إثبات أُم سلمة الوصيّة وتقديم حديثها على حديث عائشة

إثبات أُم سلمة الوصيّة وتقديم حديثها على حديث عائشة
ولو لم يعارض حديث عائشة إلاّ حديث أُمّ سلمة وحده، لكان حديث أُمّ سلمة هو المقدّم؛ لوجوه كثيرة غير التي ذكرناها(1)..

الأسباب المرجّحة لحديث أُمّ سلمة:
إنّ السيّدة أُمّ سلمة لم يصغ قلبها بنصّ الفرقان العظيم، ولم تؤمر بالتوبة في محكم الذكر الحكيم(2).
ولا نزل القرآن بتظاهرها على النبيّ، ولا تظاهرت من بعده على الوصيّ(3)، ولا تأهّب اللّه لنصرة نبيّه عليها وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
ولا توعّدها اللّه بالطلاق، ولا هدّدها بأن يبدله خيراً منها(4).
ولا ضرب امرأة نوح وامرأة لوط لها مثلاً(5).
ولا حاولت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن يحرّم على نفسه ما أحلّ اللّه له(6).
ولا قام النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم خطيباً على منبره فأشار نحو مسكنها قائلاً: ها هنا الفتنة، ها هنا الفتنة، ها هنا الفتنة، حيث يطلع قرن الشيطان(7).
ولا بلغت في آدابها أن تمدّ رجلها في قبلة النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وهو يصلّي ـ احتراماً له ولصلاته ـ ثمّ لا ترفعها عن محلّ سجوده حتّى يغمزها فإذا غمزها رفعتها حتّى يقوم فتمدّها ثانية(8)، وهكذا كانت.
ولا أرجفت بعثمان، ولا ألّبت عليه، ولا نبزته: (نعثلاً)، ولا قالت: اقتلوا نعثلاً فقد كفر(9).
ولا خرجت من بيتها الذي أمرها اللّه عزّ وجلّ أن تقرّ فيه(10).
ولا ركبت العسكر(11) قعوداً من الإبل تهبط وادياً وتعلو جبلاً حتّى نبحتها كلاب الحوأب، وكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنذرها(12) بذلك، فلم ترعوِ ولم تلتوِ عن قيادة جيشها اللهام، الذي حشّدته على الإمام.
فقولها: مات رسول اللّه بين سحري ونحري، معطوف على قولها: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم رأى السودان يلعبون في مسجده بدرقهم وحرابهم، فقال لها: أتشتهين تنظرين إليهم؟ قالت: نعم.
قالت: فأقامني وراءه وخدّي على خدّه وهو يقول: دونكم يا بني أرفدة ـ إغراء لهم باللعب لتأنس السيّدة ـ..
قالت: حتّى إذا مللت قال: حسبك؟ قلت: نعم. قال: فاذهبي(13).
وإن شئت فاعطفه على قولها: دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وعندي جاريتان تغنيّان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش، ودخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول اللّه؟!
قالت: فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: دعهما.. الحديث(14).
واعطفه إن شئت على قولها(15): سابقني النبيّ فسبقته، فلبسنا حتّى رهقني اللحم، سابقني فسبقني، فقال: هذه بتيك.
أو على قولها(16): كنت ألعب بالبنات ويجيء صواحبي فيلعبن معي، وكان رسول اللّه يدخلهنّ عليّ فيلعبن معي.. الحديث.
أو على قولها(17): خِلال فيّ سبع لم تكن في أحد من الناس إلاّ ما أتى اللّه مريم بنت عمران: نزل الملك بصورتي، وتزوّجني رسول اللّه بكراً لم يشركه فيّ أحد من الناس، وأتاه الوحي وأنا وإيّاه في لحاف واحد، وكنت من أحبّ النساء إليه، ونزل فيّ آيات من القرآن كادت الأُمّة تهلك فيهنّ، ورأيت جبرائيل ولم يره من نسائه أحد غيري، وقُبض في بيتي لم يله أحد غيري(18) أنا والملك. انتهى.
إلى آخر ما كانت تسترسل فيه من خصائصها، وكلّه من هذا القبيل.
أمّا أُمّ سلمة، فحسبها الموالاة لوليّها ووصىّ نبيّها، وكانت موصوفة بالرأي الصائب والعقل البالغ والدين المتين، وإشارتها على النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يوم الحديبيّة، تدلّ على وفور عقلها وصواب رأيها وسمو مقامها، رحمة اللّه وبركاته عليها»(19).

فقيل:
في المراجعة (75) نفى البشري أن تكون السيدة عائشة رضي اللّه عنها قد نفت الوصية إلى علي انسياقاً وراء عواطفها كما اتهمها الموسوي، ولكنه لم يرد على هذا الاتهام بما يجب، ولسنا ندري أتَرَكَ ذلك جهلاً منه وعدم معرفة بالردود اللازمة على مثل هذا الاتهام؟! أم تركه خجلاً واستحياء من الموسوي وعلمه الذي قام على أُصول باطلة وعقيدة فاسدة أم تركه إقراراً، وتأييداً؟! وعند ذلك يكون النفي من الموسوي جاء على سبيل طلب المعرفة والاستيضاح. وهكذا أظهره الموسوي في كل ما حكاه عنه من مراجعات، تأمل هذا أخي المسلم تجده واضحاً.
ولهذا نجدالموسوي يسرع ـ في المراجعة 76 ـ إلى تأييد اتهامه للسيدة عائشة بأدلّة ملفقة ممسوخة، وما على البشري إلاّ أن يتقبلها في المراجعة التي تليها. وهنا نجد أنفسنا مضطرين إلى الرد على هذه الأدلة سائلين اللّه العون والتوفيق.
أولاً: لقد اتهم الموسوي أُم المؤمنين وأحب أزواج النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم عائشة رضي اللّه عنها، بأنها جحدت وصية النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم لعلي رضي اللّه عنه بالإمامة من بعده، انسياقاً وراء عواطفها وجرياً مع أهوائها.
ولكن ياترى، ما هي هذه العواطف المتوهمة، وما هي تلك الأهواء المزعومة. إن الموسوي عجز عن ذكر واحدة منها، فلسنا ندري الغاية التي تسعى إليها عائشة رضي اللّه عنها من وراء إنكار تلك الوصية لو وجدت.
ثم إن اتهام الموسوي للسيد عائشة رضي اللّه عنها بهذا، يتعارض مع ما قرّره ويعتقده من أن عائشة لا علم لها بوصية النبي صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم هذه، لأنها كانت عند وفاته في صدر أخيه ووليه علي بن أبي طالب، لا ما بين سحر عائشة ونحرها. ووجه ذلك أن الاتهام بالجحود والانكار إنما يصدق فيمن علم أمراً ثم أخفاه، بعكس من لا علم له بأمر فلا يصح أن يوصف بالجحود والانكار.
فإذا صح جدلاً وصفها بهذا، فيعني بطلان قولة الرافضة ـ والموسوي واحد منهم ـ أن النبي مات في صدر علي رضي اللّه عنه وقد أوصى له بالأمامة في حينها.
وإذا صح كلام الرافضة بأنه صلّى اللّه عليه [وآله] وسلّم مات في صدر علي رضي اللّه عنه، بطل اتهام الموسوي لعائشة بكتمان وجحود هذه الوصية المزعومة، لأنها لا علم لها بذلك، فتأمل هذا التناقض والتعارض أخي المسلم تجده واضحاً جلياً بإذن اللّه.
قاتل اللّه الهوى كيف يردي صاحبه في مهاوي الردى، ويوقعه في التعارض والتناقض الذي خجل منه العقلاء فضلاً عن العلماء.
وليس عجيباً أن يقع الموسوي في مثل هذا الأمر فهو شأن كل أصحاب العقائد والأُصول الهالكة وبعد هذا كله نرى الموسوي في أول المراجعة 76 يعتبر الشيخ البشري مقلداً ومستسلماً للعاطفة، إذ نفى عن السيدة عائشة أن تكون مستسلمة إلى العاطفة في موقفها من الوصية، ولذا فإنه يطالبه بالتحلل من قيود التقليد والعاطفة وأن يعيد النظر في موقفه هذا من السيدة عائشة رضي اللّه عنها، ويذكّره بمواقف لها لا أصل لها في كتاب معتبر عند أهل العلم، ويكفي دلالة على كذب هذه المواقف المرجع الذي عزاه إليها ألا وهو نهج البلاغة.

(1) المراجعات: 218 ـ 225.
(2) إشارة إلى قوله تعالى في سورة التحريم [66 : 4]: (إن تتوبا إلى اللّه فقد صغت قلوبكما).
(3) تظاهرها على الوصيّ كان بإنكارها الوصيّة إليه وبتحاملها عليه مدّة حياته بعد النبيّ، أمّا تظاهرها على النبيّ، وتأهّب اللّه لنصرة نبيّه عليها، فمدلول عليهما بقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه فإنّ اللّه هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير). [سورة التحريم 66 : 4].
(4) هذا والذي قبله إشارة إلى قوله تعالى: (عسى ربّه إن طلّقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكنّ مسلمات مؤمنات).. الآية. [سورة التحريم 66 : 5].
(5) إشارة إلى قوله تعالى: (ضرب اللّه مثلاً للّذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط…) إلى آخر السورة. [سورة التحريم 66 : 10[.
(6) إشارة إلى قوله تعالى: (يا أيّها النبيّ لمَ تحرّم ما أحلّ اللّه لك تبتغي مرضات أزواجك). [سورة التحريم 66 : 1].
(7) أخرجه البخاري في باب: ما جاء في بيوت أزواج النبيّ، من كتاب الجهاد والسير من صحيحه، وهو في ص 342 ج 2 بعد باب: فرض الخمس، وباب: أداء الخمس بيسير….
ولفظه في صحيح مسلم: خرج رسول اللّه من بيت عائشة فقال: رأس الكفر من ها هنا، حيث يطلع قرن الشيطان؛ فراجع ص 658 ج 4.
(8) راجع من صحيح البخاري باب: ما يجوز من العمل في الصلاة، وهو في ص 407 ج 1.
(9) إرجافها بعثمان، وإنكارها كثيراً من أفعاله، ونبزها إيّاه، وقولها: اقتلوا نعثلاً فقد كفر، ممّا لا يخلو منه كتاب يشتمل على تلك الحوادث والشؤون، وحسبك ما في تاريخ ابن جرير وابن الأثير وغيرهما، وقد أنّبها جماعة من معاصريها وشافهها بالتنديد بها إذ قال لها:
فمنكِ البداء ومنكِ الغير *** ومنكِ الرياح ومنكِ المطرْ
وأنتِ أمرتِ بقتل الإمام *** وقلتِ لنا إنّه قد كفرْ
إلى آخر الأبيات، وهي في ص 206 ج 3 من الكامل ـ لابن الأثير ـ حيث ذكر ابتداء أمر وقعة الجمل.
(10) حيث قال عزّ من قائل: (وقرن في بيوتكنّ ولا تبرجنّ تبرّج الجاهليّة الأُولى). [سورة الأحزاب 33 : 33].
(11) كان الجمل الذي ركبته عائشة يوم البصرة يُدعى: العسكر، جاءها به يعلى بن أُميّة، وكان عظيم الخلق شديداً، فلمّا رأته أعجبها، فلمّا عرفت أنّ اسمه: عسكر، استرجعت وقالت: ردّوه لا حاجة لي فيه، وذكرت أنّ رسول اللّه ذكر لها هذا الاسم ونهاها عن ركوبه، فغيّروه لها بجِلال غير جِلاله، وقالوا لها: أصبنا لكِ أعظم منه وأشدّ قوّة، فرضيت به.
وقد ذكر هذه القضيّة جماعة من أهل الأخبار والسير؛ فراجع ص 224 ج 6 من شرح نهج البلاغة لعلاّمة المعتزلة.
(12) والحديث في ذلك مشهور، وهو من أعلام النبوّة وآيات الإسلام، وقد اختصره الإمام أحمد بن حنبل؛ إذ أخرجه من حديث عائشة في مسنده ص 78 و ص 140 ج 7.
وكذلك فعل الحاكم إذ أخرجه في ص 120 ج 3 من صحيحه المستدرك، واعترف الذهبي بصحّته؛ إذ أورده في تلخيص المستدرك.
(13) هذا الحديث ثابت عنها، أخرجه الشيخان في صحيحهما؛ فراجع من صحيح البخاري: أوائل كتاب العيدين ص 327 ج 1..
وراجع من صحيح مسلم: باب الرخصة في اللعب الذي لا معصية فيه في أيّام العيد ص 45 ج 2.
(14) أخرجه البخاري ومسلم والإمام أحمد من حديث عائشة في المواضع التي أشرنا إليها من كتبهم في التعليقة السابقة.
(15) في ما أخرجه الإمام أحمد من حديث عائشة في ص 60 ج 7 من مسنده.
(16) في ما أخرجه أحمد عن عائشة ص 85 ج 7 من مسنده.
(17) أخرجه ابن أبي شيبة ج 12 : 129 / 12328، وهو الحديث 37779 من أحاديث الجزء 13 من كنز العمّال.
(18) وقع الاتّفاق على أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مات وعلي حاضر لموته، وهو الذي كان يقلّبه ويمرّضه، وكيف يصحّ أنّه قبض ولم يله أحد غيرها وغير الملك؟ فأين كان عليّ والعبّاس؟ وأين كانت فاطمة وصفيّة؟ وأين كان أزواج النبي وبنو هاشم كافّة؟ وكيف يتركونه كلّهم لعائشة وحدها؟!
ثمّ لا يخفى أنّ مريم عليها السلام لم يكن فيها شيء من الخِلال السبع التي ذكرتها أمّ المؤمنين؛ فما الوجه في استثنائها إيّاها؟!
(19) المراجعات: 225 ـ 228.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *