كلام ابن كثير في تفسيره و الردّ عليه

ويبقى الكلام حول دعوى مخالفة الحديث لِما في الصحيحين، وسنتعرّض له في الردّ على كلام ابن كثير الآتي:
وقال ابن كثير في تفسيره: «وقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)هذه أكبر نعم اللّه تعالى على هذه الأُمة حيث أكمل لهم دينهم…» ثمّ روى أحاديث وأقوالا، منها:
«قال أسباط، عن السدّي، نزلت هذه الآية يوم عرفة، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام، ورجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فمات».
«وقال ابن جرير وغير واحد: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً».
«وقال الإمام أحمد: حدّثنا جعفر بن عون، حدّثنا أبو العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطّاب…، فقال عمر: واللّه إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول اللّه، والساعة التي نزلت فيها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، عشية عرفة في يوم جمعة.
ورواه البخاري… ورواه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي أيضاً من طرق عن قيسى بن مسلم، به.
ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري عن قيس، عن طارق، قال: «قالت اليهود لعمر: إنّكم تقرؤون آية لو نزلت فينا لاتّ/ذناها عيداً. فقال عمر: إنّي لأعلم حين أُنزلت؟ وأين أُنزلت؟ وأين رسول اللّه حيث أُنزلت، يوم عرفة، وأنا ـ واللّه ـ بعرفة.
قال سفيان: وأشكُّ كان يوم الجمعة أم لا».
«وقال ابن مردويه: حدّثنا أحمد بن كامل، حدّثنا موسى بن هارون، حدّثنا: يحيى الحماني، حدّثنا قيس بن الربيع، عن إسماعيل بن سليمان، عن أبي عمر البزّار، عن أبي(1) الحنفيّة، عن عليٍّ، قال: نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وهو قائم عشية عرفة (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)».
«فأمّا ما رواه ابن جرير وابن مردويه والطبراني من طريق ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش بن عبداللّه الصغاني، عن ابن عبّاس، قال:
ولد نبيّكم يوم الاثنين، وخرج من مكّة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وفتح بدراً يوم الاثنين، وأُنزلت سورة المائدة يوم الاثنين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)، ورفع الذِكر يوم الاثنين.
فإنّه أثر غريب وإسناده ضعيف».
«وقال ابن جرير: وقد قيل: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس.
ثمّ روى من طريق العوفي، عن ابن عبّاس في قوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)يقول: ليس بيوم معلوم عند الناس.
قال: وقد قيل: إنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في مسيره إلى حجّة الوداع. ثمّ رواه من طريق أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس».
«قلت: وقد روى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، أنّها نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم غدير خمّ حين قال لعليٍّ: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه». ثمّ رواه عن أبي هريرة وفيه: إنّه اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة، يعني مرجعه عليه السلام من حجّة الوداع.
ولا يصحّ لا هذا ولا هذا.
بل الصواب الذي لا شكّ فيه ولا مرية، أنّها أُنزلت يوم عرفة، وكان يوم جمعة، كما روى ذلك أميرالمؤمنين عمر بن الخطّاب!! وعليّ بن أبي طالب عليه السلام، وأوّل ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان، وترجمان القرآن عبداللّه بن عبّاس، ومسرة بن جندب. وأرسله الشعبي، وقتادة بن دعامة، وشهر بن حوشب، وغير واحد من الأئمّة والعلماء، واختاره ابن جرير الطبري رحمة اللّه»(2).
أقول:
أوّلا: إذا كان لم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، فكيف جاءت الآية وسط أحكام لا علاقة لها بها، وبعدها حلال وحرام؟!
إنّ وضعها في هذا الموضع تمهيدٌ لأن يضع الوضّاعون ـ بعد ذلك ـ الأحاديث المختلقة في شأن نزول الآية المباركة; حتّى تضيع الحقيقة.
وثانياً: إذا كان النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قد توفّي بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً، وذلك في الثاني عشر من ربيع الأوّل كما يقولون، فإنّ ذلك يتناسب مع نزول الآية يوم غدير خمّ الثامن عشر من ذي الحجّة لا يوم عرفة التاسع منه!
وثالثاً: هل نزلت الآية يوم عرفة؟! يوم جمعة؟!
في رواية عن عمر: «عشيّة عرفة يوم الجمعة».
وفي رواية أُخرى عنه، قال سفيان: «أشكُّ كان يوم جمعة أم لا».
وفي رواية عن عليٍّ ـ لو صحّت ـ : «عشيّة عرفة» فقط.
وفي رواية عن ابن عبّاس: «يوم الاثنين» بلا ذِكر لـ«يوم عرفة».
وفي رواية عن ابن عبّاس أيضاً: «ليس بيوم معلوم عند الناس» فلا عرفة، ولا جمعة!
وفي رواية عن أنس بن مالك: «في مسيره إلى حجّة الوداع» فلا عرفة، ولا جمعة، كذلك.
وفي رواية عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: «اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة» يوم غدير خمّ.
وفي رواية أُخرى عند البيهقي: «أنّها نزلت يوم التروية»(3).
وفي رواية النسائي، عن طارق بن شهاب، عن عمر ـ وهو سند البخاري نفسه ـ : «قال عمر: قد علمت اليوم الذي أُنزلت فيه والليلة التي أُنزلت، ليلة الجمعة، ونحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بعرفات»(4).
فالأحاديث متعارضة..
وحتّى التي عن عمر بن الخطّاب!!
فالحقّ:
هو ما قاله أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، ورواه كبار الحفّاظ وأعلام العلماء من أهل السُنّة عن عدّة من الصحابة، من أنّها إنّما نزلت يوم غدير خمّ، بعدما خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خطبته التي قال فيها ما شاء اللّه أن يقول، وجاء فيها ـ بعد أن أخذ بيد عليٍّ أمير المؤمنين: «من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه…».

(1) كذا، والصحيح: ابن.
(2) تفسير ابن كثير 2 / 14 ـ 15.
(3) فتح الباري 8 / 218.
(4) سنن النسائي 5 / 251.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *