الاستدلال بحديث السلطنة

الاستدلال بحديث السلطنة
قوله:
ويدلّ على اللّزوم ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ عموم قوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: الناس مسلَّطون على أموالهم، فإن مقتضى السلطنة أنْ لا يخرج عن ملكيّته بغير اختياره، فجواز تملّكه عنه بالرجوع فيه من دون رضاه مناف للسّلطنة المطلقة. فاندفع ما ربما يتوّهم…
أقول:
الظاهر أن غرضه هو الاستدلال بحديث السّلطنة في خصوص المورد وهو الشبهة الحكميّة، وإلاّ فقاعدة السّلطنة غير جارية في الشبهة الموضوعيّة حتى وإن دلّ الحديث على اللّزوم، فلو شكّ في أن العقد الواقع بيع فلا رجوع أو هبة فله ذلك؟ لم يتمسّك بعمومه، لكونه من التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، لضرورة خروج الهبة عن تحت العامّ، والمفروض هو الجهل بالعقد الواقع وأنه مصداق للخارج أو للبيع الباقي تحته.
فمراده من «يدلّ على اللّزوم» أي في خصوص الشبهة الحكميّة، ـ بخلاف الإستصحاب حيث كان يجري في كلتا الشبهتين ـ ووجه التمسّك به هو:
إنّ الحديث يدلّ على السّلطنة بقول مطلق، بمعنى أنّ جميع شئون السّلطنة وأنحائها ثابتة لصاحب المال ومنها منع الغير عن المزاحمة معه فيها، ولازم ذلك عدم تأثير تلك المزاحمة في ملكيّته له، فلا أثر لرجوع المعطي، وهو المقصود من اللّزوم.
هذا، ولا يصحّ التمسّك به بتقريب: أنه يدلّ على السّلطنة في جميع الأحوال والأزمنة، ومن ذلك زمان وحال رجوع المالك فيما انتقل عنه. إذ يرد عليه: إنّ موضوع السّلطنة كما هو ظاهر كلمة «أموالهم» هو المال المضاف إلى الناس بإضافة الملكيّة، فلابدّ من لحاظ حيثيّة «مالهم»، وعندما يرجع المعطي فيما أعطاه، نشكّ في خروج المال وعدم خروجه عن كونه ملكاً للآخذ، فالموضوع مشكوك فيه، والتمسّك بالحديث من أجل إثبات عدم الخروج، تمسّك بالحكم في حال عدم إحراز موضوعه. فالقول بعموم الحديث للأزمنة والأحوال تام، إلاّ أنه لا يصلح لإثبات الموضوع في المقام.
وأمّا الإشكال: بأن معنى الحديث: أنّ الناس غير محجورين من التصرّف في أموالهم، ولا مساس له بهذا البحث، كما في تعليقة المحقق الخراساني(1).
فقد تقدّم الجواب عنه، بأن الحديث مسوق لإثبات السّلطنة، ومعناها التمكّن من الشيء عن قهر، فهو يفيد القاهريّة وهو أمر وجودي وليس في مقام النفي، نعم، لازم القاهريّة عدم المحجوريّة.
والمهمّ ما أورده بعض الأكابر بما توضيحه: إنّ الموضوع في الحديث هو «أموالهم»، ومادام هذا الموضوع ثابتاً فالحكم وهو «السّلطنة» موجود، وإذا كان للطرف المقابل حق التملّك، فذاك إخراج موضوعي، ولا مزاحمة أبداً بين دليل الإخراج الموضوعي والحكم المترتب على الموضوع، ولذا، فقد تقرّر في الأصول أنه لو قال: أكرم العلماء، وجب إكرام زيد وعمرو وبكر… فلو قال: لا تكرم زيداً، وقع التعارض وتقدّم على العام إذا كان أظهر منه وإلاّ فلا، أمّا لو قال: زيد ليس بعالم، فإنه يتقدّم عليه حتى وإنْ كان أضعف منه ظهوراً، لأنّه يزاحمه في الموضوع ورافع له. وأيضاً، فقد تقرّر تقدّم الأصل السببي على المسبّبي بالحكومة، والسرّ في ذلك أنه رافع للموضوع في المسببي. وأيضاً، تقرّر أنّ الأمارة واردة أو حاكمة على الأصل، وذلك لأن موضوع الأصل هو الشك والأمارة رافعة له، ولذا لا يقع التزاحم بين الأصل والأمارة أبداً.
وعلى هذا، فمدلول الحديث أنه ما دامت الإضافة الملكيّة موجودةً، فالسلطنة ثابتة، أمّا لو قام الدليل على جواز الترادّ في المعاطاة، أفاد أنّ للمعطي أن يرفع عنوان «أموالهم»، أي الإضافة الحاصلة للآخذ بالمعاطاة، فيكون مقدّماً على السّلطنة بالحكومة أو الورود.
والحاصل: عدم دلالة الحديث على إبقاء الإضافة، لأنّ الحكم لا يتكفّل الموضوع لا حدوثاً ولا بقاءً، ومع عدم الموضوع وهو «أموالهم» ـ كما تقدّم ـ لا وجه للمزاحمة.
أقول: وهذا الإشكال دقيق، إلاّ أنّ الإنصاف عدم وروده كذلك، لأنّ مفاد الحديث حكم وضعي، لأنه اعتبار للسّلطنة على أموالهم، وقد عرفت أن المراد منها ثبوت جميع مراتبها، فإذا رجع المالك الأوّل، هل تتحقّق الملكيّة له في ذلك الآن أو في الآن المتأخر عنه؟ إنه لا ريب في أن الملكيّة مسبّبة عن الرجوع، فهو في مرتبة سابقة عليها، وعنوان «أموالهم» في تلك المرتبة محفوظ والقاهرية موجودة، وحينئذ تتحقق المزاحمة بين مدلول الحديث والرجوع، ويكون الحديث مانعاً عن تأثيره.
وتلخّص: تماميّة الاستدلال بالحديث على الوجه الذي ذكره الشيخ[1].
[1] وتوضيح كلامه طاب ثراه في تقريب الاستدلال بالحديث أنْ يقال:
إنه بمجرّد تحقّق الإضافة والمصداقيّة لـ«أموالهم» يترتّب الحكم وهو «السّلطنة» مطلقاً، أي: فله السّلطنة على ماله وله منع الغير من المزاحمة معه فيه، وكأنّ الحديث ـ بتعبير المحقق النائيني(2) ـ يتضمّن عقدين، أحدهما: العقد الإيجابي، وهو سلطنة المالك على ماله بجميع أنحاء السّلطنة، وثانيهما: العقد السلبي، وهو نفي سلطنة الغير عن ماله بجميع أنحاء السّلطنة، وهذا العقد السلبي لازم لعقده الإيجابي، لأنه مقتضى عموم وإطلاق سلطنة المالك على ملكه. وبذلك يظهر أنْ لا مجال لتوهّم أنّ هذا الاستدلال من قبيل التمسّك بالدليل في الشبهة الموضوعيّة، نعم، لو كان التمسّك بعد الرجوع لتوجّه الإشكال المذكور، وهذا وجه الاستدلال، كما عليه الشّيخ ومن تبعه.
كما أنّ ظهور الحديث ليس إثبات الاستقلال في التصرّف وعدم المحجوريّة، كما ذهب إليه المحقق الخراساني(3)، حتى يكون أجنبيّاً عمّا نحن فيه.
ويبقى الإشكالُ المهمّ ـ كما وصفه السيّد الجدّ ـ وهو للمحقّق الإصفهاني(4)، وتبعه المحقق الإيرواني(5)، وقرّبه بقوله: إنّ السّلطنة في الحديث متفرّعة على ماليّة المال للشخص تفرّع الحكم على موضوعه، وكلّ إطلاق مهما بلغت سعته لا تتجاوز سعته عن سعة موضوعه، فغاية الإطلاق ونهاية استيعاب الحكم شموله تمام أطوار موضوعه، ونحن نقول بذلك ههنا، لكنْ لا يجدي ذلك في إثبات المقصود واستنتاج عدم خروج المال عن ملك الشخص بفسخ الجانب المقابل قهراً عليه، فإن غاية إطلاق دليل السّلطنة ثبوت السّلطنة وشيوعها لكافّة شعب التصرّفات، لكنْ في مرتبة متأخّرة عن انحفاظ ماليّة المال له، وأمّا نفس انحفاظ الماليّة، فلا يدخل في مدلول إثبات السّلطنة ولا يندرج في حيطة إطلاقها، فلذلك لم يكن رفعها برفع الماليّة عن المال قصراً لإطلاق دليل السّلطنة. وإنْ كنت في ريب من هذا، فانظر إلى إطلاق دليل قيمومة الأب على ولده الصغير، تجد أنْ ليس من وسع هذا الدليل السّلطنة على حفظ صغره حتى يكون خروجه عن الصّغر قهراً عليه قصراً لسلطانه وتقييداً لقيمومته… .
وهذا ما أجاب عنه السيّد الجدّ.
وقد أجاب عنه بعض مشايخنا دام بقاه بوجه آخر وهو: إنه وإنْ كان الفسخ والرجوع موجباً للشك في انحفاظ الموضوع وليس بإمكان الحكم أن يثبت موضوعه، لكنّ هذا مقتضى الدقة العقليّة، والمعيار هو النظر العرفي، ولا ريب في وجود المنافاة عرفاً بين جعل السّلطنة المطلقة على المال وتملّك الغير له بدون إذن من صاحب السّلطنة.
أقول: وأمّا ما أفاده سيّدنا الاستاذ(6) قدّس سرّه: من النسبة بين أدلّة الخيارات والشفعة والحجر وحديث السّلطنة، من أنها واردة عليه أو مخصّصةٌ له، ولم نجد أحداً من الأصحاب يقول بالمعارضة بينه وبينها، فيمكن الجواب عنه: بأنّ السّلطنة الثابتة بمقتضى الحديث في تلك الموارد معلَّقة من أوّل الأمر بجعل من الشارع على عدم الأخذ بالخيار أو بالشفعة، وليست بمطلقة حتى ينتقض كلام الشيخ بذلك في المقام. فتدبّر.

(1) حاشية المكاسب: 14.
(2) المكاسب والبيع 1 / 177 ـ 178.
(3) حاشية المكاسب: 14.
(4) حاشية المكاسب 1 / 139.
(5) حاشية المكاسب: 80 .
(6) بلغة الطالب: 105.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *