تشبيه أمير المؤمنين بالأنبياء السابقين

تشبيه أمير المؤمنين
بالأنبياء السابقين
وهذا الوجه أيضاً ذكره الشيخ الحمصي، وأورده الفخر الرازي

في الاستدلال، لكنّ الشيخ الحمصي ذكر هذا الدليل كتأييد

لدلالة آية المباهلة، لكنّا نعتبره دليلاً مستقلاًّ، وهذا الحديث

نسمّيه بحديث الأشباه أو حديث التشبيه، وهو قوله: «من

أراد أن يرى آدم في علمه، ونوحاً في طاعته، وإبراهيم في

خلّته، وموسى في هيبته، وعيسى في صفوته، فلينظر إلى

علي بن أبي طالب».
وهذا هو اللفظ الذي ذكره الشيخ الحمصي، وللحديث ألفاظ

أُخرى، هذا الحديث بألفاظه المختلفة موجود في كتب

الفريقين، أذكر لكم بعض أعلام الحفّاظ والأئمة من أهل السنّة

الرواة لهذا الحديث بألفاظه المختلفة:
1 ـ عبد الرزّاق بن همّام، صاحب المصنّف وشيخ البخاري.
2 ـ أحمد بن حنبل.
3 ـ أبو حاتم الرازي.
3 ـ أبو حفص ابن شاهين.
4 ـ الحاكم النيسابوري.
5 ـ ابن مردويه الإصفهاني.
7 ـ أبو نعيم الإصفهاني.
8 ـ أبو بكر البيهقي.
9 ـ ابن المغازلي الواسطي.
10 ـ أبو الخير القزويني الحاكمي.
11 ـ الطبري، صاحب الرياض النضرة.
12 ـ ابن الصبّاغ المالكي.
وغير هؤلاء من العلماء، يروون هذا الحديث بأسانيدهم عن

عدّة من صحابة رسول اللّه، عن النبي صلّى اللّه عليه وآله.
ومن رواته من الصحابة: ابن عبّاس، وأبو الحمراء، وأبو سعيد

الخدري، وغيرهم.
ولابدّ من الكلام والبحث حول هذا الحديث سنداً ودلالة ليتمّ

الاستدلال.
أمّا سنداً، فإنّي أذكر لكم سندين من أسانيده، وقد حقّقتهما،

وهما سندان صحيحان، وبإمكاني تحقيق صحة أسانيد أخرى

لهذا الحديث أيضاً، لكنّي أكتفي بهذين السندين:
يقول ياقوت الحموي في كتابه [معجم الأُدباء](1) بترجمة

محمّد بن أحمد بن عبيد اللّه الكاتب المعروف بابن المفجّع،

هذا الشخص نظم حديث التشبيه في قصيدة، والقصيدة

إسمها قصيدة الأشباه، يقول ياقوت الحموي:
«وله قصيده ذات الأشباه سميّت بذات الأشباه لقصده فيما

ذكره: الخبر الذي رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن

سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى

اللّه عليه وآله وسلم وهو في محفل من أصحابه: «إن تنظروا

إلى آدم في علمه، ونوح في فهمه، وإبراهيم في خلّته،

وموسى في مناجاته، وعيسى في سننه، ومحمّد في هديه

وحلمه، فانظروا إلى هذا المقبل».
فتطاول الناس، فإذا هو علي بن أبي طالب، فأورد المفجع ذلك

في قصيدته، وفيها ـ أي في هذه القصيدة ـ مناقب كثيرة.
ياقوت الحموي معروف بأنّه من المنحرفين عن أمير المؤمنين

عليه السّلام، وهذا مذكور بترجمته، لاحظوا كتاب وفيات

الأعيان، وكتاب شذرات الذهب وغيرهما من المصادر.
وقد ذكروا أنّه تكلّم في سنة 613 في دمشق بكلام في علي،

فثار الناس عليه وكادوا يقتلونه، فانهزم من دمشق. ذكر هذا

ابن خلّكان ونصّ على أنّه كان متعصّباً على علي.
وأمّا عبد الرزاق بن همّام، فهذا ـ كما ذكرنا في الجلسات

السابقة ـ شيخ البخاري وصاحب المصنّف ومن رجال الصحاح

كلّها، ولم يتكلّم أحد في عبد الرزاق بن همّام بجرح أبداً،

حتّى قيل بترجمته: ما رحل الناس إلى أحد بعد رسول اللّه

مثل ما رحلوا إليه، توفي سنة 211.
معمر بن راشد، من رجال الصحاح الستّة، توفي سنة 153.
الزهري هو الإمام الفقيه المحدّث الكبير، من رجال الصحاح

الستّة، وقد تجرّأ ابن تيميّة وادّعى بأن هذا الرجل أفضل من

الإمام الباقر عليه السّلام.
وأمّا سعيد بن المسيّب، فكذلك هو من رجال الصحاح الستّة،

توفي بعد سنة 90، وهذا الشخص يروي هذا الحديث عن

أبي هريرة.
وأبو هريرة عندهم من الصحابة الثقات والموثوقين، الذين لا

يُتكلّم فيهم بشكل من الأشكال.
فهذا السند صحيح إلى هنا.
وسند آخر، وهو ما ذكره الحافظ ابن شهر آشوب المازندراني

المتوفى سنة 588 في كتابه [مناقب آل أبي طالب] يقول:
روى أحمد بن حنبل، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري،

عن ابن المسيّب، عن أبي هريرة. وأيضاً روى ابن بطّة في

الإبانة بإسناده عن ابن عباس، كلاهما عن النبي صلّى اللّه

عليه وآله قال: «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح

في فهمه، وإلى موسى في مناجاته، وإلى عيسى في

سمته، وإلى محمّد في تمامه وكماله وجماله، فلينظر إلى

هذا الرجل المقبل»، قال: فتطاول الناس بأعناقهم فإذا هم

بعلي كأنّما في صبب وينحلّ عن جبل.
وتابعهما أنس بن مالك في رواية هذا الحديث إلاّ أنّه قال: «

وإلى إبراهيم في خلّته، وإلى يحيى في زهده، وإلى موسى

في بطشته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب»(2).
وهذا السند نفس السند، إلاّ أنّ الراوي عن عبد الرزاق هو

أحمد بن حنبل، وأحمد بن حنبل لا يحتاج إلى توثيق.
وأمّا ابن شهر آشوب، فهو أحد كبار علماء طائفتنا، إلاّ أنّ أهل

السنّة أيضاً يحترمونه ويثنون عليه، ويترجمون له، فلاحظوا [

الوافي بالوفيات] للصفدي، و[بغية الوعاة] للسيوطي، وغير

هذين الكتابين، يقولون هناك بترجمته: وكان بهي المنظر،

حسن الوجه والشيبة، صدوق اللَّهجة، مليح المحاورة، واسع

العلم، كثير الخشوع والعبادة والتهجّد(3).
وأمّا دلالة حديث التشبيه، فهذا الحديث يدلّ على أفضليّة

أمير المؤمنين على الأنبياء السابقين، بلحاظ أنّه قد اجتمعت

فيه ما تفرّق في أولئك من الصفات الحميدة، ومن اجتمعت

فيه الصفات المتفرّقة في جماعة، يكون هذا الشخص الذي

اجتمعت فيه تلك الصفات أفضل من تلك الجماعة، وهذا

الاستدلال واضح تماماً، ومقبول عند الطائفتين، وسأقرأ لكم

بعض العبارات:
يقول ابن روزبهان في الجواب عن هذا الحديث: أثر الوضع

على هذا الحديث ظاهر، ولا شكّ أنّه منكر، لأنّه يوهم أنّ

علي بن أبي طالب أفضل من هؤلاء الأنبياء، وهذا باطل، فإنّ

غير النبي لا يكون أفضل من النبي، وأمّا أنّه موهم هذا

المعنى فلأنّه جمع فيه من الفضائل ما تفرّق في الأنبياء،

والجامع للفضائل أفضل من الذين تفرّق فيهم الفضائل، وأمثال

هذا من الموضوعات.
فيضطرّ ابن روزبهان بعد أن يرى تماميّة دلالة الحديث على

مدّعانا، يضطرّ إلى رمي الحديث بالوضع(4).
وقد أثبتنا نحن صحّة الحديث، وأثبتنا أنّه حديث متّفق عليه

بين الفريقين، وذكرنا عدّة من أعيان رواة هذا الحديث من أهل

السنّة.
ويقول ابن تيميّة: هذا الحديث كذب موضوع على رسول اللّه

بلا ريب، عند أهل العلم بالحديث(5).
وكأنّ عبد الرزاق، وأحمد، وأبا حاتم الرازي، وغير هؤلاء، ليسوا

من أهل العلم بالحديث، لكن الظاهر أنّه يقصد من أهل العلم

بالحديث نفسه وبعض من في خدمته من أصحابه المختصّين

به!!
وممّا يدلّ على تمامية الاستدلال بهذا الحديث سنداً ودلالة:

إذعان كبار علماء الكلام بهذا الاستدلال، لاحظوا [المواقف في

علم الكلام] وشرح المواقف(6) وشرح المقاصد(7)، فالقاضي

الإيجي والشريف الجرجاني والسعد التفتازاني يذكرون هذا

الاستدلال، ولا يناقشون لا في السند ولا في الدلالة.
وإنّما يجيب التفتازاني بأنّ هذا الحديث وأمثاله مخصّص

بالشيخين، لأنّ الشيخين أفضل من عليّ، للأدلّة القائمة

عندهم على أفضليّة الشيخين، فحينئذ لابدّ من التخصيص،

ودائماً التخصيص فرع الحجيّة، فلابدّ وأن يكون الحديث صحيحاً

سنداً، ولابدّ أن تكون دلالته تامّة، فحينئذ، يُدّعى أنّ هناك أدلة

أيضاً صحيحة قائمة على أفضليّة زيد وعمرو على علي،

مخصّصة لهذا الحديث، وترفع اليد عن هذا الحديث بمقدار ما

قام الدليل على التخصيص.
عندما يذكر صاحب المواقف، وأيضاً شارح المواقف، أدلّة أفضليّة

علي يقولان: الثاني عشر قوله صلّى اللّه عليه وآله: «من أراد

أن ينظر إلى آدم…» إلى آخر الحديث، وجه الاستدلال: قد

ساواه النبي بالأنبياء المذكورين ـ أي في هذا الحديث ـ وهم

أفضل من سائر الصحابة إجماعاً، وإذا كان الأنبياء المذكورون

في هذا الحديث أفضل من الصحابة، فيكون من ساوى الأنبياء

أفضل من الصحابة إجماعاً.
ثم أجابوا لا بالمناقشة في السند ولا في الدلالة، بل بأنّه

تشبيه، ولا يدلّ على المساواة، وإلاّ كان علي أفضل من

الأنبياء المذكورين، لمشاركته ومساواته حينئذ لكلٍّ منهم في

فضيلته واختصاصه بفضيلة الآخرين، والإجماع منعقد على أنّ

الأنبياء أفضل من الأولياء.
هذه عبارة المواقف وشرحها.
وفي [شرح المقاصد](8) يذكر التخصيص فيقول: لا خفاء في

أنّ من ساوى هؤلاء الأنبياء في هذه الكمالات كان أفضل.
ثمّ ناقش في ذلك بقوله: يحتمل تخصيص أبي بكر وعمر منه،

عملاً بأدلّة أفضليّتهما.
إذن، لا مناقشة لا في السند ولا في الدلالة، وإنّما المناقشة

بأمرين:
الأوّل: الإجماع القائم على أنّ غير النبي لا يكون أفضل من

النبي.
وقد أثبتنا أنْ لا إجماع.
الأمر الثاني: تخصيص هذا الحديث بما دلّ على أفضليّة

الشيخين.
ولكن هذا أوّل الكلام، والتفتازاني ذكره بنحو الاحتمال!
ومن جملة ما يستدلّ به لأفضليّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه

وآله وسلم على الأنبياء السابقين: قوله تعالى: (وَوَهَبْنَا لَهُ

إسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ

دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي

الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسَى وَإلْيَاسَ كُلٌ مِنَ الصَّالِحِينَ

وَإسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ

وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إلى

صِرَاط مُسْتَقِيم ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

وَلَوْ أشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أؤلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ

الْكِتَابَ والْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإن يَكْفُرُ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً

لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)(9).
محلّ الاستدلال كما ذكر الرازي وغيره من المفسّرين: إنّ هذه

الآيات المباركة تدلّ على أفضليّة نبيّنا على سائر الأنبياء، لأنّ

قوله تعالى: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)دليل على أنّه قد اجتمع فيه

الخصال المحمودة المتفرّقة فيهم، كالشكر في داود وسليمان،

والصبر في أيّوب، والزهد في زكريّا وعيسى ويحيى، والصدق

في إسماعيل، والتضرّع في يونس، والمعجزات الباهرة في

موسى وهارون، فيكون منصب نبيّنا أجل من منصبهم،

ومقامه أفضل من مقامهم.
وهذا نفس الاستدلال الذي نقول به على ضوء حديث

التشبيه: بأنّ عليّاً قد جمع ما تفرّق في أُولئك الأنبياء، تماماً

هو نفس الاستدلال في هذه الآية بحسب ما ذكره

المفسّرون.
وإذا كان نفس الاستدلال، فحينئذ يتمّ استدلالنا بحديث

التشبيه. هذا أوّلاً.
وثانياً: إذا كان بهذه الآيات رسول اللّه أفضل من الأنبياء

السابقين، فعلي ساوى رسول اللّه، فهو أيضاً أفضل من

الأنبياء السابقين.
لاحظوا التفاسير في ذيل هذه الآية: [تفسير] الفخر

الرازي(10)، وتفسير النيسابوري(11)، وتفسير الخطيب

الشربيني(12)، ولربّما تفاسير أخرى أيضاً تذكر هذا الاستدلال.

(1) معجم الأدباء: 17 / 191.
(2) مناقب آل أبي طالب 3 / 264.
(3) الوافي بالوفيات 4 / 118، بغية الوعاة 1 / 181، البلغة في

تراجم أئمة النحو واللغة: 278، طبقات المفسرين: 96.
(4) إبطال الباطل، أنظر: دلائل الصدق 2 / 518.
(5) منهاج السنّة 5 / 510.
(6) شرح المواقف 8 / 369.
(7) شرح المقاصد 5 / 299.
(8) المصدر.
(9) سورة الإنعام (6): 84 ـ 90.
(10) تفسير الرازي 13 / 69 ـ 71.
(11) تفسير النيسابوري 3 / 112 ـ 115.
(12) تفسير الخطيب الشربيني (السراج المنير) 1 / 435.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *