دفاع ابن تيميّة وتعريضه بأئمة أهل البيت (عليهم السلام)

ولكن الذين سلبوا أئمة الحق سلطانهم هم المسمّون بـ«أهل السنّة» لا سيما أهل الشوكة منهم، وهذا ما اعترف به الرجل حيث قال: «ومن المعلوم أن أهل السنّة لا ينازعون في أنه كان بعض أهل الشوكة بعد الخلفاء الأربعة يولُّون شخصاً وغيره أولى بالولاية منه… وحينئذ، فأهل الشوكة الذين قدَّموا المرجوح وتركوا الراجح، والذي تولّى بقوّته وقوّة أتباعه ظلماً وبغياً، يكون إثم هذه الولاية على من ترك الواجب مع قدرته على فعله أو أعان على الظلم، وأما من لم يظلم ولا أعان ظالماً وإنما أعان على البرّ والتقوى، فليس عليه من هذا شيء..»(1).
أقول: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف يفضِّل (هؤلاء الملوك الظلمة) كما وصفهم(2)على إمام من أئمة أهل البيت مع إساءة الأدب تجاهه والتهريج بمن يعتقد بإمامته، فيقول: «وكلّ من تولّى كان خيراً من المعدوم والمنتظر الذي تقول الرافضة أنه الخلف الحجة، فإن هذا لم يحصل بإمامته شيء من المصلحة لا في الدنيا ولا في الدّين أصلاً، ولا فائدة في إمامته، إلاّ الاعتقادات الفاسدة والأماني الكاذبة والفتن بين الأمة… بل هو معدوم».
فإن هذا الكلام لا يصدر إلا من متعصب عنيد أو معتوه لا يفقه ما يقول:
أمّا أولاً: فلأن من كان ذا عقل أو دين، لا يفضِّل يزيد بن معاوية وعبد الملك ابن مروان، وهارون، والمتوكل، وأمثالهم، على إمام ثبتت إمامته بالأدلّة القويمة التي سنذكر بعضها في موضعها.
وأمّا ثانياً: فإن المهدي المنتظر حيّ موجود وليس بمعدوم، ولا يختص القول بوجوده بالشيعة الإمامية… كما ستعلم.
وأمّا ثالثاً: فإنه قد حصلت وتحصل بإمامة المهدي ووجوده ـ وهو غائب ـ مصالح كثيرة في الدنيا والدّين، علّنا نذكر طرفاً منها فيما سيأتي… ولكن المنافقين لا يفقهون.
وأمّا رابعاً: فإن الإعتقاد بإمامة المهدي فرض من اللّه ورسوله، والقول بعدم الفائدة في إمامته… تكذيب للّه ورسوله.
وأمّا خامساً: فلقد اعترف الرجل: بأن كثيرين ممّن كانت لهم الأولويّة والأحقيّة بالولاية لم يتولّوا; لأن أهل الشوكة لم يكونوا موافقين على ذلك، فيكون عليهم الإثم في ولاية أولئك الظلمة، وفي عدم ولاية الذين جعلهم اللّه أئمة العباد وساسة البلاد.
وكذا الكلام في قوله بالنسبة إلى آباء المهدي، وكلّهم أئمة بالكتاب والسنّة: «وأما آباؤه…»(3) وذلك:
أوّلاً: لأن القدرة وسلطان الأمة، ليس من شرائط منصب الإمامة كما تقدّم.
ثانياً: إن آباءه عليهم السّلام حتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كانوا منابع العلم وأعلام الدين… .
ثالثاً: إن إمامة هؤلاء ليست كإمامة من وصفه أهل السنّة بالإمامة في العلم والدّين كأئمة المذاهب وغيرهم عندهم، ليرجع إليهم في الحديث والفتيا ونحو ذلك فقط، بل هي رئاسة الدّين والدنيا نيابة عن النبي، وأساسها (النص) عليهم المستتبع لوجوب إطاعتهم وحرمة معصيتهم في جميع أوامرهم ونواهيهم مطلقاً.
وأما اعتذاره عمّن يرجع إلى الحاكم الجاهل أو الظالم أو المفضول ففيه نظر.
أمّا أولاً: فلأن اللّه عز وجلّ يقول: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ…)(4) وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله: «أيّما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس علم أن في العشرة أفضل ممن استعمل، فقد غشّ اللّه وغشّ رسوله وغشّ جماعة المسلمين»(5) وقال صلّى اللّه عليه وآله: «من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى للّه منه، فقد خان اللّه ورسوله والمؤمنين»(6).
وأمّا ثانياً: فلأن التحاكم إلى سلطان الجور ودفع الأموال إليه والصّلاة خلفه… تشييد لحكومته وتقوية لسلطانه، وحينئذ يتمكن من الظلم والاستمرار في غصب الحق من أهله.
وأمّا قوله: «وأهل السنّة يقولون: ينبغي أن يولّى الأصلح للولاية إذا أمكن، إما وجوباً عند أكثرهم وإما استحباباً عند بعضهم، وإن من عدل عن الأصلح مع قدرته لهواه فهو ظالم، ومن كان عاجزاً عن تولية الأصلح مع محبته لذلك فهو معذور. ويقولون: من تولّى فإنه يستعان به على طاعة اللّه بحسب الإمكان، ولا يعان إلا على طاعة اللّه ولا يستعان به على معصية اللّه، ولا يعان على معصية اللّه تعالى»(7).
فيقال له: إن كان المراد من (الولاية) هو (الإمامة) فليس أمر الإمامة بيد الخلق فيولّوا الأصلح لها دون الصالح وغيره، بل هي كالنبوة: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(8) وعلى الأمة ـ وجوباً ـ الانقياد له كما ينقادون للنبي صلّى اللّه عليه وآله. وإن كان المراد منها (الإمارة) و (السلطنة) الفعلية، بمعنى التمكن له، فليس بواجب ولا مستحب، بل حرام قطعاً; لأن ذلك من شؤون الإمام المنصوب من قبل اللّه ورسوله.
وبالجملة، فإن (الإمامة) هي (الخلافة) و(النيابة) عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، و(الإمام) هو من يقوم مقام النبي وينوب عنه، ويتولّى الأمور الدنيوية والديّنية بنص منه وتعيين من اللّه: (وَما كانَ لِمُؤْمِن وَلا مُؤْمِنَة إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)(9).
أفليس هذا القول خيراً من قول القوم بأن كلّ من تسلط على رقاب المسلمين وتغلّب على الحكم، فكان له القدرة والسلطان، فهو خليفة اللّه وأمير المؤمنين، وإن كان جائراً فاجراً جاهلاً؟!

* * *

(1) منهاج السنة 1 / 550.
(2) المصدر 1 / 547 ـ 548.
(3) منهاج السنة 1 / 549.
(4) سورة النساء: 60.
(5) كنز العمال 6 / 19 الحديث 14653.
(6) كنز العمال 6 / 25 رقم: 14678.
(7) منهاج السنة 1 / 551.
(8) سورة القصص: 68.
(9) سورة الأحزاب: 36.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *