العصمة عن السهو و الخطأ و النسيان

العصمة عن السهو و الخطأ و النسيان
إننا نشترط في العصمة أنْ يكون المعصوم منزّهاً عن السهو

والخطأ والنسيان أيضاً، لا منزهاً عن المعاصي والذنوب فقط.
كانت آية التطهير تدلّنا على عصمة الأئمة أو على عصمة أهل

البيت عليهم السّلام من الرجس، وكلمة الرجس نستبعد أنْ

تطلق وتستعمل ويراد منها الخطأ والنسيان والسهو، إذن، لابدّ

من دليل آخر، فما ذلك الدليل على أن الإمام والنبي معصومان

ومنزّهان حتى عن السهو والخطأ والنسيان وما شابه ذلك؟
الدليل على ذلك: كلّ ما دلّ من الكتاب والسنّة والعقل

والإجماع على وجوب الإنقياد للإمام أو النبي، وعلى وجوب

إطاعته إطاعةً مطلقة غير مقيّدة.
تارةً نقول لأحد: عليك بإطاعة زيد في الفعل الكذائي، عليك

بإطاعة زيد في الوقت الكذائي، عليك بإطاعة زيد إنْ قال لك

كذا. أما إذا قيل للشخص: يجب عليك إطاعة زيد إطاعةً مطلقة

غير مقيدة بقيد، غير مقيدة بحالة، غير مقيدة بوقت، فالأمر

يختلف.
وبعبارة أخرى: الإمام حجةٌ للّه سبحانه وتعالى على خلقه،

والخلق أيضاً إنْ انقادوا لهذا الإمام، وامتثلوا أوامره، وطبّقوا

أحكامه وأخذوا بهديه وسيرته، سوف يحتجّون على اللّه

سبحانه وتعالى بهذا الإمام.
إذن، الإمام يكون حجة اللّه على الخلائق، وحجة للخلائق إذا

كانوا مطيعين له عند اللّه سبحانه وتعالى، ولذا يكون قول

المعصوم حجة، وفعله حجة، وتقريره حجة.
عندما يعرّفون السُنّة يقولون: السنّة قول المعصوم أو فعله أو

تقريره، والسنّة حجة.
ولماذا؟ لأنّ جميع حركات المعصوم وأفعاله وتروكه وحالاته يجب

أن تكون بحيث لو أنّ أحداً اقتدى به في تلك الحالات والأقوال و

الأفعال، يمكنه أنْ يحتجّ عند اللّه سبحانه وتعالى عندما يُسأل

لماذا فعلت؟ ولماذا تركت؟ وعندما يسأل لماذا كنت كذا؟ ولماذا

لم تكن كذا؟ فالملاك نفس الملاك بالنسبة إلى المعصية.
ولو أنك راجعت كتب الكلام من السنّة والشيعة، عندما

ينزّهون النبي عن المعصية وعن ارتكاب الخطأ يقولون: بأن

ذلك منفّر، ويجب أنْ يكون النبي منزّهاً عن المنفّر، لأن اللّه

سبحانه وتعالى قد نصب هذا الشخص لأن تكون جميع أعماله

حجة، ولأن يكون أُسوة وقدوة في جميع أعماله وحالاته

وسيرته وهديه، فإذا جاء الأمر بالانقياد مطلقاً، جاء الأمر

بالطاعة المطلقة، فلابدّ وأنْ يكون المطاع والمنقاد له معصوماً

حتى من الخطأ والنسيان.
لو أنك طلبت من أستاذ أنْ يدرّس ولدك درساً معيّناً، فجاء في

يوم من الأيام وقال: بأني نسيت درس اليوم، أو درّس هذا

التلميذ درساً غير ما كان يجب عليه أنْ يدرّس، أو أخطأ في

التدريس، لربما في اليوم الأول تسامحه ويكون معذوراً عندك،

ولو جاء في اليوم الثاني، وأيضاً أخطأ في التدريس أو نسي

الدرس، ثم جاء في اليوم الثالث وكرّر تلك القضية أيضاً، لا شك

أنك ستعترض عليه، وتستبدله بأستاذ آخر.
وهكذا، لو أن إماماً نُصب في مسجد لأنْ يأتمّ به الناس في

الصلاة، فسهى في صلاة، وفي اليوم الثاني أيضاً سهى،

وهكذا تكرّر منه السهو أياماً، لا ريب أن القوم سيجتمعون

عليه، وسيطلبون منه مغادرة هذا المسجد، وسيتوجهون إلى

شخص آخر وينصبونه إماماً لهم، وهذا شيء طبيعي.
ولو أنك راجعت طبيباً، وأخطأ في تشخيص مرضك، وراجعه

مريض آخر وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه، وراجعه مريض ثالث

وأخطأ أيضاً في تشخيص مرضه، لاجتمع الناس وأهل البلد

كلّهم على هذا الطبيب، ولأغلقوا عليه بابه، ولغادر البلد بكلّ

احترام!! وهذا شيء واضح.
اللّه سبحانه وتعالى يريد أنْ ينصب أحداً بين المجتمع لأنْ

تكون جميع أعمال هذا الشخص، وجميع أفعاله، وجميع حالاته

حجة، يحتج بها على العباد، يكون قدوة فيها ويكون أُسوة،

يتبعونه ويسلكون مسلكه ثم يعتذرون إلى اللّه ويحتجون عليه

بهذا الشخص.
لاحظوا كلام بعض علماء السنّة، أقرأ لكم عبارةً واحدةً فقط

تشتمل على بعض الآراء:
يقول الزرقاني المالكي في [شرح المواهب اللدنيّة] عن

النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم: إنه معصوم من الذنوب، بعد

النبوة وقبلها، كبيرها وصغيرها، وعمدها وسهوها على الأصح

[كلمة على الأصح إشارة إلى وجود الخلاف بينهم] في ظاهره

وباطنه، سرّه وجهره، جِدّه ومزحه، رضاه وغضبه، كيف؟ وقد

أجمع الصحب على اتّباعه [هذه هي النقطة] والتأسي به في

كلّ ما يفعله، وكذلك الأنبياء [أي: لا يختص هذا بنبيّنا، كلّ

الأنبياء هكذا].
قال السبكي: أجمعت الأمة على عصمة الأنبياء فيما يتعلّق

بالتبليغ وغيره، من الكبائر والصغائر، الخسّة أو الخسيسة،

والمداومة على الصغائر، وفي صغائر لا تحط من رتبتهم خلاف:

ذهب المعتزلة وكثير من غيرهم إلى جوازها، والمختار المنع

[لماذا؟ هذه هي العلة:] لأنا أمرنا بالإقتداء بهم في ما يصدر

عنهم، فكيف يقع منهم ما لا ينبغي؟ ومن جوّزه لم يجوّز بنص

ولا دليل(1).
أقول: إن قضية شهادة خزيمة بن ثابت الأنصاري، وأن النبي

صلّى اللّه عليه وآله وسلم لقّبه في تلك الواقعة بلقب ذي

الشهادتين هي من أحسن الشواهد.
وقضية شهادة خزيمة هي أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله

وسلم اشترى من أعرابي فرساً، ثم إن الأعرابي أنكر البيع،

وليس هناك من شاهد، فأقبل خزيمة بن ثابت ففرّج الناس

بيده حتى انتهى إلى النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم فقال:

أشهد يا رسول اللّه لقد اشتريته، فقال الأعرابي: أتشهد

ولم تحضرنا؟ ]سؤال وجيه، لأن الشهادة تجب أن تكون عن

علم[ وقال النبي: «أشهدتنا؟» قال: لا يا رسول اللّه، عندما

تبايعتم واشتريت الفرس من الأعرابي لم أكن حاضراً، ولكني

علمت أنك قد اشتريت، فشهادتي عن علم، ثم قال خزيمة:

أفنصدّقك بما جئت به من عند اللّه، ولا أصدّقك على هذا

الأعرابي الخبيث؟ قال: فعجب رسول اللّه وقال: «يا خزيمة

شهادتك شهادة رجلين»(2).
من هذه القضية نفهم أن الصحابة عرفوا رسول اللّه صلّى اللّه

عليه وآله وسلم بأنه لا يكذب، ولا يدّعي مال الغير بلا دليل،

هذا صحيح، ولا خلاف فيه، لكنّ المدّعى أن النبي معصوم عن

الخطأ والنسيان، وعن السهو، وعلى ذلك شهد خزيمة بالأمر،

أما كان خزيمة يحتمل أن رسول اللّه مشتبه؟ ألم يكن هذا

الاحتمال ولو واحد بالمائة احتمالاً وارداً ليمنع خزيمة من

القيام بهذه الشهادة؟ لا ريب أنه كان عالماً بأنّ رسول اللّه

لا يكذب، ولا يدّعي مال الناس، هذا واضح، لكنْ أليس كان من

المناسب أن يتأمّل ويسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله

وسلم: يا رسول اللّه لعلّك سهوت! لعلّك مشتبه! لعلّك

نسيت! لعلّ هذا الأعرابي ليس ذلك الأعرابي الذي تعاملت

معه، أو لعلّ هذا الفرس غير الفرس الذي اشتريته من

الأعرابي. لكنّ كلّ هذه الاحتمالات منتفية عند خزيمة، ويأتي،

ويفرّج الناس، ويشهد بأن الحق مع رسول اللّه، بلا تريّث ولا

تأمل أبداً، وهكذا عرفوا رسول اللّه، ولابدّ وأنْ يكون كذلك.
قال السبكي: لأنا أمرنا بالاقتداء بهم فيما يصدر عنهم مطلقاً،

فكيف يقع منهم ما لا ينبغي، ومن جوّزه لم يجوّز بنصّ ولا

دليل.
أضف إلى ذلك، هل الخطأ والنسيان والسهو فوق النوم؟

والحال أن نوم النبي ويقظته واحد، نوم الإمام ويقظته واحد.
إتفق الفريقان على أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم

كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، وهذا الحديث موجود في ]سنن

الدارمي[ وفي ]صحيح الترمذي [على ما رأيت في معجم

ألفاظ الحديث النبوي(3)، وهذا المعنى أيضاً وارد في حق

أئمّتنا سلام اللّه عليهم بلا فرق، ففي عدّة من الكتب للشيخ

الصدوق في علامات الإمام عليه السّلام، قال عليه السّلام:

«تنام عينه ولا ينام قلبه»(4).
وهل السهو والخطأ فوق النوم؟ الذي في نومه يقظان، الذي

في حال نومه قلبه غير نائم، كيف يحتمل في حقه أن يكون

في يقظته ساهياً خاطئاً مشتبهاً أحياناً؟
أضف إلى ذلك، ألم نقرأ عن أمير المؤمنين سلام اللّه عليه

في الخطبة القاصعة: إنّ النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلم

كان معه ملك أوكله اللّه سبحانه وتعالى في جميع أدوار حياة

رسول اللّه يسدّده صلّى اللّه عليه وآله؟ ونفس هذا المعنى

موجود في حق أمير المؤمنين سلام اللّه عليه، قال رسول

اللّه ـ وقد ضرب بيده على صدر علي ـ : «اللّهم اهدِ قلبه

وسدّد لسانه». رواه صاحب [الاستيعاب ]وغيره(5).
بل العجيب، أن أهل السنة أنفسهم يروون عن أبي هريرة أنه

قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: إني سمعت منك حديثاً

كثيراً فأنساه، فقال رسول اللّه: «ابسط رداءك» فبسطته،

فغرف بيديه فيه، ثم قال: «اضممه» فضممته، فما نسيت

حديثاً بعده.
فكلّ ما يروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم

بواسطة أبي هريرة يكون حقاً عن رسول اللّه!! وهذا ما يرويه

محمد بن سعد في [الطبقات](6) ويرويه أيضاً الذهبي في

[سير أعلام النبلاء](7) ويرويه الحافظ ابن حجر العسقلاني في

[فتح الباري](8) ويوجد في غير هذه الكتب، فهل من عاقل

مسلم يشك في ثبوت هذه الحالة لرسول اللّه ولعلي وللأئمة

الأطهار؟!.
ثم إن عليّاً عليه السّلام يقول: «وإني لمن قوم لا تأخذهم

في اللّه لومة لائم، سيماهم سيما الصدّيقين، وكلامهم كلام

الأبرار، عمّار الليل ومنار النهار، مستمسكون بحبل اللّه،

يحيون سنن اللّه وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يغلون ولا

يفسدون، قلوبهم [لاحظوا هذه الكلمة بعد الكلمات السابقة،

وكلّ كلمة تدلّ على مقام] في الجنان وأجسادهم في

العمل»(9).
وإني لمن قوم [فمن قومه؟ لابدْ الأئمة الأطهار من ذريته]

قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل، ومن كان قلبه في

الجنة وهو في هذا العالم، أتراه يشك، أتراه يسهو، أتراه يلهو،

أتراه ينسى.
هذا بالنسبة إلى أمير المؤمنين سلام اللّه عليه.

(1) شرح المواهب اللدنّيّة 5 / 314.
(2) الكافي 7 / 400 رقم 1 باب النوادر.
(3) وهو في سنن الترمذي 2 / 302 رقم 439.
(4) رواه الشيخ الصدوق القمي في الخصال: 527 رقم 1 و 428

رقم 5، ومعاني الأخبار: 102 رقم 4، وعيون أخبار الرضا (عليه

السّلام) 1 / 212 رقم 1.
(5) الإستيعاب 3 / 1100.
(6) طبقات ابن سعد 2 / 362.
(7) سير أعلام النبلاء 2 / 595.
(8) فتح الباري 1 / 174.
(9) نهج البلاغة 2 / 184 شرح محمد عبده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *