التحقيق في القضيّة ردّاً على ابن تيميّة

أقول:
قال اللّه تعالى: (بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحيمِ * يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللّهُ لَكَ تَبْتَغي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَليمُ الْحَكيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَديثًا فَلَمّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْض فَلَمّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَليمُ الْخَبيرُ * إِنْ تَتُوبا إِلَى اللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْريلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهيرٌ * عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمات مُؤْمِنات قانِتات تائِبات عابِدات سائِحات ثَيِّبات وَأَبْكارًا)(1).
فأخرج البخاري(2) في كتاب المظالم والغصب، وفي كتاب التفسير، وفي كتاب الرضاع، وفي كتاب النكاح وغيرها، وكذا مسلم(3) في الرضاع في غير موضع، وكذا غيرهما من أرباب الصحاح وكبار المحدثين والمفسرين: (أنهما عائشة وحفصة).
و(التظاهر) هو (التعاون بالإيذاء).
ولم تكن هذه القصّة هي المرّة الأولى ولا الأخيرة، حتى يقال بأن المرأتين تابتا إلى اللّه كما دعاهما عزّ وجل.. ولذا قال بعد ذلك (وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْريلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ) فلو كانتا قد تابتا لم يكن حاجة إلى ذلك.
بل إن ما صنعته عائشة مع أمير المؤمنين عليه السلام ـ وهو نفس رسول اللّه عليهما السلام بالكتاب والسنّة ـ تظاهر عليه، ولعلّه لذا قال (وَصالِحُ الْمُؤْمِنينَ)، إذ المراد به فيما رواه القوم أنفسهم هو (علي بن أبي طالب)(4).
ثم إن هذا التظاهر على النبي صلّى اللّه عليه وآله قد اقترن بأمور أخرى، فلم يكن ذنباً كسائر الذنوب التي يتاب منها فتكون كأن لم تكن، ولذا نزل فيه الوحي المبين المشتمل على التهديد.
لكن لم يكن من المرأتين ـ ولا سيما عائشة ـ إلا الاستمرار في الإيذاء للرسول بأنحاء مختلفة، حتى أن في بعض الموارد، حيث اطلع أبوها على ما فعلت، تناولها ضرباً شديداً ورسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله حاضر، كما رواه أرباب الصحاح والسنن، ولو أردنا تفصيل الكلام في ذلك لخرجنا عن المقصود.
وعلى الجملة، فإن عائشة ما تابت عمّا فعلت وما صغى قلبها، بل استمرّت في نظائر ذلك الذي فعلت ونزل فيه القرآن المجيد… .
فما ذكره الرجل دفاعاً عنها غير مفيد، وتنظير أفعال عائشة ببعض ما صدر من بعض الصحابة غير سديد.
وأمّا المعارضة بما وضعته يد الناصبة من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام ابنة أبي جهل. فمردودة، بأن القصة موضوعة للكيد من رسول اللّه المصطفى وعلي المرتضى والصدّيقة الكبرى، كما أثبتنا ذلك والحمد للّه.
وأمّا المعارضة بتوقف الإمام عليه السلام عن محو اسم النبي صلّى اللّه عليه وآله عن كتاب الصلح، فإنما تدلّ على سوء فهم الرجل أو شدّة تعصّبه، فالإعراض عن بيان سقوطها أولى كما لا يخفى، ويكفي أن نعلم بأن من علمائهم من يجعل هذه القصة مؤيّدة لما رووا من تراجع أبي بكر عن موضعه في الصّلاة، مع أمر النبي صلّى اللّه عليه وآله بأن يستمر، قال الشوكاني: «تقرير النبي صلّى اللّه عليه وسلّم له على ذلك يدلّ على ما قاله البعض من أن سلوك طريق الأدب خير من الامتثال، ويؤيّد ذلك عدم إنكاره على علي لما امتنع من محو اسمه في قصّة الحديبية»(5).
ومن العجيب أنه يجعل توقّف الإمام عن محو الاسم في قصّة الحديبيّة قدحاً ويتناسى اعتراض عمر على صلح النبي ولا يجعل شكّه في نبوّته قدحاً!

(1) سورة التحريم: الآيات 1 ـ 5.
(2) صحيح البخاري 6 / 70 ـ 167 و 7 / 232.
(3) صحيح مسلم 3 / 185.
(4) فتح الباري 13 / 27، الدر المنثور 6 / 244، كنز العمال 2 / 539 رقم: 4675، مجمع الزوائد 9 / 194، الصواعق المحرقة: 144.
(5) نيل الأوطار 3 / 169.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *