قول النبي: ههنا الفتنة

قول النبي: ههنا الفتنة
أقول:
وهذا أيضاً تطويل بلا طائل….
فإن الحديث الذي أورده أوّلاً عن البخاري في كتاب فرض الخمس عن نافع عن عبداللّه بن عمر، يفسّره ما أخرجه أحمد في مسنده عن نافع عن عبداللّه بن عمر قال: «خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(1) وفي لفظ آخر: «إن الكفر من ههنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(2).
وإذا كان مراد النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم هو «المشرق» فما معنى قول الراوي «فأشار نحو مسكن عائشة»؟ ألم يكن في الشرق موضع آخر يشير إليه النبي؟ ألم يكن بيوت سائر الأزواج هناك أيضاً؟
أليس في ذكر البخاري هذا الحديث في باب ما جاء في بيوت أزواج النبي(3)صلّى اللّه عليه وآله وسلّم دلالة على فهم البخاري هذا المعنى من هذا الحديث؟
ولو أراد النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم «المشرق» لما قال «ههنا» ثلاث مرات، بل قال «هناك» كما في حديث البخاري الآخر: «فهناك الزلازل والفتن وبها يطلع قرن الشيطان».
والحاصل: إنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم قال هذا الكلام لمّا خرج من بيت عائشة، ولمّا صعد المنبر فقاله أشار إلى مسكنها… ولم يرد في أحاديث القوم شيء من هذا القبيل عن أُم سلمة أُم المؤمنين.

وقيل:
4 ـ أما قول الموسوي في عائشة: «ولا بلغت في آدابها أن تمدّ رجلها قبلة النبي وهو يصلي احتراماً له ولصلاته…» فهو اتهام لها بسوء الأدب مع النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم وعدم تقديرها للصلاة حق قدرها، فجوابه:
أولاً: إن هذا الفهم وهذا التأويل هو فهم وتأويل خاص بالرافضة، لم يشاركهم فيه أحد من أهل العلم، ولم يأت في كتاب من الكتب المعتبرة. ونتحدى الموسوي أن يكون هذا الفهم في غير كتبهم المليئة بالكذب والبهتان.
ثانياً: لست ـ يا موسوي ـ أكثر غيرة على النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم منه على نفسه، ولست أكثر غيرة على الصلاة وحرمتها من النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، بل لست أكثر تعظيماً ومحبة للنبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم من زوجته التي كانت تحبّه ويحبّها، ولست أكثر تعظيماً لحرمة الصلاة من عائشة رضي اللّه عنها. حتى تشنع عليها فعلتها هذه.
ثالثاً: إن سكوت النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم على فعل عائشة وعدم إنكاره عليها بعد أن فرغ من صلاته، دلالة أكيدة على براءة عائشة ممّا اتهمها به الموسوي، ودلالة قاطعة على أن فهم الموسوي لهذه القضية كان فهماً منحرفاً عن الحق انحراف عقيدته عن الإسلام، وإلاّ، كيف ينكر على عائشة أمراً لم ينكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم عليها، ولا يخفى ما في الأمر من معارضة للنبي، وطعن بعصمته، واتهامه بمجاملة عائشة على حساب دينه.

أقول:
وعلى أي حال، فإنّ المفروض صحّة هذه الأحاديث لكونها في كتبهم المسمّاة بالصحّاح… وحينئذ نسائلهم: هل كان هذا الفعل منها حسناً أو قبيحاً؟ وهل كان النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم يرضى به أو أنها كانت تغضبه بذلك ويسكت كسائر الموارد التي مرّ بعضها؟ وهل صدر مثل هذا من أُمّ سلمة رضي اللّه عنها؟

وقيل:
5 ـ أم قول الموسوي: ولا أرجفت بعثمان، ولا ألبت عليه، ولا نبزته نعثلاً… الخ. فجوابه ما ذكر ابن تيمية رحمه اللّه في منهاج السنة 2 : 188 ننقله بشيء من الاختصار والتصرف.
قال ابن تيمية رحمه اللّه رداً على هذه القضية:
أولاً: أين النقل الثابت عن عائشة بذلك.
ثانياً: إن المنقول عن عائشة يكذّب ذلك، ويبيّن أنها أنكرت قتله، وذمّت من قتله، ودعت على أخيها محمّد وغيره لمشاركتهم في ذلك.
ثالثاً: هب أن واحداً من الصحابة ـ عائشة أو غيرها ـ قال في ذلك كلمة على وجه الغضب لإنكاره بعض ما ينكر، فليس قوله حجة، ولا يقدح في إيمان القائل ولا المقول له، بل قد يكون كلاهما وليّاً للّه تعالى من أهل الجنّة، ويظنّ أحدهما جواز قتل الآخر لِظن كفره وهو مخطئ في هذا الظن، كما ثبت في الصحيحين عن علي وغيره في قصة حاطب بن بلتعة عندما أرسل بكتاب مع امرأة إلى قريش يخبرهم بغزو النبيّ صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم لمكة. والقضية مشهورة عن علماء التفسير، والمغازي، والسير والتواريخ، وأنزل اللّه فيها أوّل سورة الممتحنة… الخ.
رابعاً: إن هذا القول المنقول عن عائشة من القدح في عثمان إما أن يكون صحيحاً، وإما أن يكون خطأ. فإن كان صواباً فلم تلام عليه، وإن كان غير صواب فلم يلام عثمان إذن. وعند ذلك يكون الجمع بين بغض عائشة وعثمان باطلاً، وأيضاً، فعائشة ظهر منها من التألم لقتل عثمان، والذم لقتله، وطلب الانتقام منهم، ما يقتضي الندم على ما ينافي ذلك.

أقول:
نقل كلام ابن تيميّة والاقتصار به هو ـ في الحقيقة ـ إقرارٌ بالمطلب، لأنّ ابن تيميّة من عادته إنكار القضايا الثابتة، والمغالطة أمام الحقائق الرّاهنة.
ويكفي أن يعلم القارئ الكريم: إن هذا الأمر من ضروريات التاريخ، وخصوص قولها: «اقتلوا نعثلاً فقد كفر» أو «فجر» موجود في التواريخ والسير المعتمدة، فراجع تاريخ الطبري، والإمامة والسياسة، والكامل لابن الأثير، والسيرة الحلبيّة وغيرها من الكتب(4)… وقد اشتهرت هذه الكلمة ونحوها من عائشة في عثمان، حتى أدخلها اللغويون في كتبهم في اللغة في لفظة «نعثل» كما تقدم.
ومن مغالطات ابن تيمية قوله:
«إن هذا القول المنقول عن عائشة من القدح في عثمان إمّا أن يكون…».
لأنّ هذا الكلام إن كان حقّاً فإنّ عثمان يجب قتله، لكن أهل السنّة لا يرون ذلك، وإن كان باطلاً، فإنّ عائشة قد أمرت بقتل من لا يجوز قتله، فهي ـ إذن ـ فاسقة فاجرة، لكنّ أهل السنّة لا يرون ذلك.

قيل:
6 ـ أما قول الموسوي: ولا ركبت العسكر قعوداً من الإبل تهبط وادياً وتعلو جبلاً حتى نبحتها كلاب الحوأب، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم أنذرها بذلك، فلم ترعو، ولم تلتو عن قيادة جيشها الهمام الذي حشدته على الإمام. فجوابه من وجوه.
أوّلاً: أن عائشة رضي اللّه عنها ما خرجت مع من خرجت من الصحابة، إلاّ لتطالب علياً رضي اللّه عنه بوصفه خليفة المسلمين بإقامة الحدّ على قتلة عثمان رضي اللّه عنه، الذين كانوا قد لجأوا إلى جيش علي آنذاك. فلما خشي القتلة على أنفسهم من القصاص الذي لن يتأخر عنه علي رضي اللّه عنه إذا ثبت على واحد منهم، فسارعوا إلى إثارة الحرب ين الفريقين.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري 13 : 41 ـ 144: إن أحداً لم ينقل عن عائشة ومن معها نازعوا علياً الخلافة ولا دعوا إلى واحد منهم ليوّلوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على عليّ منعه مِنْ قَتْل قَتَلةِ عثمان، وتَرك الاقتصاص منهم، وكان عليٌّ ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتصَّ منه، فاختلفوا بحسب ذلك، وخشي من نسب إليهم القتل أن يصطلحوا على قتلهم، فأنشبوا الحرب بينهم ـ أي بين فريقي عائشة وعليّ ـ إلى أن كان ما كان. انتهى. وبذلك نجح قتلة عثمان في إثارة الفتنة بوقعة الجمل فترتب عليها نجاتهم، وسفك دماء المسلمين من الفريقين.
ثانياً: إن خبر الحوأب لم يذكر في كتاب من كتب السنّة المعتبرة، بل يرويه الطبري عن إسماعيل بن موسى الفزاري (قال ابن عدي: أنكروا منه الغلو في التشيع) ويرويه هذا الشيعي عن علي بن عابس الأزرق (قال عنه النسائي: ضعيف) وهو يرويه عن أبي الخطاب الهجري (قال الحافظ في تقريب التهذيب: مجهول) وهذا الهجري المجهول يرويه عن صفوان بن قبيصة الأحمسي. (قال الذهبي في ميزان الاعتدال: مجهول). انظر مختصر التحفة الاثني عشرية ص 270.
أما حديث الحوأب كما في مسند الإمام أحمد 6 : 52، 97 ومستدرك الحاكم 3 : 120 فهو حديث منكر، لأن في سنده قيس بن أبي حازم (قال عنه يحيى بن سعيد: منكر الحديث، ثم سَمَّى له أحاديث استنكرها فلم يصنع شيئاً، بل هي ثابتة، لا ينكر له التفرد في سعة ما روى، من ذلك حديث كلاب الحوأب. انظر ميزان الاعتدال 3 : 392.

أقول:
قد تقدّم الكلام بشيء من التفصيل على هذا الموضوع.
ويكفي أن نقول هنا: بأنّ المناقشة في حديث المسند والمستدرك من جهة «قيس بن أبي حازم» والإحالة إلى ميزان الاعتدال… تكشف عن جهل هذا المفتري ودَجَله، فإنّ هذا نصّ كلام الحافظ الذهبي في الكتاب المذكور بتمامه:
«صح، قيس بن أبي حازم، ع(5). عن أبي بكر وعمر. ثقة حجة كاد أن يكون صحابيّاً.
وثّقة ابن معين والناس.
وقال علي بن عبداللّه عن يحيى بن سعيد: منكر الحديث.
ثم سمّى له أحاديث استنكرها، فلم يصنع شيئاً، بل هي ثابتة. لا ينكر له التفرّد في سعة ما روى، من ذلك حديث كلاب الحوأب.
وقال يعقوب السدوسي: تكلّم فيه أصحابنا، فمنهم من حمل عليه وقال: له مناكير، فالذين أطروه عدّوها غرائب. وقيل: كان يحمل على علي رضي اللّه عنه، إلى أن قال يعقوب: والمشهور أنه كان يقدّم عثمان، ومنهم من جعل الحديث عنه من أصح الأسانيد.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: كان ثبتاً، قال: وقد كبر حتى جاوز المائة وخرف.
قلت: أجمعوا على الإحتجاج به، ومن تكلّم فيه فقد آذى نفسه، نسأل اللّه العافية وترك الهوى، فقد قال معاوية بن صالح عن ابن معين: كان قيس أوثق من الزهري.
وقال خليفة وأبو عبيد: مات سنة 98»(6).
وقال ابن حجر: «قيس بن أبي حازم البجلي، أبو عبداللّه الكوفي، ثقة، من الثانية، مخضرم ويقال له رؤية(7)، وهو الذي يقال إنه اجتمع له أن يروي عن العشرة(8). مات بعد التسعين أو قبلها وقد جاوز المائة وتغيّر ـ ع»(9).
أهكذا يراد إبطال الحجج وإنكار الحقائق؟!

قيل:
7 ـ أما ما أورده الموسوي من قصة لعب السودان في المسجد بدرقهم وحرابهم وشهود عائشة لهذا اللعب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم. وكذا ما أورده من قصّة الجاريتين اللّتين كانتا تغنّيان بغناء بعاث عند عائشة. وكذا قصة السباق بينها وبين النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم، واللّعب بالبنات. فالجواب على ذلك.
أوّلاً: إنه لا علاقة بين هذه الأحاديث وحديث عائشة «مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم بين سحري ونحري»، من حيث الموضوع حتى يقاسا عليه، ولا علاقة لهما من حيث السند، فسند كلّ حديث من هذه الأحاديث مستقل، وكلّها مروية بأسانيد صحيحة.
إلاّ أن الموسوي وقومه لا يقبلون حديثاً لعائشة على الاطلاق، وهذا متفرع من عقيدتهم فيها والتي بيناها في بداية الرد على هذه المراجعة، فلهذا عطف هذه الأحاديث بعضها على بعض وجعلها سواء من حيث البطلان.
ثانياً: نقول للموسوي: إن رفض الرواية أو قبولها أياً كانت، يخضع إلى طريقة علمية ثابتة قررها أهل العلم بالحديث، وأهل الدراية بالجرح والتعديل، فأين أنت من هذه الطريقة؟!
إنك من قوم لا يفهمون هذا العلم ولا يعرفونه، إنك من أهل الأهواء الذين يرفضون كلّ رواية تخالف مذهبهم وعقيدتهم.
ثالثاً: إن هذه الروايات التي رفضت قبولها، سواء لعب السودان بالحراب، أو غناء الجاريتين، هي أحاديث ثابتة بأسانيد صحيحة، فإن كنت ترى في ذلك أمراً معيباً مخلاً بالخلق والشرف، فأنت محجوج بحضور النبي لهذين الأمرين ومشاهدته وسماعه. فأنت بذلك تنكر أمراً أقرّه رسول اللّه، وتحرّم أمراً أباحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم.
ثم إن قصة إراءة النبي لعب السودان بالحراب في المسجد وقعت قبل نزول الحجاب، وكان النساء من أمهات المؤمنين وغيرهن يخرجن بلا حجاب، حتى أن فاطمة رضي اللّه عنها كانت تغسل جراح النبي التي أصابته في أحد بحضور سهل بن سعد وجماعة من الصحابة، كما أن عائشة رضي اللّه عنها كانت إذ ذاك صغيرة لم تبلغ الحلم، ولم تكن مكلّفة، فلو نظر مثلها إلى لهو فأيّ محذور؟ لا سيما أنها كانت متستّرة، وتنظر من وراء ظهره عليه الصّلاة والسلام. ثم إن لعب السّودان هذا كان لتعلّم الحرب والقتال فالنظر إليه ليس بحرام، ولو كان غير هذا لمنعهم عليه الصّلاة والسلام.

أقول:
أوّلاً: لم يكن المقصود الربط بين هذه القضيّة وقضيّة وفاة النبي صلّى اللّه عليه وآله، بل المقصود أنّه لم يرد عن أُمّ سلمة مثل هذه الأخبار ـ التافهة السخيفة المخالفة لشأن النبوّة ـ الواردة عن عائشة.
وثانياً: إنّكم ـ قبل قليل ـ قصدتم رفض حديث صحيح عن رجل يحتجُّ به أصحاب الكتب الصحاح عندكم، لأن مضمونه لا يناسب مذاقكم، فقلتم عنه: منكر….
ونحن لا نقول إلاّ أنّ مثل هذه الأشياء إن كانت صادرةً عن عائشة حقّاً، فقد كذبت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله، وإن لم تكن صادرةً عنها، فقد كذبتم عليها في أصحّ كتبكم.

* * *

(1) مسند أحمد 2 : 98 / 4737.
(2) مسند أحمد 2 : 105 / 4787.
(3) صحيح البخاري الباب 4 من أبواب كتاب الخمس.
(4) الطبري 4 : 459، الكامل 3 : 206، الامامة والسياسة 1 : 72، السيرة الحلبيّة 3 : 286.
(5) هذا رمز الكتب الستة المشهورة بالصحاح عندهم، فهو من رجال الصحاح كلّها.
(6) ميزان الاعتدال 3 : 392 ـ 393.
(7) أي للنبي صلّى اللّه عليه وآله فيكون في عداد الصحابة.
(8) يعنى: العشرة المبشرة بالجنة كما يقولون.
(9) تقريب التهذيب 2 : 127، «ع» رمز الكتب الستّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *