(2) نظراتٌ في أسانيده

(2)
نظراتٌ في أسانيده
نقاط حول السند والدلالة:
كانت تلك أسانيد هذا الحديث وطرقه في أهمّ كتب الحديث وجوامعه، ولا بُدّ قبل الورود في النظر في أحوال رجال الأسانيد والرواة، أن نشير بإيجاز إلى نكات جديرة بالانتباه إليها . . .
1 ـ إنّ هذا الحديث يكذّبه واقع الحال بين الصحابة أنفسهم، فلقد وجدناهم كثيراً ما يخالفون سُنّة أبي بكر وعمر، والمفروض أنّهما من الخلفاء الراشدين، بل لقد خالف الثاني منهما الأوّل في أكثر من مورد!! فلو كان هذا الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حقّاً لَما وقعت تلك الخلافات والمخالفات . . .
هذا ما ذكره جماعة . . . وعلى أساسه أوّلوا الحديث، وقد نصّ بعضهم كشارح مسلَّم الثبوت(1) على ضرورة تأويله . . .
قلت: لكنّ هذا إنّما يضطرّ إليه فيما لو كان الأصحاب ملتزمين بإطاعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ومنقادين لأوامره ونواهيه . . . ولكن . . .
2 ـ إنّ هذا الحديث بجميع طرقه وأسانيده، ينتهي إلى «العرباض بن سارية السلمي» فهو الراوي الوحيد له . . . وهذا ممّا يورث الشكّ في صدوره . . . لأنّ الحديث كان في المسجد . . . وكان بعد الصلاة . . . وكان موعظة بليغةً من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم . . . ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب . . . ثمّ طلب منه أنْ يعهد إلى الأُمّة . . . فقال . . .
فكيف لم يروه إلاّ العرباض؟! ولِمَ لَمْ يرووه إلاّ عن العرباض؟!
3 ـ إنّ هذا الحديث إنّما حُدِّث به في الشام، وإنّما تناقله وروّجه أهل الشام! وأكثر رواته من أهل حمص بالخصوص، وهم من أنصار معاوية وأشدّ أعداء عليّ أمير المؤمنين عليه السلام(2).
فبالنظر إلى هذه الناحية، لا سيّما مع ضمّ النظر في متن الحديث إليه، لا يبقى وثوق بصدور هذا الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، إذْ كيف يوثَق بحديث يرويه حمصيّ عن حمصيّ عن حمصيّ!! . . ولا يوجد عند غيرهم من حملة الحديث والأثر علم به؟! وأهل الشام قاطبةً غير متحرّجين من الافتعال لما ينتهي إلى تشييد سلطان معاوية أو الحطّ ممّن خالفه!
4 ـ إنّ هذا الحديث ممّا أعرض عنه البخاري ومسلم، وكذا النسائي من أصحاب السنن . . . وقد بنى غير واحد من العلماء الكبار من أهل السُنّة على عدم الاعتناء بحديث اتّفق الشيخان على الإعراض عنه، وإنْ اتّفق أرباب السنن على إخراجه والعناية به . . .
قال ابن تيميّة بجواب حديث افتراق الأُمّة على ثلاث وسبعين فرقة:
«فإنّ هذا الحديث ليس في الصحيحين، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث كابن حزم وغيره، ولكنْ قد رواه أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجة، ورواه أهل المسانيد كالإمام أحمد وغيره»(3).
قلت: ومن عجيب الاتّفاق: أنّ حديث «عليكم بسُنّتي . . .» كذلك تماماً، فإنّه «ليس في الصحيحين، بل قد طعن فيه بعض أهل الحديث ـ كابن القطّان ـ ولكنْ قد أورده أهل السنن كأبي داود والترمذي وابن ماجة، ورواه أهل المسانيد كالإمام أحمد».
بل إنّهم بنوا على طرح الخبر إنْ أعرض عنه البخاري وإنْ أخرجه مسلم . . . وهذا ما نصّ عليه ابن القيّم . . . وسننقل عبارته . . . في الفصل اللاحق. وقد جاء في آخرها:
«ولو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به».
قلت: فكذا حديثنا . . . فلو صحّ عنده لم يصبر عن إخراجه والاحتجاج به . . . كيف وقد تبعه مسلم . . . وهو بمرأىً ومشهد منهما؟!
ثمّ جاء الحاكم النيسابوري . . . فأراد توجيه إعراضهما عنه بأنّهما «توهّما . . .» أي: إنّ إعراضهما موهن، ولكنّهما توهّما . . . ولولا ذلك لأخرجاه . . .
وسنرى أنّ الحاكم هو المتوهّم . . .
5 ـ ثم إن المخرجين له . . . منهم من صحّحه كالترمذي والحاكم، ومنهم من سكت عنه كأبي داود، ومنهم من عدّه في الحِسان كالبغوي(4) ومنهم من حكم عليه بالبطلان كابن القطّان . . .

(1) فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت 2 / 231.
(2) اُنظر كلمة ياقوت عن أهل حمص في معجم البلدان 2 / 349.
(3) منهاج السُنّة 3 / 456.
(4) مصابيح السُنّة 1 / 159 كتاب الايمان باب الاعتصام بالكتاب والسنة الرقم 129.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *