كلام ابن الجوزي و الردّ عليه

وكأن ابن تيمية قد تبع ابن الجوزي في رمي الحديث بالوضع، فإنّه قد أدرجه في كتابه في الموضوعات قائلاً: «الحديث الرابع والعشرون: في الوصيّة إليه، يرويه سلمان، وله أربع طرق» فذكر الطريق الثاني قال: «ففيه مطر بن ميمون، قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث. وفيه جعفر، وقد تكلّموا فيه»(1).
وفي كلامه نظر من وجوه:
الأول: إن حديث سلمان في الوصية غير منحصر بالطرق الأربع التي ذكرها، فهو لم يذكر طريق الطبراني الذي ذكرناه عن المعجم الكبير، وسيأتي التحقيق فيه.
والثاني: إن غاية الكلام في «مطر» أنه منكر الحديث عند البخاري، وأمّا كلام الأزدي فلا يعبأ به، لضعف الأزدي نفسه كما نصّ عليه الذهبي وغيره(2)، فهل يكفي هذا لأن يعدّ الحديث في الموضوعات؟
والثالث: قوله: «وفيه جعفر، وقد تكلّموا فيه» مردود، بأن الرجل لم يتكلّم فيه إلاّ من جهة التشيّع، والتشيّع غير مضرّ كما نصّ عليه الحافظ ابن حجر(3) ولذا قال بترجمته: «صدوقٌ يتشيّع»(4).
ولهذه الأمور وأمثالها نصّ غير واحد من الأعلام على أن ابن الجوزي متسرّع في الحكم بالوضع، وأنه لا ينبغي أن يغترّ بذلك(5)… ومن هنا فقد تعقّبه الحافظ السيوطي في هذا المقام أيضاً(6).
فإن كان ابن تيمية المغترّ بابن الجوزي، عالماً بحاله فما أشدّ تعصّبه، وإلاّ فما أجهله!
هذا، وللحديث عن سلمان في هذا الباب غير ما ذكر من الأسانيد، فقد ذكرنا رواية الطبراني في الكبير، وليس فيه مطر ولا جعفر، وظاهر الطبراني قبول الحديث سنداً، فلذا اضطرّ لأن يؤول معناه فقال بعده ما نصه: «قوله: وصيي» يعني: أنه أوصاه في أهله لا بالخلافة. وقوله: خير من أترك بعدي. يعني من أهل بيته»(7).
لكنه تمحّل واضح وتكلّف بيّن، بل المراد هو الخلافة من بعده، وهذا المعنى هو محلّ الحاجة للصحابة إذ طلبوا من سلمان أن يسأل عنه النبي صلّى اللّه عليه وآله، وإلى ما ذكرنا أشار ابن كثير إذ قال: «وفي تأويل الطبراني ـ يبدو صحة الحديث وإن كان غير صحيح ـ نظر، واللّه أعلم»(8).
إلا أن ابن كثير لم يذكر وجه الضّعف، حتى رجعنا إلى الحافظ الهيثمي فوجدناه يقول: «وفي إسناده ناصح بن عبد اللّه، وهو متروك»(9).
أقول:
أولاً: الرجل ممن أخرج عنه الترمذي وابن ماجة(10).
وثانياً: هو من مشايخ جمع من أئمة القوم كأبي حنيفة وهو من أقرانه(11).
وثالثاً: قد وثّقه أو مدحه غير واحد من الأكابر:
«قال ابن حبان: كان شيخاً صالحاً غلب عليه الصّلاح، فكان يأتي بالشيء على التوهّم، فلما فحش ذلك منه استحق الترك.
وقال أحمد بن حازم بن أبي غرزة: سمعت عبيد اللّه بن موسى وأبا نعيم يقولان جميعاً عن الحسن بن صالح قال: ناصح بن عبد اللّه المحلَّمي نعم الرجل»(12).
ورابعاً: قال ابن عدي ـ بعد أن أورد أحاديث له ـ «وهو في جملة متشيعي أهل الكوفة، وهو ممن يكتب حديثه»(13).
وخامساً: إن السبب في تضعيف من ضعّفه هو نقله لأحاديث الفضائل!! والمناقب بكثرة، وإليه أشار أبو حاتم(14) وابن عدي، بل بهذا السّبب قيل: «كان يذهب إلى الرفض»(15)، وإليك عبارة الذهبي:
«قلت: كان من العابدين. ذكره الحسن بن صالح فقال: رجل صالح، نعم الرجل» ثم روى ما يلي: «إسماعيل بن أبان، حدّثنا ناصح أبو عبد اللّه عن سماك عن جابر قالوا: يا رسول اللّه، من يحمل رايتك يوم القيامة؟ قال: من عسى أن يحملها إلا من حملها في الدنيا، يعني عليّاً.
يحيى بن يعلى المحاربي، عن ناصح بن عبد اللّه، عن سماك بن حرب، عن أبي سعيد الخدري عن سلمان قال قلت: يا رسول اللّه…هذا خبر منكر»(16).
فظهر، أن السبب الأصلي للقدح في الرجل رواية مثل هذه الأحاديث، فإن القوم لا يطيقون سماعها ولا يتحمّلون الراوي لها!
هذا، والأحاديث الواردة في الوصيّة لأمير المؤمنين وأنه عليه السلام هو الوصيُّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، كثيرة، ومن ذلك: عن ابن بريدة، عن أبيه، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «لكلّ نبي وصي ووارث وإن وصيي ووارثي علي بن أبي طالب».
أخرجه الحاكم في تاريخه، وابن عساكر، وأبو القاسم البغوي، وابن عدي، والمحبّ الطبري وغيرهم من أعلام الحفاظ(17).
وليس فيه من تكلّم فيه إلاّ «محمد بن حميد الرازي» لكنه من رجال الترمذي وأبي داود وابن ماجة، ووثقه أبو زرعة الرازي ويحيى بن معين فقال: «ثقة ليس به بأس، رازي كيّس».
وحدّث عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ومحمد بن يحيى الذهلي، وقال ابن عدي ـ بعد أن ذكر له أحاديث ـ : «وتكثر أحاديث ابن حميد التي أنكرت عليه إن ذكرناها، على أن أحمد بن حنبل قد أثنى عليه خيراً لصلابته في السنّة».
إلاّ أن الجوزجاني الناصبي قال: «رديء المذهب» والبخاري قال: «في حديثه نظر»(18).
وبما ذكرنا من الأحاديث في المسألة والتحقيق حولها كفاية لمن أراد الهداية.

(1) كتاب الموضوعات 1 / 374 ـ 375.
(2) ميزان الإعتدال 1 / 61.
(3) مقدّمة فتح الباري: 398.
(4) تقريب التهذيب 1 / 130.
(5) اُنظر: تدريب الراوي 1 / 235، الصواعق المحرقة: 90، جواهر العقدين، الجزء الأوّل من القسم الثاني: 73 ط بغداد، استجلاب ارتقاء الغرف: 61.
(6) اللآلي المصنوعة 1 / 358 ـ 359.
(7) المعجم الكبير 6 / 221.
(8) جامع المسانيد والسنن 5 / 383 برقم 3633.
(9) مجمع الزوائد 9 / 114.
(10) تقريب التهذيب.
(11) تهذيب الكمال 29 / 261.
(12) تهذيب الكمال 29 / 263.
(13) الكامل 7 / 47 ونقله المزي في تهذيب الكمال 29 / 263 ـ 264.
(14) الجرح والتعديل 8 / 502 .
(15) الضعفاء للعقيلي 4 / 311.
(16) ميزان الإعتدال 4 / 240.
(17) تاريخ دمشق 42 / 392، الرياض النضرة 2 / 178، تنزيه الشريعة الغراء 1 / 356.
(18) تهذيب الكمال 25 / 101، الكامل في الضعفاء 6 / 275.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *