المنازل التي نزل بها الحسين من مكة حتى كربلاء

المنازل التي نزل بها الحسين من مكة حتى كربلاء
1 ـ التنعيم(1): سار الحسين بن علي عليهما السلام ومر بالتنعيم ومانعه عبدالله بن عمر وكان على عين له ومال له فلم يمتنع(2).
2 ـ الصفاح: ومر بالصفاح، روى الطبري بإسناده عن عبدالله بن سليم والمذري قالا: أقبلنا حتى انتهينا إلى الصفاح، فلقينا الفرزدق بن غالب الشاعر، فواقف حسيناً فقال له: أعطاك الله سؤلك وأملك فيما تحب، فقال له الحسين: بين لنا نبأ الناس خلفك، فقال له الفرزدق: من الخبير سألت، قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء، فقال له الحسين: صدقت، لله الأمر والله يفعل ما يشاء، وكل يوم ربنا في شأن، ان نزل القضاء بما نحب فنحمد الله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، وان حال القضاء دون الرجاء، فلم يعتد من كان الحق نيته والتقوى سريرته. ثم حرك الحسين راحلته فقال: السلام عليك، ثم افترقا»(3).
3 ـ ذات عرق(4): ثم سار من الصفاح ومر بوادي العقيق حتى نزل ذات عرق.
روى الطبري بإسناده عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: «لما خرجنا من مكة كتب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى الحسين بن علي مع ابنيه عون ومحمّد:
أما بعد، فاني أسألك بالله لما انصرفت حين تنظر في كتابي، فاني مشفق عليك من الوجه الذي توجه له أن يكون فيه هلاكك واستئصال أهل بيتك، ان هلكت اليوم طفىء نور الأرض، فانك علم المهتدين، ورجاء المؤمنين، فلا تعجل بالسير فاني في أثر الكتاب، والسلام.
قال: وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلمه، وقال: اكتب الى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنيه فيه البر والصلة، وتوثق له في كتابك، وتسأله الرجوع لعله يطمئن الى ذلك فيرجع، فقال عمرو بن سعيد: اكتب ما شئت وائتني به حتى أختمه، فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب، ثم أتى به عمرو ابن سعيد فقال له: اختمه، وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد فانه أحرى أن تطمئن نفسه اليه، ويعلم أنه الجد منك، ففعل، وكان عمرو بن سعيد عامل يزيد بن معاوية على مكة، قال: فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثم انصرفا بعد أن اقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان مما اعتذر به الينا أن قال: اني رأيت رؤيا فيها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمرت فيها بأمر أنا ماض له، علي كان أولي، فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال: ما حدثت أحداً بها، وما أنا محدث بها حتى ألقى ربي(5).
قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد الى الحسين بن علي:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: أما بعد، فإني أسأل الله أن يصرفك عما يوبقك وأن يهديك لما يرشدك. بلغني أنك قد توجهت إلى العراق، واني أعيذك بالله من الشقاق، فاني أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت اليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبل إلي معهما، فان لك عندي الأمان والصلة والبرّ وحسن الجوار لك، الله عليّ بذلك شهيد وكفيلٌ، ومُراع ووكيل، والسلام عليك.
قال: وكتب اليه الحسين: أما بعد فانه لم يشاقق الله ورسوله من دعا إلى الله عزّوجل وعمل صالحاً وقال إني من المسلمين، وقد دعوت إلى الأمان والبر والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة من لم يخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافةً في الدنيا توجب لنا أمانه يوم القيامة، فان كنت نوبت بالكتاب صلتي وبرّي، فجزيت خيراً في الدنيا والآخرة، والسلام»(6).
وقال الخوارزمي: «لقيه رجلٌ من بني أسد يقال له بشر بن غالب، فقال له الحسين: ممن الرجل؟ قال: من بني أسد، قال: فمن أين أقبلت؟ قال: من العراق، قال: فكيف خلف أهل العراق؟ فقال: يا ابن رسول الله خلفت القلوب معك، والسيوف مع بني أمية، فقال له الحسين: صدقت يا أخا بني أسد، ان الله تبارك وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، قال له الأسدي: يا ابن رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاس بِإِمَامِهِمْ)(7) فقال له الحسين: نعم يا أخا بني أسد، هما إمامان: إمام هدى دعا إلى هدى، وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة، فهذا ومن أجابه إلى الهدى في الجنة، وهذا ومن أجابه إلى الضلالة في النار»(8).
4 ـ الحاجر(9): قال المفيد: «بعث قيس بن مسهر الصيداوي ـ ويقال: بل بعث أخاه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ـ إلى الكوفة ولم يكن عليه السّلام علم بخبر ابن عقيل رحمه الله وكتب معه إليهم:
بسم الله الرحمن الرحيم: من الحسين بن علي الى إخوانه من المؤمنين والمسلمين سلام عليكم، فاني أحمد اليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملأكم على نصرنا والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصت اليكم من مكة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحجة يوم التروية، فإذا قدم عليكم رسولي فانكمشوا في أمركم وجدّوا فاني قادم عليكم في أيامي هذه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وكان مسلم كتب إليه قبل أن يقتل بسبع وعشرين ليلة، وكتب إليه أهل الكوفة أن لك هنا مائة ألف سيف ولا تتأخر، فأقبل قيس بن مسهر إلى الكوفة بكتاب الحسين عليه السّلام حتى إذا انتهى إلى القادسية أخذه الحُصين بن نمير فبعث به إلى عبيد الله بن زياد، فقال له عبيد الله بن زياد: اصعد فسب الكذاب الحسين بن علي، فصعد قيس فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: أيها الناس ان هذا الحسين بن علي خير خلق الله ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وأنا رسوله اليكم فأجيبوه، ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه واستغفر لعلي ابن أبي طالب وصلى عليه فأمر عبيد الله أن يرمى به من فوق القصر فرموا به فتقطع.
وروي أنه وقع الى الأرض مكتوفاً فتكسرت عظامه وبقي به رمق فجاء رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فقيل له في ذلك وعيب عليه، فقال: أردت أن اريحه»(10).
قال السيد ابن طاووس: «وكتب الحسين عليه السّلام كتاباً الى سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وجماعة من الشيعة بالكوفة وبعث به مع قيس بن مسهر الصيداوي فلما قارب دخول الكوفة اعترضه الحصين بن نمير صاحب عبيد الله بن زياد لعنه الله ليفتشه فأخرج قيس الكتاب ومزقه فحمله الحصين بن نمير إلى عبيد الله بن زياد فلما مثل بين يديه قال له: من أنت؟ قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه قال: فلماذا خرقت الكتاب؟ قال: لئلا تعلم ما فيه، قال: وممن الكتاب؟ وإلى من؟ قال: من الحسين إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم، فغضب ابن زياد وقال: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن علي واباه وأخاه وإلا قطعتك ارباً إرباً، فقال قيس: أما القوم فلا أخبرك بأسمائهم، وأما لعن الحسين وأبيه وأخيه فأفعل، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأكثر من الترحم على علي والحسن والحسين صلوات الله عليهم، ثم لعن عبيد الله بن زياد واباه ولعن عتاة بني أمية من أولهم إلى آخرهم ثم قال:
أيها الناس أنا رسول الحسين اليكم وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه، فأخبر ابن زياد بذلك فأمر بإلقائه من أعالي القصر فألقي من هناك فمات.
فبلغ الحسين عليه السّلام قتله فاستعبر بالبكاء، ثم قال: اللهم اجعل لنا ولشيعتنا منزلا كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، انك على كل شيء قدير»(11).
5 ـ ماء من مياه العرب: قال الطبري: «عليه عبد الله بن مطيع العدوي، وهو نازل ها هنا فلما رأى الحسين قام اليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا ابن رسول الله ما أقدمك، واحتمله فأنزله، فقال له الحسين: كان من موت معاوية ما قد بلغك، فكتب إلي أهل العراق يدعونني إلى أنفسهم، فقال له عبد الله بن مطيع: اذكرك الله يا ابن رسول الله وحرمة الإسلام أن تنتهك، أنشدك الله في حرمة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنشدك الله في حرمة العرب فوالله لئن طلبت ما في أيدي بني أمية ليقتلنك، ولئن قتلوك لا يهابون بعدك أحداً أبداً، والله انها لحرمة الإسلام تنتهك، وحرمة قريش وحرمة العرب، فلا تفعل ولا تأت الكوفة ولا تعرّض لبني أمية. فأبى إلا أن يمضي»(12).
6 ـ الخزيمية(13): قال الخوارزمي: «ولما نزل الحسين بالخزيمية، أقام بها يوماً وليلة فلما أصبح جاءت اليه أخته زينب بنت علي فقالت له: يا أخي ألا أخبرك بشيء سمعته البارحة؟ فقال لها: وما ذاك يا أختاه؟ فقالت: اني خرجت البارحة في بعض الليل لقضاء حاجة فسمعت هاتفاً يقول:
ألا يا عين فاحتفلي بجهد *** فمن يبكي على الشهداء بعدي
على قوم تسوقهم المنايا *** بمقدار الى انجاز وعد
فقال لها الحسين: يا أختاه ما قضي فهو كائن»(14).
7 ـ زرود(15): قال الطبري: «فأقبل الحسين حتى إذا كان بالماء فوق زرود».
وروى عن رجل من بني فزارة قال: «لما كان زمن الحجاج بن يوسف كنا في دار الحارث بن أبي ربيعة، التي في التمارين، التي أقطعت بعد زهير بن القين، من بني عمرو بن يشكر من بجيلة، وكان أهل الشام لا يدخلونها، فكنا مختبئين فيها، قال: فقلت للفزاري: حدثني عنكم حين أقبلتم مع الحسين بن علي، قال: كنا مع زهير ابن القين البجلي حين أقبلنا من مكة نساير الحسين، فلم يكن شيء أبغض الينا من أن نسايره في منزل، فإذا سار الحسين تخلف زهير بن القين، وإذا نزل الحسين تقدم زهير، حتى نزلنا يومئذ في منزل لم نجد بداً من أن ننازله فيه، فنزل الحسين في جانب ونزلنا في جانب، فبينا نحن جلوس نتغدى من طعام لنا، إذ أقبل رسول الحسين حتى سلم ثم دخل فقال: يا زهير بن القين، ان أبا عبد الله الحسين بن علي بعثني اليك لتأتيه قال: فطرح كل انسان ما في يده حتى كأننا على رؤوسنا الطير.
قال أبو مخنف: فحدثتني دلهم بنت عمرو امرأة زهير بن القين قالت: فقلت له: أيبعث اليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟ سبحان الله لو أتيته فسمعت من كلامه، ثم انصرفت، قالت: فأتاه زهير بن القين فما لبث أن جاء مستبشراً قد أسفر وجهه قالت: فأمر بفسطاطه وثقله ومتاعه فقدم، وحمل إلى الحسين، ثم قال لامرأته: أنت طالق، الحقي بأهلك، فاني لا أحب أن يصيبك من سببي الاّ خير، ثم قال لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني وإلاّ فإنه آخر العهد، انّي سأحدثكم حديثاً: غزونا بلنجر، ففتح الله علينا، وأصبنا غنائم، فقال لنا سلمان الباهلي: أفرحتم بما فتح الله عليكم وأصبتم من الغنائم؟ فقلنا: نعم، فقال لنا: إذا ادركتم شباب آل محمّد فكونوا أشد فرحاً بقتالكم معهم منكم بما أصبتم من الغنائم. فأما أنا فاني استودعكم الله، قال: ثم والله ما زال في أول القوم حتى قتل»(16).
قال السيد ابن طاووس: «قال زهير: قد عزمت على صحبة الحسين عليه السّلام لأفديه بنفسي وأقيه بروحي. ثم أعطاها مالها وسلمها إلى بعض بني عمها ليوصلها الى أهلها، فقامت اليه وبكت وودعته وقالت: كان الله عوناً ومعيناً، خار الله لك، أسألك أن تذكرني في القيامة عند جد الحسين»(17).
قال الخوارزمي: «فسار الحسين حتى بلغ زرود، فلقي رجلا على راحلة له وكان الحسين وقف ينتظره فلما رأى الرجل ذلك عدل عن الطريق فتركه الحسين ومضى، قال عبد الله بن سليمان والمنذر بن المشمعل الأسديان: كنا نساير الحسين، فلما رأينا الحسين وقف للرجل والرجل عدل عن طريقه، لحقنا بالرجل فسلمنا عليه فرد علينا السّلام، فقلنا: ممن الرجل قال: أسدي، قلنا: ونحن أسديان، ما الخبر؟ قال: الخبر أن مسلم بن عقيل وهاني بن عروة قد قتلا، ورأيتهما يجرّان في السوق بأرجلهما»(18).
8 ـ الثعلبية(19): ذكر الشيخ المفيد أن الأسديّين قالا: فأقبلنا حتى لحقنا الحسين فسايرناه حتى نزل الثعلبية ممسياً فجئناه حين نزل، فسلمنا عليه فرد علينا السلام فقلنا له: رحمك الله، ان عندنا خبراً ان شئت حدثناك علانيةً وان شئت سراً فنظر إلينا وإلى اصحابه ثم قال: ما دون هؤلاء سر، فقلنا له: أرأيت الراكب الذي استقبلته عشي أمس؟ قال: نعم، وقد أردت مسألته، فقلنا قد والله استبرأنا لك خبره وكفيناك مسألته، وهو امرؤ منا ذو رأي وصدق وعقل، وانه حدثنا انه لم يخرج من الكوفة حتى قُتل مسلم وهاني ورآهما يجران في السوق بأرجلهما فقال: انا لله وانا إليه راجعون، رحمة الله عليهما، يردد ذلك مراراً، فقلنا له: ننشدك الله في نفسك وأهل بيتك الاّ انصرفت من مكانك هذا، فانه ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة، بل نتخوف أن يكونوا عليك، فنظر الى بني عقيل فقال: ما ترون فقد قتل مسلم، فقالوا: والله لا نرجع حتى نصيب ثارنا أو نذوق ما ذاق، فأقبل علينا الحسين وقال: لا خير في العيش بعد هؤلاء، فعلمنا أنه قد عزم رأيه على المسير فقلنا له: خار الله لك، فقال: رحمكما الله. فقال له أصحابه: انك والله ما أنت مثل مسلم بن عقيل ولو قدمت الكوفة لكان الناس اليك أسرع، فسكت ثم انتظر حتى إذا كان السحر قال لفتيانه وغلمانه: اكثروا من الماء. فاستقوا واكثروا ثم ارتحلوا»(20).
قال السيد ابن طاووس: «قال الراوي: نزل الثعلبية وقت الظهيرة فوضع رأسه فرقد، ثم استيقظ فقال: قد رأيت هاتفاً يقول: انتم تسرعون والمنايا تسرع بكم إلى الجنة، فقال له ابنه علي: يا أبه أفلسنا على الحق؟ فقال: بلى يا بُني، والله الذي إليه مرجع العباد فقال: يا أبه اذن لا نبالي بالموت، فقال الحسين عليه السّلام: جزاك الله يا بني خير ما جزى ولداً عن والده، ثم بات في الموضع المذكور فلما اصبح إذا برجل من الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي قد أتاه فسلم عليه، ثم قال: يا ابن رسول الله، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك رسول الله؟ فقال الحسين: ويحك يا أبا هرّة ان بني امية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت. وايم الله لتقتلني الفئة الباغية وليلبسنهم الله ذلا شاملا وسيفاً قاطعاً وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة فحكمت في أموالهم ودمائهم»(21).
9 ـ الشقوق(22): قال ابن شهر آشوب «لما نزل الشقوق أتاه رجل فسأله عن العراق فأخبره بحاله، فقال: ان الأمر لله يفعل ما يشاء، وربنا تبارك كل يوم هو في شأن. فان نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه وهو المستعان على أداء الشكر، وان حال القضاء دون الرجاء فلم يبعد من الحق نيته، ثم أنشد:
فان تكن الدنيا تعد نفيسة *** فدار ثواب الله أعلى وأنبل
وان تكن الأموال للترك جمعها *** فما بال متروك به الحر يبخل
وان تكن الأرزاق قسماً مقدراً *** فقلة حرص المرء في الكسب اجمل
وان تكن الأبدان للموت انشئت *** فقتل امرىء بالسيف في الله أفضل
عليكم سلام الله يا آل أحمد *** فاني أراني عنكم سوف أرحل(23)
10 ـ زبالة(24): قال الطبري: «حتى إذا انتهى إلى زبالة سقط اليه مقتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر، وكان سرحه إلى مسلم بن عقيل من الطريق وهو لا يدري انه قد أصيب، فتلقاه خيل الحصين بن نمير بالقادسية فسرح به إلى عبيد الله ابن زياد. فقال: اصعد فوق القصر فالعن الكذاب ابن الكذاب، ثم أنزل حتى أرى فيك رأيي، قال: فصعد، فلما أشرف على الناس قال: أيها الناس، اني رسول الحسين ابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة ابن سمية الدعي، فأمر به عبيد الله فألقي من فوق القصر إلى الأرض، فكسرت عظامه، وبقي به رمق، فأتاه رجل يقال له عبد الملك بن عمير اللخمي فذبحه، فلما عيب ذلك عليه قال: انما أردت أن أريحه.
قال هشام: حدثنا أبو بكر بن عياش عمن أخبره، قال: والله ما هو عبد الملك بن عمير الذي قام إليه فذبحه، ولكنه قام اليه رجل جعد طوال يشبه عبد الملك بن عمير، قال: فأتى ذلك الخبر حسيناً وهو بزبالة، فأخرج للناس كتاباً، فقرأ عليهم:
بسم الله الرّحمن الرّحيم
أما بعد، فانه قد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف، ليس عليه منا ذمام.
قال: فتفرق الناس عنه تفرقاً، فأخذوا يميناً وشمالا حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، وانما فعل ذلك لأنه ظن انما اتبعه الأعراب، لأنهم ظنوا أنه يأتي بلداً قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه الاّ وهم يعلمون علام يقدمون، وقد علم أنهم إذا بين لهم لم يصحبه الاّ من يريد مواساته والموت معه»(25).
11 ـ بطن العقبة، أو عقبة البطن: قال المفيد: «حتى مر ببطن العقبة فنزل عليها فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوان فسأله: أين تريد؟ فقال له الحسين عليه السّلام: الكوفة. فقال الشيخ: أنشدك لما انصرفت فوالله ما تقدم إلاّ على الأسنة وحدّ السيوف، وان هؤلاء الذين بعثوا اليك لو كانوا كفوك مؤونة القتال ووطأوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأياً، فأما على هذه الحال التي تذكر فاني لا أرى لك أن تفعل فقال له: يا عبد الله ليس يخفى علي الرأي، وان الله تعالى لا يغلب على أمره ثم قال: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي فإذا فعلوا سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل فرق الأمم»(26).
روى ابن قولويه بإسناده عن أبي عبدالله الصادق عليه السّلام أنه قال: «لما صعد الحسين بن علي عليه السّلام عقبة البطن قال لأصحابه: ما أراني إلا مقتولا، قالوا: وما ذاك يا أبا عبد الله؟ قال: رؤيا رأيتها في المنام قالوا: وما هي؟ قال: رأيت كلاباً تنهشني أشدها عليّ كلب أبقع»(27).
وروى ابن كثير عن يزيد الرشك قال: «حدثني من شافه الحسين قال: رأيت أخبية مضروبة بفلاة من الأرض فقلت: لمن هذه؟ قالوا: هذه لحسين قال: فأتيته فإذا شيخ يقرأ القرآن والدموع تسيل على خديه ولحيته، قال: قلت: بأبي وأمي يا ابن بنت رسول الله، ما أنزلك هذه البلاد والفلاة التي ليس بها أحد؟ فقال: هذه كتب أهل الكوفة اليّ ولا اراهم الاّ قاتلي، فإذا فعلوا ذلك لم يدعوا لله حرمة إلاّ انتهكوها، فيسلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم الأمة.
وأخبرنا علي بن محمّد عن الحسن بن دينار عن معاوية بن قرة، قال: قال الحسين: والله لتعتدن عليّ كما اعتدت بنو اسرائيل في السبت.
وحدّثنا علي بن محمّد عن جعفر بن سليمان الضبعي قال: قال الحسين: والله لا يدعوني حتى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي. فإذا فعلوا ذلك سلط الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من فرم الأمة»(28).
12 ـ شراف(29): «حتى نزل شراف، قال الطبري: فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثم ساروا منها، فرسموا صدر يومهم حتى انتصف النهار، ثم ان رجلا قال: الله أكبر، فقال الحسين: الله أكبر ما كبرت قال: رأيت النخل، فقال له الأسديان: ان هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، قالا: فقال لنا الحسين فما تريانه رأى؟ قلنا: نراه رأى هوادي الخيل، فقال: وأنا والله أرى ذلك، فقال الحسين: أما لنا ملجأ نلجأ اليه، نجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم من وجه واحد؟ فقلنا له: بلى، هذا ذو حُسُم إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فان سبقت القوم اليه فهو كما تريد، قالا: فأخذ إليه ذات اليسار، قالا: وملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبينّاها وعدنا فلما رأونا وقد عدلنا عن الطريق عدلوا الينا كأن أسنتهم اليعاسيب، وكأن راياتهم أجنحة الطير، قال: فاستبقنا إلى ذي حُسم فسبقناهم إليه»(30).
13 ـ ذو حسم: قال الطبري: «فنزل الحسين، فأمر بأبنيته فضربت، وجاء القوم وهم ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي اليربوعي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين في حرّ الظهيرة والحسين وأصحابه معتمون متقلدو أسيافهم. فقال الحسين لفتيانه: اسقوا القوم وارووهم من الماء ورشفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفاً، فقام فتية وسقوا القوم من الماء حتى أرووهم واقبلوا يملأون القصاع والأتوار(31) والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عزلت عنه وسقوا آخر حتى سقوا الخيل كلها.
قال هشام: حدثني لقيط، عن علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحرّ بن يزيد، فجئت في آخر من جاء من اصحابه، فلما رأى الحسين ما بي وبفرسي من العطش قال: انخ الراوية ـ والراوية عندي السقاء ـ ثم قال: يا ابن أخ، أنخ الجمل فأنخته، فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين: اخنث السقاء ـ أي اعطفه ـ قال: فجعلت لا ادري كيف أفعل! قال: فقام الحسين فخنثه، فشربت وسقيت فرسي قال: وكان مجيء الحر بن يزيد ومسيره الى الحسين من القادسية، وذلك أن عبيد الله بن زياد لما بلغه إقبال الحسين بعث الحصين بن نمير التميمي ـ وكان على شُرطه ـ فأمره أن ينزل القادسية، وان يضع المسالح فينظم ما بين القطقطانة الى خفان، وقدم الحر بن يزيد بين يديه في هذه الألف من القادسية فيستقبل حسيناً.
قال: فلم يزل موافقاً حسيناً حتى حضرت صلاة الظهر، فأمر الحسين الحجاج بن مسروق الجعفي أن يؤذن، فأذن، فلما حضرت الإقامة خرج الحسين في ازار ورداء ونعلين، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، انها معذرة الى الله عزّوجل واليكم، اني لم آتكم حتى أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم أن أقدم علينا فانه ليس لنا امام لعل الله يجمعنا بك على الهدى، فان كنتم على ذلك فقد جئتكم، فان تعطوني ما أطمئن اليه من عهودكم ومواثيقكم أقدم مصركم، وان لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين، انصرفت عنكم الى المكان الذي أقبلت منه اليكم قال: فسكتوا عنه وقالوا للمؤذّن: أقم فأقام للصلاة.
فقال الحسين للحُر: أتريد أن تصلي بأصحابك؟ قال: لا، بل تصلي أنت ونصلي بصلاتك قال: فصلى بهم الحسين. ثم انه دخل واجتمع اليه أصحابه، وانصرف الحر الى مكانه الذي كان به، فدخل خيمةً قد ضربت له فاجتمع اليه جماعة من أصحابه، وعاد أصحابه إلى صفهم الذي كانوا فيه، فأعادوه، ثم أخذ كل رجل منهم بعنان دابته وجلس في ظلها، فلما كان وقت العصر أمر الحسين أن يتهيأوا للرحيل.
ثم انه خرج فأمر مناديه فنادى بالعصر وأقام فاستقدم الحسين فصلى بالقوم ثم سلم، وانصرف إلى القوم بوجهه فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فانكم ان تتقوا وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم، والسائرين فيكم بالجور والعدوان، وان انتم كرهتمونا وجهلتم حقّنا وكان رأيكم غير ما أتتني كتبكم وقدمت به على رسلكم، انصرفت عنكم.
فقال له الحر بن يزيد: انّا والله ما ندري ما هذه الكتب التي تذكر.
فقال الحسين: يا عقبة بن سمعان، أخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوءين صُحُفاً فنشرها بين ايديهم.
فقال الحرُّ: فانا لسنا من هؤلاء الذين كتبوا اليك، وقد امرنا إذا نحن لقيناك الاّ نفارقك حتى نقدمك على عبيد الله بن زياد، فقال له الحسين: الموت أدنى اليك من ذلك، ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا، فركبوا وانتظروا حتى ركبت نساؤهم، فقال لأصحابه: انصرفوا بنا، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف.
فقال الحسين للحر: ثكلتك أمك! ما تريد؟ قال: أما والله لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها ما تركت ذكر أمه بالثكل أن أقوله كائناً من كان، ولكن والله مالي إلى ذكر أمك من سبيل الاّ بأحسن ما يقدر عليه. فقال له الحسين: فما تريد؟ قال الحر: أريد والله أن انطلق بك إلى عبيد الله بن زياد قال له الحسين: اذن والله لا أتبّعك، فقال له الحر: اذن والله لا أدعك، فترادا القول ثلاث مرات.
ولما كثر الكلام بينهما قال له الحر: اني لم أؤمر بقتالك، وانما امرت ألا افارقك حتى أقدمك الكوفة، فإذا أبيت فخذ طريقاً لا يدخلك الكوفة ولا يردك إلى المدينة، تكون بيني وبينك نصفاً حتى اكتب الى ابن زياد، وتكتب أنت إلى يزيد بن معاوية ان أردت أن تكتب اليه، أو الى عبيد الله بن زياد ان شئت، فلعل الله أن يأتي بأمر يرزقني فيه العافية من أن أبتلى بشيء من امرك، قال: فخذها هنا فتياسر عن طريق العذيب والقادسية وبينه وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلاً، ثم ان الحسين سار في اصحابه والحر يسايره»(32).
قال المفيد: «وهو (أي الحر) يقول له: يا حسين اني اذكرك الله في نفسك فاني اشهد لئن قاتلت لتقتلن. فقال له الحسين عليه السّلام: أفبالموت تخوفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني، وسأقول كما قال اخو الأوس لابن عمه، وهو يريد نصرة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فخوفه ابن عمه وقال: اين تذهب فانك مقتول فقال:
سأمضي وبالموت عارٌ على الفتى *** إذا ما نوى حقاً وجاهد مسلماً
وواسى الرجال الصالحين بنفسه *** وفارق مثبوراً وخالف مجرماً
فان عشت لم اندم وان مُت لم ألم *** كفى بك ذلاّ أن تعيش وتُرغما
فلما سمع ذلك الحر تنحى عنه، وكان يسير بأصحابه ناحية والحسين عليه السّلام في ناحية أخرى»(33).
قال الطبري: «قام حسين بذي حُسُم، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: انه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها، فلم يبق منها الاّ صبابة كصبابة الأناء وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أن الحق لا يعمل به، وأن الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً، فاني لا أرى الموت لا سعادة ولا الحياة مع الظالمين الاّ برماً قال: فقام زهير بن القين البجلي فقال لأصحابه: تتكلمون أم أتكلم؟ قالوا: لا بل تكلم، فحمد الله فأثنى عليه، ثم قال: قد سمعنا هداك الله يا ابن رسول الله مقالتك والله لو كانت الدنيا لنا باقية، وكنا فيها مخلدين الاّ أن فراقها في نصرك ومواساتك لآثرنا الخروج معك على الاقامة فيها، قال: فدعا له الحسين، ثم قال له خيراً»(34).
قال السيد ابن طاووس: «وقام هلال بن نافع البجلي فقال: والله ما كرهنا لقاء ربنا وانا على نياتنا وبصائرنا نُوالي من والاك، ونعادي من عاداك، قال: وقام برير بن خضير، فقال: والله يا ابن رسول الله، لقد من الله بك علينا أن نقاتل بين يديك وتقطع فيك أعضاؤنا، ثم يكون جدك شفيعنا يوم القيامة»(35).
14 ـ البيضة(36):
قال الطبري: «قال أبو مخنف: عن عقبة بن أبي العيزار أن الحسين خطب أصحابه وأصحاب الحر بالبيضة، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس ان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلا لحرم الله ناكثاً لعهد الله مخالفاً لسنة رسول الله يعمل في عباد الله بالأثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله، ألا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وأنا أحق من غيري، قد اتتني كتبكم، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فان تممتم على بيعتكم تصيبوا رشدكم، فأنا الحسين بن علي وابن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، نفسي مع أنفسكم، وأهلي مع أهليكم، فلكم في اسوة. وان لم تفعلوا ونقضتم عهدكم وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنكر، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، ومن نكث فانما ينكث على نفسه، وسيغني الله عنكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»(37).
15 ـ عذيب الهجانات(38):
قال الطبري: «حتى انتهوا إلى عذيب الهجانات وكان بها هجائن النعمان ترعى هنالك، فاذاهم بأربعة نفر قد أقبلوا من الكوفة على رواحلهم، يجنبون فرساً لنافع بن هلال يقال له الكامل، ومعهم دليلهم الطرماح بن عدي على فرسه. وهو يقول:
يا ناقتي لا تذعري من زجري *** وشمري قبل طلوع الفجر
بخير رُكبان وخير سفر *** حتى تحلى بكريم النجر
الماجد الحر رحيب الصدر *** أتى به الله لخير أمر
ثمّت ابقاه بقاء الدهر
قال: فلما انتهوا إلى الحسين أنشدوه هذه الأبيات، فقال: أما والله اني لأرجو أن يكون خيراً ما أراد الله بنا، قتلنا أم ظفرنا، قال: واقبل اليهم الحر بن يزيد فقال: ان هؤلاء النفر الذين من أهل الكوفة ليسوا ممن أقبل معك. وأنا حابسهم أو رادّهم، فقال: له الحسين: لأمنعنهم مما أمنع منه نفسي، إنما هؤلاء أنصاري واعواني، وقد كنت أعطيتني ألا تعرض لي بشيء حتى يأتيك كتاب من ابن زياد، فقال: أجل لكن لم يأتوا معك، قال: هم اصحابي وهم بمنزلة من جاء معي، فان تممت على ما كان بيني وبينك والا ناجزتك قال: فكف عنهم الحر، قال: ثم قال لهم الحسين: أخبروني خبر الناس وراءكم، فقال له مجمع بن عبدالله العائذي، وهو أحد النفر الأربعة الذين جاءوه: أما أشراف الناس فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم، يستمال ودهم ويستخلص به نصيحتهم، فهم ألب واحدٌ عليك، وأما سائر الناس بعد، فان افئدتهم تهوي اليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك، قال: أخبروني، هل لكم علم برسولي اليكم، قالوا: من هو؟ قال: قيس بن مسهر الصيداوي، فقالوا: نعم، أخذه الحصين بن نمير فبعث به الى ابن زياد فأمره ابن زياد أن يلعنك ويلعن أباك، فصلى عليك وعلى أبيك ولعن ابن زياد وأباه ودعا إلى نصرتك وأخبرهم بقدومك، فأمر به ابن زياد فألقي من طمار القصر. فترقرقت عينا حُسين ولم يملك دمعه، ثم قال: (فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) اللهم اجعل لنا ولهم الجنة نزلا، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك ورغائب مذخور ثوابك.
قال أبو مخنف: حدثني جميل بن مرثد من بني معن، عن الطرماح بن عدي أنه دنا من الحسين فقال له: والله اني لأنظر فما أرى معك أحداً، ولو لم يقاتلك هؤلاء الذين أراهم ملازميك لكان كفى بهم، وقد رأيت قبل خروجي من الكوفة اليك بيوم ظهر الكوفة وفيه من الناس ما لم تر عيناي في صعيد واحد جمعاً أكثر منه، فسألت عنهم، فقيل: اجتمعوا ليعرضوا، ثم يسرحون إلى الحسين فأنشدك الله ان قدرت على ألا تقدم عليهم شبراً الاّ فعلت، فان اردت أن تنزل بلداً يمنعك الله به حتى ترى من رأيك ويستبين لك ما أنت صانع، فسر حتى انزلك مناع جبلنا الذي يدعى أجأ، امتنعنا والله به من ملوك غسان وحمير ومن النعمان بن المنذر ومن الأسود والأحمر والله ان دخل علينا ذل قط، فأسير معك حتى انزلك القريّة، ثم نبعث إلى الرجال ممن بأجأ وسلمى من طيء، فوالله لا يأتي عليك عشرة أيام حتى تأتيك طيء رجالا وركباناً، ثم اقم فينا ما بدالك، فان هاجك هيج فأنا زعيم لك بعشرين ألف طائي يضربون بين يديك بأسيافهم، والله لا يوصل اليك ابداً ومنهم عين تطرف، فقال له: جزاك الله وقومك خيراً، انه قد كان بيننا وبين هؤلاء القوم قول لسنا نقدر معه على الانصراف، ولا ندري علام تنصرف بنا وبهم الأمور في عاقبة.
قال أبو مخنف: فحدثني جميل بن مرثد، قال: حدثني الطرماح بن عدي قال: فودعته وقلت له: دفع الله عنك شر الجن والأنس، اني قد امترتُ لأهلي من الكوفة ميرة، ومعي نفقة لهم، فآتيهم فأضع ذلك فيهم، ثم اقبل اليك ان شاء الله، فان ألحقك فوالله لأكونن من أنصارك، قال: فان كنت فاعلا فعجل رحمك الله، قال: فعلمت انه مستوحشٌ الى الرجال حتى يسألني التعجيل.
قال: فلما بلغت أهلي وضعت عندهم ما يصلحهم، وأوصيت، فأخذ أهلي يقولون: انك لتصنع مرتك هذه شيئاً ما كنت تصنعه قبل اليوم. فأخبرتهم بما أريد، واقبلت في طريق بني ثعل، حتى إذا دنوت من عذيب الهجانات استقبلني سماعة بن بدر، فنعاه إلي فرجعت»(39).
قال الصدوق: «فيها قائلة الحسين الظهيرة، ثم انتبه من نومه باكياً فقال له ابنه: ما يبكيك يا أبا؟ فقال: يا بني انها ساعة لا تكذب الرؤيا فيها، وانه عرض لي في منامي عارضٌ فقال: تسرعون السير والمنايا تسير بكم إلى الجنة»(40).
16 ـ الرهيمة(41):
قال الصدوق: «ورد عليه رجل من أهل الكوفة يكنى أبا هرم، فقال: يا ابن النبي ما الذي أخرجك من المدينة؟ فقال: ويحك يا أبا هرم شتموا عرضي فصبرت، وطلبوا مالي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله ليقتلني، ثم ليلبسنهم الله ذلا شاملا، وسيفاً قاطعاً، وليسلطن عليهم من يذلهم»(42).
17 ـ قصر بني مقاتل(43): قال الطبري: «ومضى الحسين حتى انتهى الى قصر بني مقاتل، فنزل به، فإذا هو بفسطاط مضروب.
قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، أن الحسين بن علي رضي الله عنه، قال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي قال: ادعوه لي. وبعث اليه، فلما أتاه الرسول، قال: هذا الحسين بن علي يدعوك، فقال عبيد الله بن الحر: (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ)! والله ما خرجت من الكوفة الاّ كراهة أن يدخلها الحسين وأنا بها، والله ما أريد أن اراه ولا يراني، فأتاه الرسول فأخبره، فأخذ الحسين نعليه فانتعل، ثم قام فجاءه حتى دخل عليه، فسلم وجلس، ثم دعاه الى الخروج معه فاعاد اليه ابن الحُر تلك المقالة، فقال: فان لا تنصرنا فاتق الله أن تكون ممن يقاتلنا، فوالله لا يسمع واعيتنا أحدٌ ثم لا ينصرناهلك قال: أما هذا فلا يكون أبداً ان شاء الله، ثم قام الحسين عليه السّلام من عنده حتى دخل رحله.
قال أبو مخنف: حدثني عبد الرحمن بن جندب عن عقبة بن سمعان، قال: لما كان في آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء ثم أمرنا بالرحيل، ففعلنا، قال: فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعةً خفق الحسين برأسه خفقة، ثم انتبه وهو يقول (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قال: ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً، قال فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له، فقال (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ) (وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يا أبت، جعلت فداك! مم حمدت الله واسترجعت؟ قال: يا بني اني خفقت برأسي خفقةً فعنّ لي فارس على فرس، فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري اليهم، فعلمت أنها انفسنا نعيت إلينا. قال له: يا ابت، لا اراك الله سوءاً، ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي اليه مرجع العباد، قال: يا ابت، اذاً لا نبالي نموت محقين، فقال له: جزاك الله من ولد خير ما جزى ولداً عن والده.
قال: فلما اصبح نزل فصلى الغداة، ثم عجل الركوب، فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرقهم، فيأتيه الحر بن يزيد فيردهم فيرده، فجعل إذا ردهم الى الكوفة رداً شديداً امتنعوا عليه فارتفعوا، فلم يزالوا يتسايرون حتى انتهوا إلى نينوى المكان الذي نزل به الحسين، قال: فإذا راكب على نجيب له وعليه السّلاح متنكب قوساً مقبلٌ من الكوفة، فوقفوا جميعاً ينتظرونه، فلما انتهى اليهم سلم على الحر بن يزيد وأصحابه، ولم يسلم على الحسين عليه السّلام وأصحابه، فدفع إلى الحر كتاباً من عبيد الله بن زياد فإذا فيه: أما بعد فجعجع بالحسين حين يبلغك كتابي، ويقدم عليك رسولي، فلا تنزله الاّ بالعراء في غير حصن وعلى غير ماء وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتيني بانفاذك امري، والسلام.
قال: فلما قرأ الكتاب قال لهم الحر: هذا كتاب الأمير عبيد الله بن زياد يأمرني فيه أن أجعجع بكم في المكان الذي يأتيني فيه كتابه، وهذا رسوله وقد أمر ألا يفارقني حتى أنفذ رأيه وأمره، فنظر إلى رسول عبيد الله، يزيد بن زياد بن المهاجر أبو الشعثاء الكندي ثم البهدلي، فعن له فقال أمالك بن النسر البدي؟ قال: نعم ـ وكان أحد كندة ـ فقال له يزيد بن زياد: ثكلتك امك! ماذا جئت فيه؟ قال: وما جئت فيه؟ اطعت امامي، ووفيتُ ببيعتي، فقال له أبو الشعثاء: عصيت ربك، واطعت امامك في هلاك نفسك، كسبت العار والنار، قال الله عزّوجل: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ)(44) فهو إمامك»(45).
18 ـ القطقطانة(46): روى الطبري الإمامي باسناده عن راشد بن مزيد، قال: «شهدت الحسين بن علي وصحبته من مكة حتى اتينا القطقطانة، ثم استأذنته في الرجوع فأذن، فرأيته وقد استقبله سبع فكلمه فوقف له، قال: ما حال الناس بالكوفة؟ قال: قلوبهم معك وسيوفهم عليك، قال: ومن خلفت بها؟ قال: ابن زياد وقد قتل مسلم بن عقيل، قال: وأين تريد؟ قال: عدن، قال: أيها السبع هل عرفت ماء الكوفة؟ قال: ما علمنا من علمك الاّ ما زودتنا، ثم انصرف وهو يقول: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّم لِّلْعَبِيدِ)(47).
قال الصدوق: «سار الحسين عليه السّلام حتى نزل القطقطانة فنظر إلى فسطاط مضروب، فقال: لمن هذا الفسطاط؟ فقيل: لعبيد الله بن الحر الجعفي فأرسل إليه الحسين سلام الله عليه. فقال: أيها الرجل انك مذنب خاطىء ان الله عزّوجل آخذك بما أنت صانع ان لم تتب الى الله تبارك وتعالى في ساعتك هذه فتنصرني ويكون جدي شفيعك بين يدي الله تبارك وتعالى، فقال: يا ابن رسول الله والله لو نصرتك لكنت أول مقتول بين يديك، ولكن هذا فرسي خذه اليك فوالله ما ركبته قط وأنا أروم شيئاً الاّ بلغته ولا أرادني احدٌ الاّ نجوت عليه فدونك فخذه، فأعرض عنه الحسين عليه السّلام بوجهه، ثم قال: لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً)(48) ولكن فر، فلا لنا ولا علينا فانه من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا كبّه الله على وجهه في نار جهنم»(49).
19 ـ نينوى، والغاضرية، والشفّية، والعقر(50): قال الطبري: «واخذ الحر ابن يزيد القوم بالنزول في ذلك المكان على غير ماء ولا في قرية، فقالوا: دعنا ننزل في هذه القرية يعنون نينوى، أو هذه القرية يعنون الغاضرية، أو هذه الأخرى يعنون شفية، فقال: لا والله ما أستطيع ذلك، هذا رجل قد بعث علي عيناً، فقال له زهير بن القين: يا ابن رسول الله ان قتال هؤلاء اهون من قتال من يأتينا من بعدهم، فلعمري ليأتينا من بعد من ترى ما لا قبل لنا به، فقال له الحسين: ما كنت لأبدأهم بالقتال. فقال له زهير بن القين: سربنا إلى هذه القرية حتى تنزلها فانها حصينة وهي على شاطىء الفرات فان منعونا قاتلناهم، فقتالهم أهون علينا من قتال من يجيء من بعدهم، فقال له الحسين: وأية قرية هي؟ قال: هي العقر، فقال الحسين: اللهم اني أعوذ بك من العقر»(51).
قال الخوارزمي: «وقال للحسين رجل من شيعته يقال له هلال بن نافع الجملي: يا ابن رسول الله أنت تعلم أن جدك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يقدر أن يشرب الناس محبته ولا أن يرجعوا الى ما كان أحب. فكان منهم منافقون يعدونه بالنصر ويضمرون له الغدر، يلقونه بأحلى من العسل ويخلفونه بأمر من الحنظل حتى قبضه الله تبارك وتعالى اليه. وان اباك علياً صلوات الله عليه قد كان في مثل ذلك، فقوم قد أجمعوا على نصرته وقاتلوا معه الناكثين والقاسطين والمارقين، وقوم قعدوا عنه وخذلوه حتى مضى إلى رحمة الله ورضوانه وروحه وريحانه، وأنت اليوم يا ابن رسول الله على مثل تلك الحالة، فمن نكث عهده وخلع بيعته فلن يضر الاّ نفسه، والله تبارك وتعالى مغن عنه، فسربنا يا ابن رسول الله راشداً معافىً مشرقاً ان شئت أو مغرباً، فوالله الذي لا اله الاّ هو ما أشفقنا من قدر الله ولا كرهنا لقاء ربنا، وانا على نياتنا وبصائرنا نوالي من والاك ونعادي من عاداك.
وقال للحسين آخر من أصحابه يقال له برير بن خضير الهمداني: يا ابن رسول الله، لقد من الله تعالى علينا بك أن نقاتل بين يديك وتقطع فيك اعضاؤنا، ثم يكون جدّك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم شفيعاً يوم القيامة لنا، فلا أفلح قوم ضيعوا ابن بنت نبيهم، أف لهم غداً ما يلاقون سينادون بالويل والثبور في نار جهنم وهم فيها مخلدون، فجزّاهم الحسين خيراً.
قال: وخرج ولد الحسين واخوته وأهل بيته حين سمعوا الكلام فنظر اليهم وجمعهم عنده وبكى، ثم قال: اللهم انا عترة نبيك محمّد صلواتك عليه قد أخرجنا وأزعجنا وطردنا عن حرم جدنا، وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذلنا بحقنا وانصرنا على القوم الظالمين، ثم نادى بأعلى صوته في أصحابه: الرحيل، ورحل من موضعه ذلك»(52).
20 ـ كربلاء(53): قال السيد ابن طاووس «ثم ان الحسين عليه السّلام ركب وسار، كلما أراد المسير يمنعونه تارة ويسايرونه أخرى حتى بلغ كربلاء، وكان ذلك في اليوم الثاني من المحرم، فلما وصلها قال: ما اسم هذه الأرض؟ فقيل: كربلاء، فقال: اللهم اني أعوذبك من الكرب والبلاء. ثم قال: هذا موضع كرب وبلاء انزلوا،ها هنا محط رحالنا ومسفك دمائنا وهنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله. فنزلوا جميعاً ونزل الحر وأصحابه ناحية»(54).
قال المجلسي: «ثم سار حتى نزل بكربلاء فقال: أيُ موضع هذا؟ فقيل: هذه كربلاء يا ابن رسول الله، فقال عليه السّلام: هذا والله يوم كرب وبلاء وهذا الموضع الذي يهراق فيه دماؤنا ويباح فيه حريمنا»(55).
قال أبو مخنف: «وساروا جميعاً الى أن أتوا أرض كربلاء وذلك يوم الأربعاء، فوقفت فرس الحسين عليه السّلام من تحته فنزل عنها فركب أخرى فلم تنبعث من تحته خطوة واحدة، ولم يزل يركب فرساً بعد فرس حتى ركب سبعة افراس، وهن على هذا الحال، فلما رأى الإمام عليه السّلام ذلك الأمر الغريب قال: يا قوم ما يقال لهذه الأرض؟ قالوا: أرض الغاضرية، قال: فهل لها اسم غير هذا؟ قالوا: تسمى نينوى، قال: هل لها اسم غير هذا؟ قال: تسمى بشاطىء الفرات، قال: هل اسم لها غير هذا؟ قالوا: تسمى بكربلاء، قال: فعند ذلك تنفس الصعداء، وقال: أرض كرب وبلاء، ثم قال: قفوا ولا ترحلوا»(56).
قال الدميري: «ان الحسين رضي الله تعالى عنه لما وصل الى كربلاء سأل عن اسم المكان فقيل له كربلاء، فقال: ذات كرب وبلاء، لقد مر أبي بهذا المكان عند مسيره إلى صفين وأنا معه فوقف وسأل عنه فأخبروه باسمه فقال:ها هنا محط رحالهم، هنا مهراق دمائهم، فسئل عن ذلك فقال: نفر من آل محمّد ينزلون ها هنا، ثم أمر عليه السّلام بأثقاله فحطت في ذلك المكان»(57).
قال المجلسي: «جمع الحسين عليه السّلام ولده واخوته وأهل بيته، ثم نظر اليهم فبكى ساعة، ثم قال: اللهم انا عترة نبيك محمّد وقد أخرجنا وطردنا وأزعجنا عن حرم جدنا، وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذلنا بحقنا، وانصرنا على القوم الظالمين.
قال: فرحل من موضعه حتى نزل في يوم الأربعاء أو يوم الخميس بكربلا وذلك في الثاني من المحرم سنة إحدى وستين.
ثم أقبل على أصحابه، فقال: الناس عبيد الدنيا والدين لعقٌ على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الديانون.
ثم قال أهذه كربلاء؟ فقالوا: نعم يا ابن رسول الله. فقال: هذا موضع كرب وبلاءها هنا مناخ ركابنا ومحط رحالنا ومقتل رجالنا ومسفك دمائنا، قال: فنزل القوم. وأقبل الحر حتى نزل حذاء الحسين عليه السّلام في ألف فارس، ثم كتب الى ابن زياد يخبره بنزول الحسين بكربلاء»(58).
21 ـ حائر الحسين عليه السّلام(59): قد نعتت البقعة التي دفن فيها الحسين عليه السّلام في كربلاء بأسماء مختلفة، منها (الحائر).
وقد ورد التعبير في الروايات تارةً بلفظ الحائر وأخرى بلفظ حرم الحسين. أما الحائر، فالحرم شامل له ولا وجه لتقييد الحرم الوارد في الروايات المستفيضة بالحائر، ان ثبتت سعة الحرم، والا فلا بد من التوقف والاقتصار على الحائر.
حد حائر الحسين عليه السّلام:
وقد اختلف كلام الأصحاب في حد الحائر:
فقال العلامة المجلسي: «اعلم أنه اختلف كلام الأصحاب في حد الحائر، فقيل: انه ما أحاطت به جدران الصحن، فيدخل فيه الصحن من جميع الجوانب والعمارات المتصلة بالقبة المنورة، والمسجد الذي خلفها وقيل: انه القبة الشريفة حسب وقيل: هي مع ما اتصل بها من العمارات كالمسجد، والمقتل، والخزانة، وغيرها.
والأول أظهر لاشتهاره بهذا الوصف بين أهل المشهد، آخذين عن أسلافهم ولظاهر كلمات أكثر الأصحاب»(60).
وقال محمّد بن ادريس الحلي: «المراد بالحائر ما دار سور المشهد والمسجد عليه، دون ما دار سور البلد عليه لأن ذلك هو الحائر حقيقةً، لأن الحائر في لسان العرب: الموضع المطمئن الذي يحار الماء فيه، قد ذكر ذلك شيخنا المفيد في الارشاد في مقتل الحسين، لما ذكر من قتل معه من أهله، فقال: والحائر محيط بهم الاّ العباس فانه قتل على المسناة»(61).
وقال الشهيد الأول: «وفيه حار الماء يعني به لما أمر المتوكل بإطلاق الماء على قبر الحسين(62)
ليعفيه فكان لا يبلغه»(63).
روى ابن قولويه باسناده عن اسحاق بن عمّار قال: «سمعت أبا عبد الله عليه السّلام يقول: ان لموضع قبر الحسين بن علي عليهما السّلام حرمة معلومة من عرفها واستجاربها أجير، قلت: فصف لي موضعها جعلت فداك، قال: امسح من موضع قبره اليوم فامسح خمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رجليه وخمسة وعشرين ذراعاً مما يلي وجهه، وخمسة وعشرين ذراعاً من خلفه، وخمسة وعشرين ذراعاً من ناحية رأسه. وموضع قبره منذ يوم دفن روضة من رياض الجنة، ومنه معراج يعرج فيه بأعمال زواره الى السماء، فليس ملك ولا نبي في السماوات الاّ وهم يسألون الله أن يأذن لهم في زيارة قبر الحسين عليه السّلام، ففوج ينزل وفوج يعرج»(64).
وروى الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي باسناده عن الصادق عليه السّلام أنه قال: «حرم الحسين الذي اشتراه أربعة أميال في أربعة أميال فهو حلال لولده ومواليه حرام على غيرهم ممن خالفهم وفيه البركة»(65).
وروى أن الحسين عليه السّلام اشترى النواحي التي فيها قبره من أهل نينوى والغاضرية بستين ألف درهم وتصدق بها عليهم، وشرط أن يرشدوا الى قبره ويضيفوا من زاره ثلاثة أيام.
قال: وذكر السيد رضي الدين بن طاووس أنها انما صارت حلالا بعد الصدقة لأنهم لم يفوا بالشرط، قال: وقد روى محمّد بن داود عدم وفائهم بالشرط في باب نوادر الزيارات»(66).

(1) التنعيم: بالفتح ثم السكون وكسر العين المهملة وياء ساكنة وميم: موضع بمكة في الحل وهو بين مكة وسرف، على فرسخين من مكة. (معجم البلدان ج2 ص49).
(2) نظم درر السمطين ص214.
(3) تاريخ الطبري ج5 ص386، ورواه ابن الأثير في الكامل في التاريخ، ج7 ص40 والخوارزمي ج1 ص. 222
(4) ذات قرق: مخهل أهل العراق، وهو الحد بين نجد وتهامة، وقيل: عرق جبل بطريق مكة ومنه ذات عرق. (معجم البلدان ج4 ص107).
(5) أورده ابن كثير في البداية والنهاية ج8 ص167.
(6) تاريخ الطبري ج5 ص387.
(7) سورة الاسراء: 71.
(8) مقتل الحسين ج1 ص220 ورواه السيد ابن طاووس في اللهوف ص6 مختصراً.
(9) الحاجر من بطن الرمة، قال الزبيدي: منزل للحاج بالبادية… الذي في طريق مكة. (تاج العروس ج3 ص126).
(10) الارشاد ص202.
(11) اللهوف ص65.
(12) تاريخ الطبري ج5 ص395، ورواه المفيد في الإرشاد ص203.
(13) الخزيمية بضم الأول وفتح الثاني تصغير خزيمة. وهو منزل من منازل الحاج بعد الثعلبية من الكوفة (معجم البلدان ج2 ص370) ومر الحسين في طريقة إلى الخزيمية بتوز، وفيد، والأجفر.
(14) مقتل الحسين ج1 ص225.
(15) زرود بين ثعلبية والخزيمية بطريق الحاج من الكوفة. (معجم البلدان ج3 ص139).
(16) تاريخ الطبري ج5 ص396.
(17) اللهوف ص63.
(18) مقتل الحسين ج1 ص228، وروى المفيد في الإرشاد ص204 مع فرق.
(19) الثعلبية: من منازل طريق مكة من الكوفة بعد الشقوق، وقبل الخزيميّة وهي ثلثا الطريق. (معجم البلدان ج3 ص78) و ( مراصد الاطلاع ج1 ص296).
(20) الارشاد ص204.
(21) اللهوف في قتلى الطفوف ص61.
(22) الشقوق جمع شق وهو الناحية: منزل بطريق مكة بعد واقصة من الكوفة (معجم البلدان ج3 ص356) و( مراصد الاطلاع ج2 ص806).
(23) مناقب آل أبي طالب ج4 ص95.
(24) بضم أوّله: منزل معروف بطريق مكة من الكوفة… بين واقصة والثعلبيّة (معجم البلدان ج3 ص129).
(25) تاريخ الطبري ج5 ص398.
(26) الارشاد ص205.
(27) كامل الزيارات ص75.
(28) البداية والنهاية ج8 ص169.
(29) شراف بفتح أوله، وآخره فاء وثانيه مخفف، من شراف الى واقصة ميلان معجم البلدان ج3 ص331 ومراصد الاطلاع ج2 ص788 وقد مرّ سلام الله عليه في طريقه إلى شراف بالواقصة والقرعاء والمغيثة.
(30) تاريخ الطبري ج5 ص400.
(31) الأتوار: جمع تور، وهو إناء من صفر او حجارة.
(32) تاريخ الطبري ج5 ص400.
(33) الارشاد ص208.
(34) تاريخ الطبري ج5 ص403.
(35) اللهوف ص70. وضبطه السيد المقرّم في مقتله: نافع بن هلال الجملي.
(36) البيضة بالكسر: ما بين واقصة إلى العذيب. (مراصد الاطلاع ج1 ص244).
(37) تاريخ الطبري ج5 ص403.
(38) عذيب الهجانات: تصغير العذب وهو الماء الطيب… بينه وبين القادسية أربعة اميال، من منازل حاج الكوفة. (معجم البلدان ج4 ص92).
(39) تاريخ الطبري ج5 ص404ـ407.
(40) أمالي الصدوق المجلس الثلاثون ص153.
(41) الرهيمة: بلفظ التصغير لرهمة: ضيعة قرب الكوفة (مراصد الاطلاع ج2 ص645).
(42) امالي الصدوق المجلس الثلاثون ص153.
(43) قصر بني مقاتل: كان بين عين التمر والشام، قرب القطقطانة. (مراصد الاطلاع ج3 ص1100).
(44) سورة القصص: 41.
(45) تاريخ الطبري ج5 ص407.
(46) القطقطانة: بالضم، ثم السكون، ثم قاف اخرى مضمومة وطاء اخرى وبعد الالف نون وهاء: موضع قرب الكوفة من جهة البرية بالطف (مراصد الاطلاع ج3 ص1107).
(47) دلائل الامامة ص74.
(48) سورة الكهف: 51.
(49) أمالي الصدوق المجلس الثلاثون ص154.
(50) نينوى: بكسر أوله وسكون ثانيه، وفتح النون والواو وبوزن طيطوى… بسواد الكوفة ناحية يقال لها نينوى، منها كربلاء (معجم البلدان ج5 ص339). الغاضرية: بعد الألف ضاد معجمة، منسوبة إلى غاضرة من بني أسد وهي قرية من نواحي الكوفة قريبة من كربلاء (معجم البلدان ج4 ص183).
(51) تاريخ الطبري ج5 ص408.
(52) مقتل الحسين ج1 ص236.
(53) اسامي كربلا: الغاضرية، نينوى، مارية، عموراء، نواويس، شاطىء الفرات، الطف، الحائر، مشهد الحسين، واسم كربلاء أصبحت للبقعة المباركة لا تعرف الاّ به. قال ياقوت: كربلاء بالمدّ، وهو الموضع الذي قتل فيه الحسين بن علي رضي الله عنه في طرف البرية عند الكوفة… وقد روى أن الحسين رضي الله عنه، لما انتهى الى هذه الأرض قال لبعض اصحابه: ما تسمى هذه القرية وأشار الى العقر، فقيل له: اسمها العقر، فقال الحسين: نعوذ بالله من العقر، ثم قال: فما اسم هذه الأرض التي نحن فيها قالوا: كربلاء، فقال: ارض كرب وبلاء، وأراد الخروج منها فمنع كما هو مذكور في مقتله حتى كان منه ما كان، ورثته زوجته عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل فقالت:
واحسينا فلا نسيت حسيناً *** اقصدته أسنّة الأعداء
غادروه بكربلاء صريعاً *** لا سقى الغيث بعده كربلاء
(معجم البلدان ج4 ص445).
(54) اللهوف ص70.
(55) بحار الأنوار ج44 ص315 الطبعة الحديثة.
(56) مقتل أبي مخنف ص137.
(57) حياة الحيوان ج1 ص60.
(58) بحار الأنوار ج44 ص383 الطبعة الحديثة.
(59) قال الدكتور عبد الجواد الكليدار: «الحائر لغة اسم فاعل من حار يحير حيراً، من تحير الماء إذا اجتمع ودار. ومن تحيرت الأرض بالماء إذا امتلأت، جمعه حوران وحيران على الأشهر، وهو الموضع المطمئن الوسط المرتفع الحروف كما وصفه اللغويون، وبعبارة أخرى هو محل منخفض مستو تعلو جوانبه وأطرافه على شكل حوض ذي حور يجتمع اليه المياه كلما نزلت الأمطار من السماء أو فاضت عن الزروع، وسمي الموضع حائراً لأنه كلما هب النسيم على سطحه تموجت المياه المحصورة فيه على شكل حلقات تتوسع الواحدة تلو الأخرى حتى تنتهي إلى أطراف الغدير فيتردد الماء ويتحير كأنه لا يدري كيف يجري أو أين يسير، وحيرة الماء بين الجوانب والأطراف ورجوعه بهذا النحو من أقصاه إلى أدناه في مجتمعه هي التي منحته اسم الحائر، ولعل كربلاء أو بعض أجزائها سميت بهذا الاسم منذ القديم، لما كان في أرضها من المنخفضات التي يسيب اليها مسيل ماء الأمطار». (تاريخ كربلا وحائر الحسين ص26 الطبعة الثانية).
وقال ياقوت الحموي: «والحائر: قبر الحسين بن علي رضي الله عنه». (معجم البلدان ج2 ص208). وقال ابن منظور: «والحائر: كربلاء». (لسان العرب ج4 ص223).
وقال الفيومي: «والحائر معروف، قيل سمّي بذلك لأن الماء يحار فيه، أي يتردد». (المصباح المنير، كلمة حار ص74).
وقال صفي الدين البغدادي: «الحائر موضع قبر الحسين رضي الله عنه لأنه موضع مطمئن الوسط مرتفع الحروف». (مراصد الاطلاع ج1 ص373).
وقال الطريحي: «والحائر: وهو في الأصل مجمع الماء ويراد به حائر الحسين عليه السّلام وهو ما حواه سور المشهد على مشرفها السلام». (مجمع البحرين «كلمة حير»).
(60) بحار الأنوار ج22 ص142 الطبعة القديمة.
(61) السرائر ص76.
(62) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي وهدم ما حوله من المازل والدور، وأن يحرث ويُبذر ويسقى موضع قبره وأن يمنع الناس من اتيانه، فذكر أن عامل صاحب الشرطة نادى في الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة بعثنا به الى المطبق، فهرب الناس، وامتنعوا من المصير اليه، وحرث ذلك الموضع وزرع ما حواليه. (تاريخ الطبري ج9 ص185).
وروى الشيخ الطوسي باسناده عن عبد الله الطوري، قال: «حججت سنة سبع وأربعين ومائتين فلما صدرت من الحج صرت الى العراق فزرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام على حال خيفة من السلطان وزرته، ثم توجهت الى زيارة الحسين عليه السّلام فإذا هو قد حرث أرضه ومجرى فيها الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت مكان القبر حادت عنه يميناً وشمالا، فتضرب بالعصى الضرب الشديد فلا ينفع ذلك فيها ولا تطأ القبر بوجه ولا سبب، فما أمكنني الزيارة فتوجهت الى بغداد وأنا أقول في ذلك:
تالله ان كانت أمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوماً
فلقد أتاك بنو أبيه بمثلها *** هذا فعمرك قبره مهدوماً
أسفوا على أن لا يكونوا شايعوا *** في قتله فتتبعوه رميماً
فلما قدمت بغداد سمعت الهاتفة فقلت: ما الخبر؟ قالوا: سقط الطائر بقتل جعفر المتوكل فعجبت لذلك، وقلت: الهي ليلة بليلة». (أمالي الشيخ الطوسي ص209).
وقال أبو الفداء: «أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهدم ما حوله من المنازل ومنع الناس من اتيانه وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ويكشف رأسه وهو أصلع ويرقص ويقول قد أقبل الأصلع البطين خليفة المسلمين يعني علياً والمتوكل يشرب ويضحك، وفعل كذلك يوماً بحضرة المنتصر، فقال: يا أمير المؤمنين ان علياً ابن عمك، فكل أنت لحمه إذا شت ولا تخلي مثل هذا الكلب وأمثاله يطمع فيه، فقال المتوكل للمغنين غنوا:
غار الفتى لابن عمه *** رأس الفتى في حر أمه
وكان يجالس من اشتهر ببغض علي مثل ابن الجهم الشاعر وأبي السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني امية وغيرهما».
(تاريخ أبي الفداء ج2 ص38).
هذا، ولا يخفى أنّ أول من هدم قبر الحسين عليه السلام هو هارون.
(63) ذكرى الشيعة ص255.
(64) كامل الزيارات ص272 الباب التاسع والثمانون فضل الحائر وحرمته.
(65) جامع أحاديث الشيعة ج12 ص545 و546.
(66) جامع أحاديث الشيعة ج12 ص545 و546.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *