التحقيق في المقام

التحقيق في المقام
لكنّ الذي أوقعهم في هذا الإشكال وكثر فيه القيل والقال، هو: جعل «الإباحة» في كلام المشهور إباحةً مالكيّةً، فإنّها التي تنافي القاعدتين… فإذا جعلناها شرعيّة ارتفع الإشكال… وبيان ذلك:
إن الملكيّة أمر اعتباري، والإعتبار زمامه بيد من له الإعتبار، والأمر الاعتباري ليس له وجود خارجي، وإنما قيامه بنفس المعتبر الذي له أهليّة ذلك. ثم الملكيّة إمّا عقلائيّة وهي اعتبار عقلائي، وإمّا شرعيّة وهي اعتبار شرعي، وهما ربما يتطابقان وربما يتخالفان.
والبيع المفيد للملكيّة الشرعيّة اشترط فيه شروط منها الإيجاب والقبول اللّفظيّان، ولذا جاء عنوان «المعاطاة» في الكتب الفقهيّة بعد الفراغ عن أحكام العقد اللّفظي، بلحاظ أنها فاقدة للصّيغة، فيقولون هل تفيد الإباحة أو الملكيّة؟
والمشهور ـ لاشتراطهم الصّيغة اللفظّية ـ يقولون بأنّ الملكيّة الشرعيّة لا تحصل بالمعاطاة، أي إن الاعتبار الشرعي الموجود في البيع بالصّيغة، غير موجود في المعاطاة، كما هو غير موجود في الصّيغة الفاقدة لبعض الشرائط المعتبرة.
فهم يقولون في المعاطاة المتداولة بين الناس التي تقع بينهم بقصد التمليك بأنّ هذا الفعل لا يفيد الملكية الشرعية عند الشارع ـ لاشتراطه الإيجاب والقبول اللّفظيين في البيع ـ فليس له هنا اعتبار على طبق الاعتبار العقلائي، لكن له اعتبار الإباحة في التصرّف، فهنا إباحة شرعيّة لا مالكيّة حتى يقال: بأنّ ما قصد لم يقع وما وقع لم يقصد، فيضطّر إلى حمل كلامهم على ما لا وجه لحمله عليه.
والدّليل على هذه الإباحة الشرعيّة هو: أنّه في البيع الفاسد ـ كالبيع الغرري مثلاً ـ يقولون بعدم حصول الملكية وبعدم جواز التصرف في العوضين، والوجه في الحكم بعدم جواز التصرف فيهما هو أنّ التسليم والتسلّم الحاصلين بعد العقد إنّما حصلا من باب ترتيب الأثر عليه، فالبائع يسلّم المبيع إلى المشتري لكونه ـ أي المشتري ـ مالكاً له، فإذا تبيّن فساد العقد عند الشارع، ظهر أنّ المبيع لم يكن ملكاً للغير، فلا موضوع لهذا التسليم وجواز تصرّف المشتري فيه.
أمّا في المعاطاة، فالمال ملك للمعطي، يعطيه للغير بطيب نفسه وبقصد التمليك، فإذا تبيّن فساد المعاملة ـ لكونها فاقدةً للصّيغة ـ وعلم أن الشارع لا يرتّب على هذا الإعطاء أثر البيع، لم يكن مانع من الترخيص الشرعي في التصرّف فيه، لأنّ المفروض كونه مسلِّطاً للغير على ملك نفسه بطيب نفسه، وأنّ هذا المعنى باق بعد حكم الشارع بعدم الملكيّة، فيحكم الشارع بالإباحة، لتحقق موضوع حكمه وهو الرّضا من المالك بتصرف الغير في ملكه.
فإنْ قلت: فِلمَ لا تأتي هذه الإباحة الشرعيّة في البيع الفاسد.
قلت: قد ذكرنا أنه في البيع الفاسد إنما يعطي المال للمشتري بعنوان كونه ملكاً للمشتري، فإذا أبطل الشارع البيع لم يبق موضوع للإعطاء ثم تصرّف المشتري، بخلاف الحال في المعاطاة، فإنه يعطي ملكه للطرف الآخر بقصد التمليك، فإذا لم يرتّب الشارع آثار التمليك على هذا الإعطاء، لم يكن مانع من أنْ يبيح للآخر التصرف فيه، لأنّ المفروض رضا المالك بهذا التصرف. فما قصد لم يقع لعدم شرعيته، وما وقع وهو الإباحة الشرعيّة لم يقصد، لكن قصد ـ بإعطائه ماله الغير ـ إدخاله في حيّز تصرّف الغير وجعله تحت يده، فيجوز له التصرّف بحكم الشارع.
وعلى الجملة: نقول: مراد المشهور من «الإباحة» في المعاطاة المتداولة المقصود بها التمليك هي الإباحة الشّرعيّة، بمعنى أن شرط حصول الملكيّة شرعاً في البيع كونه بالصّيغة اللّفظيّة، فإذا فقدت لم يعتبر الشّارع الملكيّة، لكن يتعبّدنا بالإباحة، لأن من يدخل ماله تحت يد الغير بطيب نفسه بقصد الملكيّة، قد رفع يده عن ملكه، وإذا حكم الشارع بعدم حصول الملك حكم بالإباحة، لأن المال يحلّ للغير بطيب نفس مالكه.
ولا يرد عليه النقض بعدم جواز التصرف في البيع الفاسد.
لأنّ الرّضا المقوّم للبيع لم يمضَ شرعاً، ولا رضا آخر غيره، فلا يجوز التصرف.
ولا يقال: فقد سلّم ماله للطرف الآخر.
لأنه إنّما سلّمه إيّاه بعنوان كونه مالكاً للغير، وفي المعاطاة يسلّمه حالكونه ملكاً لنفسه بطيب نفسه، وطيب النفس هو الملاك لجواز التصرّف شرعاً.
فهذا هو التحقيق في بيان مذهب المشهور، ويمكن استفادته من كلام للشيخ في المبسوط ـ وإنْ حمله الأعاظم على معنىً آخر ـ وهذه عبارته بعد بيان اشتراط الإيجاب والقبول:
«وكلّ ما جرى بين الناس إنما هي استباحات وتراض، دون أنْ يكون ذلك بيعاً منعقداً، مثل أن يعطي درهماً للخبّاز فيعطيه خبزاً أو قطعةً للبقليّ فيناوله البقل، وما أشبه ذلك. ولو أنّ كلاًّ منهما يرجع فيما أعطاه كان له ذلك، لأنه ليس بعقد صحيح هو بيع»(1) واللّه العالم.
وعلى الجملة، فإن محلّ النزاع هو المعاطاة المقصود بها التمليك، وأنّ المراد من الإباحة هي الإباحة الشرعيّة.
وبما ذكرنا ظهر النظر في كلمات الأعلام.
قوله:
لكنّ الإنصاف: أن القول بالتزامهم لهذه الأمور أهون من توجيه كلماتهم، فإنّ هذه الأمور لا استبعاد في التزامها إذا اقتضى الأصل عدم الملكيّة ولم يساعد عليها دليل معتبر، واقتضى الدليل صحّة التصرّفات المذكورة…
أقول:
يعني: إن التزام الفقهاء بالملكيّة آناًمّا في التصرفات المتوقفة على الملك في المأخوذ بالمعاطاة، أهون من حمل كلماتهم على الملكيّة المتزلزلة، فله أن يبيع ما يأخذه بالمعاطاة مع أنه لا بيع إلاّ في ملك، وأنْ يوقفه مع أنه لا وقف إلاّ في ملك، وأن يطأ الجارية مع أن الوطىء لا يكون إلاّ في ملك، وهكذا. وبالجملة، فإنه مع الشك في سببيّة المعاطاة للتصرّفات، فإن الأصل هو العدم، لكنّ الدليل من الإجماع والسّيرة يقتضي جوازها، فيلتزم بحصول الملكيّة في آن التصرّف الملكي.
لكنْ، إذا قام الدّليل على جواز التصرف مطلقاً، فإنّه سيكون رافعاً للشك ويقتضي القول بالملكية من أوّل الأمر، على أنّ الالتزام بالملكيّة في آن التصرّف وإنْ أمكن في مثل وطىء الجارية، لأنّ المحرَّم هو الوطي في غير الملك ولا يشترط تقدُّم الملكيّة على الوطىء، إلاّ أنّه في مثل البيع غير صحيح، لأن البيع تمليك الغير، فآن البيع آن ملكيّة الغير ـ لأنّ التمليك والملكيّة واحد في الحقيقة ـ فإذا كان مالكاً للشيء في هذا الآن لزم اجتماع الضدّين، وكذا في الوقف، لأن حقيقته الإخراج من الملك، فإذا قلنا بالملكيّة في آن الوقف لزم اجتماع الضدّين كذلك، فالصحيح هو القول بالملكيّة من أوّل الأمر بمقتضى الدليل.
نعم، يمكن تصوير الملكيّة آناًمّا بأنْ يجعل آن الإيجاب غير آن القبول، فيكون الشيء في آن الإيجاب ملكاً للبائع وفي آن القبول ملكاً للمشتري، وكذا في الوقف… إلاّ أنه لا حاجة إلى هذا التكلّف بل التعسّف مع وجود الدليل.

(1) المبسوط في فقه الإماميّة 2 / 87 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *