المطلب السابع: لم يروَ من الضغائن و الغدر إلاّ القليل

المطلب السابع
لم يروَ من الضغائن والغدر إلاّ القليل
وهذا المطلب مهمّ جدّاً، فالغدر الذي كان، والضغائن التي بدت

ـ التي سبق وأنْ أخبر عنها رسول اللّه ـ لم يروَ منها في

الكتب إلاّ القليل، والسبب واضح، لأنّهم منعوا من تدوين

الحديث، وعندما دُوّن، فقد دوّن على يد بني أُميّة وفي

عهدهم، وهذا حال السنّة، أي السنّة عند أهل السنّة.
ثمّ إنّ من كان عنده شيء من تلك الأمور التي أشار إليها

رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم لم يروه، وإذا رواه لم

ينقلوه ولم يكتبوه ومنعوا من نشره ومِن نَقْلِه إلى الآخرين،

حتّى أنّ من كان عنده كتاب فيه شيء من تلك القضايا،

أخذوه منه، أو أخفاه ولم يظهره لأحد، أذكر لكم موارد من هذا

القبيل:
قال ابن عدي ـ في آخر ترجمة عبد الرزاق بن همّام

الصنعاني ـ في كتاب [الكامل]: «ولعبد الرزاق بن همّام [هذا

شيخ البخاري] أصناف حديث كثير، وقد رحل إليه ثقات

المسلمين وأئمّتهم وكتبوا عنه، ولم يروا بحديثه بأساً، إلاّ أنّهم

نسبوه إلى التشيّع، وقد روى أحاديث في الفضائل ممّا لا

يوافقه عليها أحد من الثقات، فهذا أعظم ما رموه به من روايته

لهذه الأحاديث، ولِما رواه في مثالب غيرهم ممّا لم أذكره في

كتابي هذا، وأمّا في باب الصدق فأرجو أنّه لا بأس به، إلاّ أنّه

قد سبق عنه أحاديث في فضائل أهل البيت ومثالب آخرين

مناكير»(1).
وبترجمة عبد الرحمن بن يوسف بن خراش ـ الحافظ الكبير ـ

يقول ابن عدي: «سمعت عبدان يقول: وحمل ابن خراش إلى

بندار جزئين صنّفهما في مثالب الشيخين فأجازه بألفي

درهم».
فأين هذا الكتاب الذي هو في جزئين؟
قال ابن عدي: «فأمّا الحديث فأرجو أنّه لا يتعمّد الكذب»(2).
فالرجل ليس بكاذب، ولو راجعتم ]سير أعلام النبلاء[ للذهبي

أو ]تذكرة الحفّاظ[ للذهبي، لرأيتم الذهبي ينقل هذا المطلب،

ويتهجّم على ابن خراش ويشتمه ويسبّه سبّ الذين

كفروا(3).
ولا يتوهمنّ أحد أنّ هذا الرجل ـ ابن خراش ـ من الشيعة،

وذلك، لأنّ هذا الرجل من كبار علماء القوم ومن أعلامهم في

الجرح والتعديل، ويعتمدون على آرائه في ردّ الراوي أو قبوله،

أذكر لكم مورداً واحداً: في ترجمة عبد اللّه بن شقيق، يقول

ابن حجر العسقلاني في ]تهذيب التهذيب[: «قال ابن خراش:

كان ـ عبد اللّه بن شقيق ـ ثقة وكان عثمانياً يبغض عليّاً»(4).
فابن خراش ليس بشيعي، لأنّه يوثق هذا الرجل مع تصريحه

بأنّه كان عثمانيّاً يبغض عليّاً.
فلا يتوهّم أنّ هذا الرجل ـ ابن خراش ـ من الشيعة، بل هو من

أعلام أهل السنّة ومن كبار حفّاظهم، إلاّ أنّه ألّف جزئين في

مثالب الشيخين.
مورد آخر في [كتاب العلل] لأحمد بن حنبل، قال أحمد: «كان

أبو عوانة [الذي هو من كبار محدّثيهم وحفّاظهم، وله كتاب

في الصحيح اسمه: صحيح أبي عوانة ]وضع كتاباً فيه معايب

أصحاب رسول اللّه، وفيه بلايا، فجاء سلاّم بن أبي مطيع(5)

فقال: يا أبا عوانة، أعطني ذاك الكتاب فأعطاه، فأخذه سلاّم

فأحرقه»(6).
ويروي أحمد بن حنبل في نفس الكتاب عن عبد الرحمن بن

مهدي(7) قال: «فنظرت الكتاب منه وأحرقه بلا إذن منه ولا

رضا».
مورد آخر: ذكروا بترجمة الحسين بن الحسن الأشقر: «أنّ

أحمد بن حنبل حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممّن يكذب [

فهو حدّث عنه وقال: لم يكن عندي ممّن يكذب] فقيل له: إنّه

يحدّث في أبي بكر وعمر، وإنّه صنّف باباً في معايبهما، فقال:

ليس هذا بأهل أنْ يحدَّث عنه»(8)!
أوّلاً: أين ذاك الباب الذي اشتمل على هذه القضايا؟ ولماذا

لم يصل إلينا؟
وثانياً: إنّه بمجرَّد أنْ علم أحمد بن حنبل بأنّ الرجل يحدّث في

الشيخين، وبأنّه صنّف مثل هذه الأحاديث في كتاب، سقط

من عين أحمد وأصبح كذّاباً لا يعتمد عليه ولا يروى عنه!
مورد آخر: في ]ميزان الاعتدال[ بترجمة إبراهيم بن الحكم بن

زهير الكوفي: «قال أبو حاتم: روى في مثالب معاوية فمزّقنا

ما كتبنا عنه»(9).
روى في مثالب معاوية فمزّقنا ما كتبنا عنه، فراحت تلك

الروايات.
وهذا بعض ما ذكروا في هذا الباب.
ثمّ إنّهم ذكروا في تراجم رجال كثيرين من أعلام الحديث

والرواة الذين هم من رجال الصحاح، ذكروا أنّه كان يشتم أبا بكر

وعمر، لاحظوا هذه العبارة بترجمة إسماعيل بن عبد الرحمن

السُدّي(10)، وبترجمة تليد بن سليمان(11)، وبترجمة

جعفر بن سليمان الضبعي(12)، وغير هؤلاء.
ولماذا كان هؤلاء يشتمون؟ هل بلغهم شيء أو أشياء، ممّا

أدّى وسبّب في أنْ يجوّزوا لأنفسهم أن يشتموا ويسبّوا؟ وأين

تلك القضايا؟ وما هي؟
وأمّا ما ذكروه بترجمة الرجال وكبار علمائهم وحفّاظهم من

شتم عثمان وشتم معاوية، فكثير جدّاً، واعتقد أنّه لا يحصى

لكثرته.
ولقد فشى وكثر اللّعن أو الطعن في الشيخين في النصف

الثاني من القرن الثالث، يقول زائدة بن قدامة ـ ووفاته في

النصف الثاني من القرن الثالث ـ : «متى كان الناس يشتمون

أبا بكر وعمر؟!»(13).
وكثر وكثر حتى القرن السادس من الهجرة، جاء أحدهم ـ وهو

الحافظ المحدّث عبد المغيث بن زهير بن حرب الحنبلي

البغدادي ـ فألّف كتاباً في فضل يزيد بن معاوية وفي الدفاع عنه

والمنع عن لعنه، فلمّا سئل عن ذلك، قال بلفظ العبارة: «إنّما

قصدت كفّ الألسنة عن لعن الخلفاء»(14).
حتى جاء التفتازاني في أواخر القرن الثامن من الهجرة وقال

في ]شرح المقاصد[ ما نصّه: «فإن قيل: فمن علماء المذهب

من لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربوا

على ذلك ويزيد؟ قلنا: تحامياً عن أن يرتقى إلى الأعلى

فالأعلى»(15).
حتّى جاء كتّاب عصرنا، فألّفوا في مناقب يزيد، وألّفوا في

مناقب الحجّاج، وألّفوا في مناقب هند!!
وإنّي أعتقد أنّهم يعلمون بأنّ هذه المناقب والفضائل، والذي

يذكرونه في الدفاع عن هؤلاء وأمثالهم، كلّه كذب، وإنّ هؤلاء

يستحقّون اللعن، إلاّ أنّ الغرض هو إشغال الكتّاب والباحثين

والمفكّرين وسائر الناس بمثل هذه الأُمور، ولكي لا يبقى

هناك مجال لأن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى.
ومن هنا نفهم أنّ محاربتهم لقضايا الحسين عليه السّلام

ومحاربتم لمآتم الحسين عليه السّلام ولقضايا عاشوراء، كلّ

ذلك، لئلاّ يلعن يزيد، ولئلاّ ينتهى إلى الأعلى فالأعلى.

(1) الكامل في ضعفاء الرجال 6 / 545.
(2) المصدر 5 / 519.
(3) سير أعلام النبلاء 13 / 509، تذكرة الحفّاظ 2 / 684، ميزان

الإعتدال 2 / 600.
(4) تهذيب التهذيب 5 / 223.
(5) الإمام الثقة القدوة، من رجال الصحيحين، سير أعلام

النبلاء 7 / 428.
(6) العلل ومعرفة الرجال 1 / 60.
(7) الامام الناقد المجوّد سيد الحفّاظ، سير أعلام النبلاء 9 /

192.
(8) تهذيب التهذيب 2 / 291.
(9) ميزان الإعتدال 1 / 27.
(10) تهذيب التهذيب 1 / 274.
(11) تهذيب الكمال 4 / 322.
(12) تهذيب التهذيب 2 / 82 ـ 83 .
(13) المصدر 3 / 246.
(14) سير أعلام النبلاء 21 / 161.
(15) شرح المقاصد 5 / 311.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *