الاستدلال بالسيرة

الاستدلال بالسيرة
أقول:
والاستدلال بالسّيرة للقول بحصول الملك بالمعاطاة والتصرّف في المأخوذ بها بالعتق والبيع والوطيء وغير ذلك من آثار الملك، يكون على نحوين:
سيرة المتشرّعة بما هم متشرّعة، فإن المرتكز في أذهانهم وعملهم على طبقه، يكشف عن تلقّيهم ذلك من الشارع، نظير الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم، فإنْ حصلنا في المسألة على مثل هذه السّيرة من أهل الشرع، الملتزمين به في أفعالهم وتروكهم، كانت كاشفةً، ولا مجال لاحتمال كونها ناشئة عن المسامحة وقلّة المبالاة في الدين[1].
إلاّ أن الكلام في المقام في الصغرى[2].
وسيرة العقلاء، ولا ريب في قيامها في ما نحن فيه، فإنّ بناءهم قبل الشرع وإلى الآن، على المعاملة مع المأخوذ بالمعاطاة معاملة الملك، ولو لم تكن هذه السّيرة مرضيّةً عند الشارع لردع عنها، لأن عدم الرّدع يكشف عن الرّضا بها ومطابقتها لغرضه، وإلاّ يلزم نقض الغرض، نظير ما تقرّر في حجيّة الظواهر.
وعلى الجملة، فإن العقلاء يتصرّفون التصرفات المتوقفة على الملك في المأخوذ بالمعاطاة المقصود بها التمليك، مضموناً بالثمن المسمّى ـ لا بالمثل والقيمة ـ وليس ذلك إلاّ من جهة كونها بيعاً صحيحاً مملّكاً، والشارع كان يرى هذه السيرة ولم يردع عنها، فهي بيع مملّك. هذا.
[1] وقال السيّد: «دعوى: أنه مبنيّ على عدم المبالاة، كما ترى، بل من المعلوم أنّ الأئمة عليهم السلام وأصحابهم بل سائر الناس من العلماء والعوام، كانوا يتصرّفون في الهدايا والعطايا تصرّف الملاّك، ولم يعهد من أحد منهم إجراء الصّيغة فيها، مع أنه لا فرق بينها وبين البيع بناءً على اعتبارها في الملكيّة. فتدبر»(1).
[2] وحاصله الردّ على الشيخ والسيّد قدّس سرّهما، لأنّ حقيقة سيرة المتشرّعة الإجماع العملي منهم المتّخذ من صاحب الشريعة من حيث التزامهم بالدين، وتحقّق ذلك مع وجود الشهرة القطعيّة ـ بل ادّعي الإجماع ـ على الإباحة أوّل الكلام، فالدليل هو السّيرة العقلائيّة، لكنّ المهمّ فيها أنْ لا تكون مردوعة، وقد تعرّض السيّد الجدّ لما يحتمل رادعيّته إلاّ الإجماع المذكور، وسيأتي الكلام حوله.

ولا يتوهّم: أن ما دلّ على أنْ لا بيع أو وقف أو وطي إلاّ في ملك، رادع عن هذه السّيرة.
لأنّ تلك الأدلّة متأخرة في الرتبة، لأنها دلّت على المنع من تلك التصرّفات إلاّ في الملك، والسّيرة أفادت بأن هذا ملك، فليسا في مرتبة واحدة حتّى تتحقّق الرادعيّة.
نعم، لو قام الدليل على عدم جواز التصرفات الملكيّة في المأخوذ بالمعاطاة، كأنْ يدلّ على أنْ المأخوذ بها لا يباع، أو قام على اعتبار الإيجاب والقبول اللّفظين في حصول الملك، بأنْ يدلّ على أنْ لا بيع إلاّ بالإيجاب والقبول، لكان رادعاً عن السيرة، لكنّ المفروض عدم وجود دليل كذلك.
وهل يصلح دليل الاستصحاب بعمومه للرادعيّة عن السّيرة المذكورة، إذ مع الشك في إفادة المعاطاة للملكيّة عند الشارع، نستصحب عدمها ويكون رادعاً عنها وتسقط بذلك عن الكاشفيّة؟
وكذلك الكلام في مبحث خبر الواحد، لأنّ من أدلّة حجيّته سيرة العقلاء، وحجيّتها منوطة بعدم الردع، وقوله تعالى: (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) رادع، فتسقط السيرة عن الدليليّة.
وهكذا في مبحث الإستصحاب، حيث يستدلّ له بالسّيرة العقلائيّة، فإنّه يمكن القول برادعيّة الأدلّة الناهية عن اتّباع الظن عن الأخذ بالحالة السابقة.
والتّحقيق: عدم الرادعيّة في الموارد المذكورة وتماميّة الاستدلال بالسيّرة، لما أفاد المحقق الخراساني في الجواب(2) ـ وإنْ كان بين ما ذكره في مسألة خبر الواحد ومسألة الاستصحاب، فرق ـ من أنّ جريان قوله عليه السلام: «لا تنقض اليقين بالشك» يتوقف على أنْ لا تكون السّيرة العمليّة القائمة على مملكيّة المعاطاة ممضاةً شرعاً، وكونها غير ممضاة من الشارع يتوقف على جريان «لا تنقض»، وهذا دور، فالرادعيّة ممتنعة.
فإنْ قلت: كون السّيرة ممضاةً موقوف على عدم الرادع، وعدمه موقوف على عدم جريان الإستصحاب، وعدم جريانه موقوف على وجود السّيرة الممضاة، وهذا دور كذلك.
قلت: كون السّيرة ممضاةً، غير موقوف على عدم جريان الاستصحاب، بل هو موقوف على عدم إحراز جريانه، لأن عدم إحراز الرادع كاف في الإمضاء، لكنّ جريان الإستصحاب لا يكفي فيه عدم إحراز الموضوع وهو الشك، وإحرازه منوط بكون السيرة ممضاة، فيلزم الدور هناك ولا يلزم هنا.
وهذا جواب علمي دقيق.
ولكنّ الأدق والأمتن منه هو: إنّ قوله عليه السّلام: «لا تنقض اليقين بالشك» من الظواهر، وحجيّة الظواهر ثابتة بالسيرة العقلائيّة، فلا مدرك لحجّية دليل الإستصحاب إلاّ السّيرة، بخلاف المقام، حيث يوجد الدليل غير السيّرة أيضاً، وكذا في باب حجّية خبر الواحد. وإذا كانت السّيرة القائمة على حجيّة الظواهر ممضاة، فالقائمة على المعاطاة ممضاة كذلك، إلاّ أنّ هذه حاكمة على تلك[3].
[3] ولنا أنْ نقول: إنّ هذه السّيرة محرزة بالفعل ومتّصلة بزمن المعصوم عليه السّلام يقيناً، ولمّا كانت من البناءات الراسخة في أذهان عموم العقلاء، وهي جارية عندهم في جميع الأزمنة، حيث يرون الإعطاء بقصد التمليك بعوض بيعاً حقيقيّاً ويرتّبون عليه كلّ الآثار، كما يرتّبونها على البيع العقدي، فإنّ الرادع عن مثلها لابدّ وأنْ يكون بمثابتها في القوّة وإلاّ لم يصلح للرادعيّة، ولذا وجدنا الشّارع لا يكتفي في الرّدع عن العمل بالقياس بالمنع عنه مرّةً أو مرّات، حتى بلغت النصوص في تحريمه إلى المئات، وفيما نحن فيه، لا تصلح روايات الإستصحاب للرادعيّة، لكونها أخباراً معدودةً، وكيف يصلح خبر الواحد للرادعيّة عن مثل هذه السّيرة؟
هذا من جهة. ومن جهة اخرى، فإنّ حجيّة خبر الواحد محلّ بحث عند العقلاء.
على أنّ مورد البحث هنا من استصحاب العدم الأزلي، لأنّ الملكيّة لم تكن في الأزل، وحصولها بالمعاطاة في الشريعة مشكوك فيه، فيستصحب العدم، لكنّ حجيّة استصحاب العدم الأزلي محلّ البحث والخلاف بين العلماء.
وأيضاً، فإنّه من موارد الشبهات الحكميّة، وجريان الإستصحاب فيه محلّ خلاف وبحث كذلك.
أمّا السّيرة القائمة على إفادة المعاطاة للملكيّة، فهي ـ بالإضافة إلى ما أشرنا إليه ـ معتضدة بأدلّة اُخرى من الكتاب والسنّة، فمثل الاستصحاب المذكور لا يصلح للرادعيّة عن مثل هذه السّيرة.

وتلخّص: تماميّة الاستدلال بالسيرة العقلائيّة[4].
[4] ويبقى الكلام في رادعيّة الشهرة بل الإجماع على أن المعاطاة تفيد الإباحة لا الملكيّة.
أمّا السيّد اليزدي، فقد ذكر الإجماع في أدلّة إفادة المعاطاة الملكيّة قائلاً: «ثانيها: إجماع العلماء على جواز التصرّفات حتى الموقوفة على الملك، والعلاّمة قد رجع عن ما ذكره في النهاية. وهذا لا يجتمع مع عدم حصول الملكيّة، إلاّ ببعض التوجيهات الآتية التي لا ينبغي صدورها عن الفقيه»(3).
لكنْ لا يخفى: أنّ الفتوى بجواز التصرّفات مطلقاً لا تلازم القول بإفادة المعاطاة الملكية.
وأمّا السيّد الخوئي، فأجاب بأنّه لم يقم إجماع تعبّدي على ذلك، غاية الأمر أنه نقل الإجماع عليه، وقد نقّحنا في علم الاصول عدم حجيّته إلاّ إذا حصل العلم باستناد المجمعين إلى رأي المعصوم عليه السلام. ومن المحتمل القريب أن يكون استنادهم في فتواهم بعدم لزوم البيع المعاطاتي إلى الروايات المشعرة باعتبار اللفظ في البيع(4).
وأمّا السيّد الجدّ، فمفاد كلامه عدم ثبوت الإجماع على الإباحة من أصله، بل لقد استظهر من كلام شيخ الطائفة القول بالملكيّة، بل صريح السيّد اليزدي إن دعوى الغنية الإجماع إنما هي على عدم كون المعاطاة بيعاً، فقال بأنّها ممّا لا يصغى إليها.
وتبقى الشهرة، ومن أجلها ذهب بعض مشايخنا إلى عدم تماميّة الاستدلال بالسّيرة، لصلاحيّتها للرّدع عنها، لكنّ الكلام في السّيرة العقلائيّة، ورادعيّة الشهرة الفتوائيّة عنها ـ مع عدم وضوح كاشفيّتها عن رأي المعصوم، واحتمال كونها مستندةً إلى ما ليس اعتباره بمعلوم ـ أوّل الكلام.

قوله:
ويدلّ عليه أيضاً: عموم قوله تعالى: (أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ)… بل قد يقال: بأنّ الآية دالّة عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع لا مجرّد الحكم التكليفي، لكنّه محلّ تأمّل… .

(1) حاشية المكاسب 1 / 336.
(2) كفاية الاصول: 303.
(3) حاشية المكاسب 1 / 336.
(4) مصباح الفقاهة 2 / 93.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *