً إلى العرف، فالمراد منها لا محالة ما هو الظاهر عندهم من الألفاظ، فلو أراد الشارع منها معنىً آخر غيره، لزم عليه إقامة القرينة كما هو واضح، ووجودها هنا أوّل الكلام.

(1) سورة النساء: 29.
(2) حاشية المكاسب 1 / 359.
(3) حاشية المكاسب 1 / 141.
(4) المكاسب: 127 ط الشهيدي.
(5) حاشية المكاسب 1 / 142.
(6) وسائل الشيعة 17 / 165، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الرقم: 1.
(7) مصباح الفقاهة 2 / 141.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *