كلمة المؤلف

كلمة المؤلف

بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين، ولعنة اللّه على أعدائهم أجمعين، من الأوّلين والآخرين.
وبعد:
فإنّ اللّه عزّ وجلّ أرسل نبيّه العظيم صلّى اللّه عليه وآله وسلّم (بِالْهُدى وَدينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(1) وأنزل عليه القرآن «حجّة اللّه على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه وارتهن عليه أنفسهم، أتمّ نوره، وأكرم به دينه»(2).
وكما كتب سبحانه لدينه الخلود، لكونه خير الأديان وأتمّها وقال: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اْلإِسْلامِ دينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي اْلآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرينَ)(3)، كذلك تعهّد بحفظ القرآن ـ الذي وصفه أمير المؤمنين عليه السلام بأنّه «أثافي الإسلام وبنيانه»(4)ـ حيث قال (إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنّا لَهُ لَحافِظُونَ)(5).
وكان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يعلّم الناس القرآن، وينظّم أُمور المجتمع على ضوء تعاليمه، فكان كلّما نزل عليه الوحي حفظ الآية الكريمة أو السورة المباركة، وأمر الكُتّاب بكتابتها ثمّ أبلغها الناس، وأقرأها القرّاء واستحفظهم إيّاها، وهم يقومون بدورهم بنشر ما حفظوه ووعوه، وتعليمه لسائر المسلمين حتى النساء والصبيان.
وهكذا كانت الآيات تحفظ بألفاظها ومعانيها، وكانت أحكام الإسلام وتعاليمه تنشر وتطبّق في المجتمع الإسلامي.
غير أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كان يُلقي إلى سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام ـ إبتداءً أو كلّما سأله ـ تفسير الآيات وحقائقها، والنسب الموجودة فيما بينها، من المحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيّد، والمجمل والمبيّن، إلى غير ذلك… يقول عليه السلام:
«وقد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمّني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشيء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللّه تعالى به صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم علماً من أخلاقه ويأمرني بالإقتداء به.
ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرّنة؟ فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى، إلاّ أنّك لست بنبيّ، ولكنّك وزير، وإنّك لعلى خير…»(6).
وبذلك توفّرت في شخصه ـ دون غيره ـ الأعلمية بالكتاب والسنّة، التي هي من أولى الصفات المؤهّلة للإمامة وقيادة الأُمّة بعد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
وتوفّي النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وتقمّص الذين كان يلهيهم الصفق بالأسواق عن تعلّم القرآن وأحكام الدين ـ حتى أبسط مسائله اليوميّة ـ الخلافة، وآلَ أمرها إلى ما آل إليه… فقام سيّدنا أمير المؤمنين عليه السلام مقام النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في حفظ الكتاب والسنّة وتعليمهما الناس، والترغيب فيهما، والحثّ عليهما… فهو من جهة كان يبادر إلى جمع القرآن مضيفاً إليه ما سمعه من النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم حول آياته من التفسير والتأويل وغير ذلك، ويدرّس جماعة من أهل بيته وأصحابه ومشاهير الصحابة ممّا وعاه عن النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من علوم الكتاب والسنّة، حتى كان من أعلامهم الحسن والحسين عليهما السلام، وعبد اللّه بن العبّاس، وعبد اللّه بن مسعود، وأمثالهم، وبواسطتهم كان انتشار علم القرآن في العالَم الإسلامي.
ومن جهة أُخرى يراقب ما يصدر عن الحكّام وغيرهم عن كثب، كي ينفي عن الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
فكان عليه السلام المرجع الأعلى لعموم المسلمين في جميع أُمورهم الدينية لاسيّما المعضلات، حتى اضطرّ بعض أعلام الحفّاظ إلى الإعتراف بذلك وقال: «وسؤال كبار الصحابة له، ورجوعهم إلى فتاويه وأقواله، في المواطن الكثيرة، والمسائل المعضلات، مشهور»(7).
وهكذا… كان سعي أمير المؤمنين عليه السلام في حفظ القرآن بجميع معاني الكلمة، وهكذا كان غيره من أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
وكان الإهتمام بالقرآن العظيم من أهمّ أسباب تقدّم الإسلام ورقيّ المسلمين، كما كان التلاعب بالعهدين من أهمّ الأُمور التي أدّت إلى انحطاط اليهود والنصارى، فأصبح الهجوم على القرآن نقطة التلاقي بين اليهود والنصارى وبين المناوئين للإسلام والمسلمين، لأنّهم إن نجحوا في ذلك فقد طعنوا الإسلام في الصميم.
لكنّ اللّه سبحانه قد تعهّد بحفظ القرآن وأن (لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(8) فاندحروا في جميع الميادين صاغرين، والحمد للّه ربّ العالمين.
لكنّ «شبهة تحريف القرآن» ما زالوا يردّدونها بين حين وآخر، وعلى لسان بعض الكتّاب المتظاهرين باسم الإسلام ويا للأسف، يستأجرونهم لتوجيه الضربة إلى القرآن والإسلام من الداخل، ولإلقاء الفتنة فيما بين المسلمين، ولذا تراهم ـ في الأغلب ـ أُناساً حاقدين على آل البيت عليهم السلام ومذهبهم وأتباعهم.
ونحن في هذا البحث ـ الذي لم نقصد به الدفاع عن أحد أو الردّ على أحد ـ تعرّضنا لهذه «الشبهة» وكأنّها «مسألة» جديرة بالبحث والتعقيب والتحقيق،… فاستعرضنا في فصوله أهمّ ما يوهم التحريف قولاً وقائلاً ودليلاً… لدى الشيعة وأهل السُنّة… ودرسنا كلّ ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا الباب دراسةً موضوعيّة… وحدّدنا ما يمكن أنْ يتمسّك به للتحريف من الأخبار والآثار، ومَنْ يجوز أن ينسب إليه القول به من العلماء في الطائفتين… .
فوجدنا الأدلّة على عدم التحريف من الكتاب والسُنّة وغيرهما كثيرةً وقويمة، وأنّ القول بصيانة القول عن التحريف هو مذهب المسلمين عامّةً إلاّ من شذّ…
لكنّ هذا الشذوذ جاء اغتراراً بأحاديث مخرّجة في الكتب الموصوفة بالصحّة عند أهل السُنّة… مسندةً إلى جماعة من صحابة النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعلى رأسهم من اعترف منهم بأنّ «كلّ الناس أفقه منه حتّى النساء في الخدور»… وهذه هي المشكلة… لكنّ الحقّ عدم صحّة تلك الأحاديث أيضاً، وأنّ تلك الكتب ـ كغيرها ـ تشتمل على أباطيل وأكاذيب… والحقّ أحقّ أنْ يتّبع… .
واللّه نسأل أن يجعلنا من خدّام القرآن الكريم والعترة الطاهرة ومن التابعين لهم، وأن يجعل أعمالنا خالصة، وأن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى، إنّه سميع مجيب.

علي الحسيني الميلاني

(1) سورة التوبة 9 : 33.
(2) نهج البلاغة: الخطبة 183، في قدرة اللّه وفي فضل القرآن.
(3) سورة آل عمران 3 : 85.
(4) نهج البلاغة: الخطبة رقم 198 ينبّه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات… .
(5) سورة التوبة 9 : 15.
(6) نهج البلاغة: الخطبة 192 وتسمّى بالقاصعة.
(7) تهذيب الأسماء واللغات، للحافظ النووي 1 : 346، الترجمة رقم 429.
(8) سورة فصّلت 41 : 42.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *