أقسام المعاطاة

أقسام المعاطاة
قوله:
وهو يتصوّر على وجهين، أحدهما: أنْ يبيح كلّ منهما للآخر التصرّف فيما يعطيه من دون نظير إلى تمليكه.
أقول:
في هذا المعنى إعطاءان وإباحتان في التصرّف، وليس في البين تمليك، وهل هي إباحة مطلقة أو في جهة خاصّة؟ ظاهره الأوّل، فيعمّ الانتفاع والإتلاف والتصرّفات المتوقّفة على الملك، فيقع الإشكال بأنه: مع قصد الإباحة كيف يعقل جواز سائر التصرّفات المتوقفة على الملك، كالبيع والوقف ونحوهما؟
اللّهم إلاّ أن يقال: بأن هذه الإباحة فعليّة، ولمّا كانت مطلقةً وشاملة لجميع أنحاء التصرّف، كان للإباحة هذه دلالة التزاميّة على كونه وكيلاً من قبله في تمليك الشيء لنفسه، حينما يريد أنْ يتصرّف فيه التصرّف الموقوف على الملك[1].
[1] وقال سيّدنا الأستاذ قدّس سرّه: وإنما الإشكال في التصرّفات الموقوفة على الملك، فقد قيل: بأن الإذن بالتصرّف يقتضي الإذن في التملّك أوّلاً ثم التصرّف فيه بشتّى أنحائه، وقيل: بعدم كفاية الإذن لهذه الجهة(1).
هذا كلامه، وظاهره التوقّف.
لكنّ شيخنا الأستاذ دام بقاه أجاب عمّا ذكره السيّد الجدّ بأنّه غير دافع للإشكال، لأنّ الوكالة عقد من العقود، وهنا ليس إلاّ فعلٌ واحد، فبناءً على تحقّق الوكالة بالفعل، كيف يكون الفعل الواحد مفيداً للإباحة والوكالة في مطلق التصرفات؟ وأيضاً، فإن الوكالة من الأمور القصديّة، فلابدّ وأنْ يكون المعطي ملتفتاً حين الإعطاء إلى توقف بعض التصرّفات على الملك واحتمال قيام الآخذ بذلك حتى يوكّله فيه. فما ذكره لا يحلّ المشكلة، ولعلّ في قوله: اللّهمّ إلاّ أن يقال، إشارة إلى ضعفه.
أقول: إنه بناءً على جريان المعاطاة في سائر العقود إلاّ النكاح، لا مانع من دلالة الفعل على الوكالة بالالتزام مع دلالته على الإباحة بالمطابقة، وظاهر التسليط على الشيء بلا قيد إلتفاته إلى جميع أنحاء التصرّف، فهو وكيلٌ فيها كلّها.

قوله:
الثاني: أنْ يتعاطيا على وجه التمليك.
أقول:
ظاهره أن التعاطي على هذا الوجه هو الذي يحقّق المعاطاة البيعيّة، فيرد عليه: ما تقدّم من أنّ المعاطاة البيعيّة ليس «أن يتعاطيا»، بل إعطاء وأخذ وإلاّ يلزم أن يكون هناك تمليكان وقبولان. وبالجملة: المعاطاة إعطاء على وجه التمليك وأخذ على وجه التملّك، وما ذكره غير منطبق عليها أصلاً.
قوله:
وربما يذكر وجهان آخران، أحدهما: أن يقع النقل من غير قصد البيع ولا تصريح بالإباحة المزبورة، بل يعطي شيئاً ليناول شيئاً فدفعه الآخر إليه. الثاني: أنْ يقصد الملك المطلق دون خصوص البيع.
أقول:
الوجهان ذكرهما صاحب الجواهر رحمه اللّه بعد الوجهين السّابقين، فالوجوه عنده أربعة، قال في الجواهر: «ثالثها: أنْ يقع الفعل من المتعاطيين من غير قصد البيع ولا تصريح بالإباحة المزبورة، بل يعطي البقّال ـ مثلاً ـ شيئاً ليتناول عوضه فيدفعه إليه… .
رابعها: أنْ يقصد الملك المطلق…»(2).
فأشكل الشيخ على الأوّل:
قوله:
ويردّ الأوّل: بامتناع خلوّ الدافع عن قصد عنوان من عناوين البيع أو الإباحة أو العارية أو الوديعة أو القرض أو غير ذلك من العناوين الخاصّة.
أقول:
تقريب الإشكال هو: إنّ هذا الإعطاء فعل تكويني خارجي، والفعل لا يعقل أن يكون بلا داع، لأن الدّاعي من مبادي الإرادة، فإمّا هو انتفاع الطرف المقابل بالعين وكونها عاريةً عنده، وإمّا هو كونها عنده أمانةً، وإمّا هو التمليك مع الضمان فيكون قرضاً، أوْ لا يكون تمليكٌ بل ترخيص في التصرّف فيكون إباحةً. فلابدّ من أحد هذه العناوين، ولا يعقل تحقّق الفعل منسلخاً منها. أمّا سائر العناوين، فلا مجال لاحتمال شيء منها، وأمّا التمليك والإباحة، فقد ذكر أنْ لا قصد بالنسبة إليهما.
وعلى الجملة، الإعطاء الخارجي فعل اختياري، وهو مسبوق بالإرادة، وهي لا تكون بلا داع يكون هو الغرض من الفعل والعلّة الغائيّة، وهو لا يخلو من عنوان من العناوين.
والظاهر: أنّ هذا مراد الشيخ، لا ما ذكره السيّد ـ رحمه اللّه ـ من أنّ الجنس بلا فصل لا يتحقّق[2].
[2] وكذلك قرَّب المحقّق الخوئي ـ ووافقه شيخنا دام بقاه ـ حيث قال: «ويتوجّه على الوجه الأوّل: أن الفعل الصادر من المتعاطيين ليس من الأفعال غير الاختياريّة كحركة المرتعش، لكي يكون خالياً عن القصد والإرادة، وإنما هو فعل اختياري صادر من فاعله بالإرادة والاختيار، وعليه، فإذا قصد كلّ من المتعاطيين من إعطائه ماله لصاحبه خصوص إباحة التصرف، كان ذلك إباحة مصطلحة كما في الضّيافة ونحوها، وإذا قصد من ذلك جواز الانتفاع من العين مع حفظها عن التلف انتفاعاً مجانيّاً، كان ذلك عارية، وإذا قصد من ذلك الانتفاع من العين مع العوض، كان ذلك بيعاً. وحينئذ، فلا يوجد عنوان آخر في مورد المعاطاة غير العناوين المذكورة. وبذلك يظهر بطلان الوجه الثاني. وإذنْ، ينحصر البحث في المعاطاة بالوجهين الأوّلين(3).
فهذا مراد الشيخ لا ما ذكره السيّد حيث قال: «ولعلّه من جهة امتناع إيجاد الجنس من دون فصل، فإنّ الإيجاد الإنشائي في ذلك كالإيجاد الخارجي في الامتناع… ولكنْ يمكن أن يقال: بعدم المانع من ذلك أيضاً، بأنْ لا يتوجّه ذهنه إلاّ إلى القدر المشترك، والفرق بين الإيجاد الإنشائي والخارجي واضح…»(4).

إلاّ أنه مع الدقّة والتأمّل في كلام صاحب الجواهر يظهر عدم ورود الإشكال عليه، إنه يقول: «أنْ يقع الفعل من المتعاطيين من غير قصد البيع ولا تصريح بالإباحة… ولعلّ القائل باشتراط الصيغة في البيع يشرّعه أيضاً على جهة الإباحة التي هي الأصل فيما يقصد به مطلق التسليط، فغيرها محتاج إلى قصد آخر بخلافها، فإنه يكفي فيها قصد هذا التسليط المطلق»(5).
وتوضيحه: إنّ الإعطاء الخارجي عبارة عن إيجاد السّلطنة خارجاً، فهو برفعه اليد عن متاعه وإدخاله إيّاه تحت يد الطرف الآخر، يسلّطه سلطنةً تكوينيّةً خارجيّة عليه، وهذا العمل الخارجي يصلح لأنْ يتعنون بشيء من العناوين، من البيع والهبة والعارية وغيرها، لكنّه لمّا يفعل ذلك لا يقصد شيئاً منها بل يريد جعل الشيء تحت تصرّف الآخر، ومثل هذا الفعل لا يكون عند الشرع والعقل إلاّ الاباحة.
وعلى هذا، فلا مجال لإشكال الشيخ عليه، لا بتقريب السيّد، لأنّ الفعل الخارجي أمر تكويني، وليس للأمر التكويني جنس ولا فصل، ولا بتقريبنا، لأنه لو كان المقصود حصول عنوان معيّن من العناوين لتوجّه عليه ذلك، لكنّ المقصود نفس الفعل الخارجي، أعني رفع اليد عن الشيء وجعله تحت تصرّف المعطى وسلطنته، ليكون مقدّمةً إعداديّةً لفعل الطرف الآخر مثل هذا الفعل في حقّه[3].
[3] وأفاد شيخنا دام بقاه ـ بعد أنْ ذكر أنّ مراد الشيخ ما في مصباح الفقاهة لا ما في حاشية السيّد اليزدي ـ أن الحق عدم ورود الإشكال على الجواهر، فإنّه ناشىء من عدم التأمّل في كلامه، فنقل كلام الجواهر كما ذكرنا وقال بالتالي: إن صاحب الجواهر لا يقول بصدور الفعل الاختياري من غير قصد، بل إنه يقول بإمكان أنْ يكون المقصود هو التسليط المطلق.

وأشكل الشيخ على ثاني وجهي صاحب الجواهر:
قوله:
والثاني بما تقدّم في تعريف البيع من أن التمليك بالعوض على وجه المبادلة هو مفهوم البيع لا غير.
أقول:
إشكاله على هذا الوجه ـ وإنْ لم يمنعه كما منع الأول ـ غير وارد كذلك، إذ ليس في كلام صاحب الجواهر كلمة «العوض». فإن كان مراده أن يقصد كلّ منهما الملكية المطلقة من غير تقييد بخصوصيّة الملكيّة الجامعة بين البيع وغيره من المملّكات، لم يتوجّه عليه إلاّ ما ذكره السيّد في الوجه السّابق من عدم معقوليّة قصد الجنس بلا فصل، وحينئذ، يجاب عنه بما أفاده السيّد من الفرق بين الإنشاءات والتكوينيّات، ففي الإيجاد الإنشائي يمكن قصد الجنس بلا فصل، نظير قولهم باستعمال صيغة الأمر في جامع الطلب من دون خصوصيّة الوجوب والندب.
وعلى هذا، يتحقق الفرق بين هذا الوجه والوجه الثاني من وجهي الشيخ قدّس سرّه[4].
وهذا تمام الكلام في تعريف المعاطاة وأقسامه.
[4] وقال شيخنا دام بقاه: بأن الظاهر ورود هذا الإشكال، إلاّ بناءً على ما ذكره السيّد اليزدي والمحقق الإيرواني من أنْ يكون المراد معاوضة مستقلّة.
قال السيّد معلّقاً على «بما تقدم في البيع»: «قد عرفت أنّ التمليك قد يكون بقصد مجرّد المبادلة والمعاوضة من غير أنْ يكون تمليكاً بعوض على جه يكون أحدهما بايعاً والآخر مشترياً. والظاهر أنّ البيع ما يكون مقابله الشراء الذي هو التملّك بالعوض، فيمكن فرض التمليك على وجه لا يكون بيعاً»(6).
قال شيخنا: وهو كلام متين.

(1) بلغة الطالب: 64.
(2) جواهر الكلام 22 / 226 ـ 227.
(3) مصباح الفقاهة 2 / 86 ـ 87.
(4) الحاشية على المكاسب 1 / 327 ـ 328.
(5) جواهر الكلام 22 / 226 ـ 227.
(6) حاشية السيد اليزدي 1 / 328.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *