الاستدلال بقوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً…)

الاستدلال بقوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً…)
قوله:
ومما ذكر يظهر وجه التمسّك بقوله تعالى: (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض).
أقول:
الظاهر من (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) أنها استعارة تخييليّة، فشبّه المال بالطعام وذكر لازم المشبّه به وهو الأكل، والمراد منه ـ ظاهراً ـ هو الاتّخاذ للنفس، والباطل ما يقابل الحق، (إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراض) إذ التجارة عن تراض حق، والاستثناء متصّل ولا محذور من جعله منقطعاً. والتجارة ـ كما قال الراغب ـ «… طلباً للريح».
فالآية المباركة دالّة بالمطابقة على مملكيّة المعاطاة، لكونها تجارةً بلا ريب، إذ التاجر يجعل رأس ماله في مجرى الاسترباح، فكلّ معاطاة تجارة، والأكل التجاري مرخّص فيه، فالأكل المعاطاتي مرخّص فيه.
وإنْ كان «الأكل» بمعنى التصرّف، دلّت الآية على جواز مطلق التصرّفات، وإذا كان منها التصرّفات المتوقفة على الملك، فهي دالّة بالالتزام على مملّكيّة المعاطاة[1].
[1] أشار طاب ثراه في كلامه الموجز إلى النكات الموجودة في الآية والتي لها الدخل في الإستدلال بها، فأشار إلى أنّ المراد من لفظ «الأكل» فيها ليس المفهوم اللغوي، وإنما المقصود هو الكناية، فجوّز أنْ يكون كنايةً عن «التملّك» وعن «التصرّف».
وأشار إلى أنّ الاستثناء متّصل، ولا مانع من جعله منقطعاً.
وأنّ التجارة طلب الرّبح كما في المفردات(1).
فيكون معنى قوله تعالى: (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ)(2): لا تتملّكوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب غير العقلائيّة، إلاّ أنْ يكون السبب تجارة عن تراض بينكم، أو إلاّ التجارة والمعاطاة تجارة عند العرف، أو أنّ المعنى: لا تتصرّفوا في أموالكم… .
والدلالة بناءً على الأوّل مطابقيّة، وعلى الثاني التزاميّة.
ومبنى الدّلالة الالتزاميّة هي الملازمة العرفيّة بين حليّة التصرّفات على الإطلاق والملكيّة ـ لا الشرعيّة، ليرد إشكال الشيخ بعدم وجود الإجماع ـ وحينئذ، تدلُّ الآية على الملكيّة من أوّل الأمر، وتكون دلالتها على ذلك أظهر من الآية السّابقة، لكون المعاطاة تجارةً عن تراض، والتجارة أعمّ من البيع، كما ذكر المحقق النائيني(3).
وبما ذكرنا يندفع إيراد المحقق الإيرواني(4).
لكنّ أخذ الاستثناء في الآية على الإتّصال يستلزم التقدير الكثير، والأصل عدمه، فيتعارض الأصلان. هذا أوّلاً.
وثانياً: إن حمل الاستثناء على الإتّصال يستلزم التخصيص المستهجن، لأن أسباب حلّ الأكل ليس منحصراً عن تراض، بل يحلّ ذلك بالهبات والوقوف والصّدقات والوصايا واُروش الجنايات وسائر النواقل الشرعيّة والإباحات، سواء كانت الإباحة مالكيّة أم كانت شرعيّة، فلا ملازمة بين أكل المال بالباطل وبين ما لا يكون تجارة عن تراض.
وأجاب المحقق الخوئي: بأن جملةً من الموارد المذكورة قسمٌ من التجارة عن تراض، كالهبات والإجارة والجعالة ونحوها، والإلتزام بخروج البقيّة لا يستلزم كثرة التخصيص، مضافاً إلى أنّ المستثنى منه في الآية إنما هو أكل مال الغير بعنوان التملّك، بأنْ يتملّك الإنسان باختياره مال غيره بغير التجارة عن تراض، وما لا يكون كذلك كالوقوف والزكوات، خارج عن حدود المستثنى والمستثنى منه تخصّصاً لا تخصيصاً(5).
وقد أورد شيخنا عليه: بأنّ الأخبار المعتبرة طبّقت الآية المباركة على موارد التمليك والتملّك لا التملّك فقط، ففي الخبر تطبيقها على القمار(6) وهو تمليك وتملّك بالباطل.
ثم إنّ «التجارة» لا تصدق عرفاً ولغةً على مثل الوصيّة والهبة، وإنْ كانت أعمّ من البيع بلحاظ قوله تعالى (رِجالٌ لا تُلْهيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ)(7).
وقد عرفت أنّ الأكثر على انقطاع الاستثناء في الآية المباركة. واللّه العالم.

(1) المفردات في غريب القرآن: 73.
(2) سورة النساء: 29.
(3) المكاسب والبيع 1 / 135.
(4) حاشية المكاسب: 81 .
(5) مصباح الفقاهة 2 / 104.
(6) كنز الدقائق 2 / 411.
(7) سورة النور: 37.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *