الردّ على كلام ابن تيميّة

الشرح:
قال ابن تيمية ما حاصله بلفظه: «إن أراد أنه اعتقد أنه من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فهذا لم يعتقده أحد من علماء المسلمين، وإن اعتقد مثل هذا بعض الجهّال، وإن أراد باعتقادهم إمامة يزيد أنهم يعتقدون أنه كان ملك جمهور المسلمين وخليفتهم في زمانه صاحب السيف، كما كان أمثاله من خلفاء بني أمية وبني العباس. فهذا أمر معلوم لكلّ أحد، ومن نازع في هذا كان مكابراً، فإن يزيد بويع بعد موت أبيه معاوية، وأمّا كونه برّاً أو فاجراً فذاك أمر آخر.
ولكن مذهب أهل السنّة والجماعة أن هؤلاء يشاركون فيما يحتاجون إليهم فيه من طاعة اللّه، فتصلّى خلفهم الجمعة والعيدان وغيرهما من الصّلوات، وقلّ من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولّد على فعله من الشرّ أعظم مما تولّد من الخير، كالذين خرجوا على يزيد بالمدينة، فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنياً… واللّه تعالى لا يأمر بأمر لا يحصل به صلاح الدين ولا صلاح الدنيا.
ولهذا لمّا أراد الحسين رضي اللّه عنه أن يخرج إلى أهل العراق لما كاتبوه كتباً كثيراً، أشار عليه أفاضل أهل العلم والدين أن لا يخرج، وهم في ذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة المسلمين، واللّه ورسوله إنما يأمر بالصلاح لا بالفساد، لكن الرأي يصيب تارة ويخطئ أخرى، فتبين أن الأمر على ما قاله أولئك، ولم يكن في الخروج لا مصلحة دين ولا مصلحة دنيا، بل تمكن أولئك الظلمة الطغاة من سبط رسول اللّه حتى قتلوه مظلوماً شهيداً، وكان في خروجه وقتله من الفساد ما لم يكن حصل لو قعد في بيته.
وإذا تبين هذا فنقول: الناس في يزيد طرفان ووسط، قوم يعتقدون أنه كان من الصحابة أو من الخلفاء الراشدين المهديين أو من الأنبياء. وهذا كلّه باطل.
وقوم يعتقدون أنه كان كافراً منافقاً في الباطن وأنه كان له قصد في أخذ ثار كفار أقاربه من أهل المدينة وبني هاشم، وأنه أنشد:
لمّا بدت تلك الحمول وأشرفت *** تلك الرؤوس على ربى جيرون
نعق الغراب فقلت نح أو لا تنح *** فلقد قضيت من النبي ديوني
وأنه تمثل بشعر ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا *** جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرن من ساداتهم *** وعدلناه ببدر فاعتدل
وكلا القولين باطل، يعلم بطلانه كلّ عاقل.
فإن الرجل ملك من ملوك المسلمين، وخليفة من الخلفاء الملوك. لا هذا ولا هذا.
وصار الناس في قتل الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ ثلاثة أصناف، طرفين ووسطاً.
أحد الطرفين يقول: إنه قتل بحق، فإنه أراد أن يشق عصا المسلمين ويفرّق الجماعة، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: من جاءكم وأمركم على رجل واحد يريد أن يفرق جماعتكم، فاقتلوه. قالوا: والحسين جاء وأمر المسلمين على رجل واحد، فأراد أن يفرق جماعتهم. وقال بعض هؤلاء: هو أوّل خارج خرج في الإسلام على ولاة الأمر.
والطرف الآخر قالوا: بل هو الإمام الواجب طاعته، الذي لا ينفذ أمر من أمور الإيمان إلا به، ولا تصلّى جماعة ولا جمعة إلا خلف من يولّيه، ولا يجاهد عدو إلا بإذنه، ونحو ذلك.
وأما الوسط فهم أهل السنة، الذين يقولون لا هذا ولا هذا، بل يقولون: قتل مظلوماً شهيداً، ولم يكن متولّياً لأمر الأمة، والحديث المذكور لا يتناوله، فإنه لمّا بلغه ما فعل بابن عمّه مسلم بن عقيل ترك طلب الأمر، وطلب أن يذهب إلى يزيد ابن عمّه أو إلى الثغر أو إلى بلده، فلم يمكّنوه، وطلبوا منه أن يستأسر لهم، وهذا لم يكن واجباً عليه.
وصار الشيطان بسبب قتل الحسين ـ رضي اللّه عنه ـ يحدث للناس بدعتين: بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللّطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثي، وما يفضي إلى ذلك من سبّ السلف ولعنهم، وإدخال من لا ذنب له مع ذوي الذنوب، حتى يسبّ السابقون الأوّلون، وتقرأ أخبار مصرعه التي كثير منها كذب. وكان قصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة، فإن هذا ليس واجباً ولا مستحبّاً باتفاق المسلمين، بل إحداث الجزع والنياح للمصائب القديمة من أعظم ما حرّمه اللّه ورسوله.
وكذلك بدعة السرور والفرح.
وكانت الكوفة بها قوم من الشيعة المنتصرين للحسين، وكان رأسهم المختار بن أبي عبيد الكذاب، وقوم من الناصبة المبغضين لعلي رضي اللّه عنه وأولاده ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي، فأحدث أولئك الحزن، وأحدث هؤلاء السرور، ولم يستحب أحد من أئمة المسلمين الأربعة وغيرهم لا هذا ولا هذا.
والذين نقلوا مصرع الحسين زادوا أشياء من الكذب، والمصنفون في أخبار قتل الحسين منهم من هو من أهل العلم كالبغوي وابن أبي الدنيا وغيرهما.
ومع ذلك فيما يروونه آثار منقطعة وأمور باطلة، وقد روي بإسناد مجهول أن الرأس حمل إليه، وأنه هو الذي نكت على ثناياه، وهذا مع أنه لم يثبت ففي الحديث ما يدلّ على أنه كذب، فإن الذين حضروا نكته بالقضيب من الصحابة لم يكونوا بالشام وإنما كانوا بالعراق.
والذي نقله غير واحد أن يزيد لم يأمر بقتل الحسين، ولا كان له غرض في ذلك، بل كان يختار أن يكرمه ويعظمه، وإن خبر قتله لمّا بلغ يزيد وأهله، ساءهم ذلك وبكوا على قتله وقال يزيد: لعن اللّه ابن مرجانة يعني عبيد اللّه بن زياد.
ولكنه مع ذلك، ما انتصر للحسين ولا أمر بقتل قاتله ولا أخذ بثأره.
وأمّا ما ذكره من سبي نسائه والذراري، والدوران بهم في البلاد، وحملهم على الجمال بغير أقتاب، فهذا كذب وباطل، ما سبى المسلمون ـ وللّه الحمد ـ هاشميّة قط، ولا استحلّت أمة محمد صلى اللّه عليه وسلم سبي بني هاشم قط، ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيراً، وفي الجملة، فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية، ولا سبي عيال الحسين، بل لمّا دخلوا إلى بيت يزيد قامت النياحة في بيته و أكرمهم وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة، فاختاروا الرجوع إلى المدينة. ولا طيف برأس الحسين. وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب ما ليس هذا موضع بسطه»(1).
أقول:
إن الذي قاله العلاّمة رحمه اللّه هو «تمادى بعضهم في التعصب حتى اعتقدوا إمامة يزيد بن معاوية»، فهو لم ينسب إلى أحد الاعتقاد بكون يزيد من الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، كي يقال: «هذا لم يعتقده أحد من علماء المسلمين» بل يقول: بأن الاعتقاد بإمامة يزيد بن معاوية ـ مع الاعتراف بعدم كونه من الأئمة المهديين، وكونه من الأئمة الضالّين المضلّين ـ إنما هو من التمادي في التعصب… وهذا ما لم يجب عنه ابن تيمية، بل تكلّم بكلام يستنتج منه كونه من هؤلاء المتمادين في التعصب، لأنه يرى يزيد «إماماً» تجب إطاعته وتحرم مخالفته، مع التصريح بأن «كونه براً أو فاجراً أمر آخر»!! بل إنه يصرح بأن ما فعله الإمام الحسين السبط الشهيد عليه السلام، وما فعله أهل المدينة المنورة… كان مبغوضاً للّه سبحانه، ومعنى ذلك كون يزيد في جميع ما فعل على حق وصواب.
لقد اضطرّ لاختلاق أقوال ـ أو أناس يقولون بتلك الأقوال ـ وإلا، فأيّ عاقل يعتقد بكون يزيد من الصحابة؟ أو كونه من الأنبياء؟
إنه ليس هناك غير قولين، أحدهما: هو القول بإمامته وحرمة القيام عليه، وهذا قول بعضهم ـ وهم المتمادون في التعصب ـ كاللّيث بن سعد. فقد روى يحيى بن بكير عن اللّيث بن سعد، قال اللّيث: توفي أمير المؤمنين يزيد في تاريخ كذا. فسماه اللّيث أمير المؤمنين بعد ذهاب ملكه وانقراض دولته، ولولا كونه عنده كذلك ما قال إلا توفي يزيد(2).
وكابن العربي المالكي صاحب (العواصم من القواصم)، فقد قال كلمة يقشعرّ منها الجلد ـ كما عبّر ابن حجر المكي ـ نقلوها عنه مع التنديد به، قال ابن حجر المكي ـ في المنح المكية في شرح القصيدة الهمزية ـ : «وكابن العربي المالكي، فإنه نقل عنه ما يقشعر منه الجلد، إنه قال: لم يقتل يزيد الحسين إلا بسيف جدّه، أي: بحسب اعتقاده الباطل أنه الخليفة والحسين باغ عليه والبيعة سبقت ليزيد…»(3).
وقال المناوي: «قيل لابن الجوزي ـ وهو على كرسيّ الوعظ ـ كيف يقال: يزيد قتل الحسين وهو بدمشق والحسين بالعراق؟ فقال:
سهم أصاب وراميه بذي سلم *** من بالعراق لقد أبعدت مرماكا
وقد غلب على ابن العربي الغضّ من أهل البيت حتى قال: قتله بسيف جدّه»(4).

(1) منهاج السنّة 4 / 559 .
(2) العواصم من القواصم: 227. والليث بن سعد وإن كان عثماني الهوى، إلا أنا غير واثقين الآن بصحة ما نسب إليه ابن العربي.
(3) المنح المكّية في شرح الهمزيّة: 271.
(4) فيض القدير ـ شرح الجامع الصغير 1 / 205.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *