وقال ـ في ردّ دعوى المعارضة ـ

وقال ـ في ردّ دعوى المعارضة ـ:
«نحن نؤمن بفضائل أهل السوابق من المهاجرين والأنصار كافّة رضي اللّه عنهم ورضوا عنه، وفضائلهم لا تحصى ولا تستقصى، وحسبهم ما جاء في ذلك من آيات الكتاب وصحاح السُنّة، وقد تدبّرناه إذ تتبّعناه فما وجدناه ـ كما يعلم اللّه عزّوجلّ ـ معارضاً لنصوص عليّ، ولا صالحاً لمعارضة شيء من سائر خصائصه.
نعم، ينفرد خصومنا برواية أحاديث في الفضائل لم تثبت عندنا، فمعارضتهم إيّانا بها مصادرة لا تُنتظر من غير مكابر متحكّم، إذْ لا يسعنا اعتبارها بوجه من الوجوه، مهما كانت معتبرة عند الخصم.
ألاترى أنّا لا نعارض خصومنا بما انفردنا بروايته، ولا نحتجّ عليهم إلاّ بما جاء من طريقهم، كحديث الغدير ونحوه؟!
على أنّا تتبّعنا ما انفرد به القوم من أحاديث الفضائل، فما وجدنا فيه شيئاً من المعارضة، ولا فيه أي دلالة على الخلافة، ولذلك لم يستند إليه ـ في خلافة الخلفاء الثلاثة ـ أحد، والسلام».

أقول:
قد قرّرنا سابقاً أُموراً للبحث، نشير إليها تشييداً لكلام السيّد وتأييداً لِما تقدّم منّا وما سيأتي من البحوث:
1 ـ إنّه إذا كان الحديث متّفقاً عليه بين الفريقين، فإنّ الاعتماد عليه أحزم، والاستدلال به أتمّ، لا سيّما إذا كان معتبراً سنداً على أُصول الخصم باعتراف بعض علماء طائفته.
2 ـ إنّ الاعتبار السندي لأيّ حديث، ليس بمعنى أن يكون رواته موثّقين عند جميع أئمّة الجرح والتعديل، بحيث لو وقع في السند رجل مختلف فيه فلا يكون صحيحاً، وذلك لأنّ الرجال المتّفق على وثاقتهم عند القوم قليلون جدّاً، فإنّ فيهم من يقدح في البخاري وفي مسلم، والقدح في سائر أرباب الصحاح موجود في غير واحد من كتبهم.. بل يكفي للاحتجاج بالخبر عدم كون رواته مقدوحين عند الكلّ أو الأكثر.
3 ـ إنّ كلّ حديث ينفرد أحد الطرفين بروايته، فإنّه لا يكون حجّة على الطرف الآخر ولا يجوز الاحتجاج به عليه، وهذه قاعدة مقرّرة عند علماء الفريقين، وأصحابنا ملتزمون بها في بحوثهم، بخلاف الخصوم، فما أكثر استدلالهم بما ينفردون بروايته في فضل أئمّتهم، وهذا مخالف للقاعدة..
وممّن نصّ على هذه القاعدة الحافظ ابن حزم الأندلسي، فإنّه قال في كتابه الفصل في بداية مباحث الإمامة، في الاحتجاج على الإمامية:
«لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدّقونها، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به، سواء صدّقه المحتجّ أو لم يصدّقه؛ لأنّ من صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير حينئذ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه…»(1).
4 ـ إنّ استدلال أصحابنا بآيات الكتاب ـ مع النظر إلى شأن نزولها بحسب روايات أهل السُنّة ـ وبالأحاديث الواردة في كتب القوم على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام، إنّما هو لكون تلك الأدلّة نصوصاً ثابتة، إمّا على إمامته بعد رسول اللّه بلا فصل، وإمّا على أفضليّته من غيره بعد النبيّ..
فأمّا النصّ على الإمامة فلا يجوز ردّه؛ لأنّ ردّ النصّ الثابت عن رسول اللّه تكذيب له، وهو كفر بإجماع المسلمين.
وأمّا النصّ على الأفضلية فيدلّ على الإمامة؛ لحكم العقل بقبح تقدّم المفضول، والأحاديث الواردة في صفات عليّ عليه السلام وحالاته المستلزمة للأفضلية من غيره، وبالأسانيد المعتبرة، كثيرة جدّاً..
ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور ممّا يعترف به حتّى شيخ النواصب المكابرين ابن تيمية الحرّاني في منهاجه.
5 ـ وأصحابنا دائماً مستعدّون لاستماع أيّة مناقشة علمية مبنية على أُصول البحث وآداب المناظرة..
وكذلك كان أُسلوب السيّد مع الشيخ سليم البشري ـ شيخ الجامع الأزهر ـ.
وإذا كان أبو عبداللّه الحاكم النيسابوري من أئمّة الحديث عند القوم، وكان قد روى بسند صحيح في المستدرك عن أحمد بن حنبل قوله: «ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم من الفضائل ما جاء لعليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه»(2)..
وإذا كان الذهبي أيضاً من أئمّة الحديث ـ وقد تعقّب روايات الحاكم في تلخيص المستدرك ـ قد وافق الحاكم في نقل هذا الكلام عن أحمد..
فقد جاز لنا أنْ نحتجّ على كلّ من يحترم أحمد بن حنبل ويتّبعه بكلامه المروي عنه في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام.
فما ظنّك بابن تيمية المكذّب لهذا النقل بلا أي دليل؟!
بل المنقول عن أحمد بن حنبل فوق هذا النصّ الذي رواه الحاكم ووافقه الذهبي؛ فقد روى الحافظ ابن الجوزي ـ وهو ممّن يعتمد على كلماته وآرائه المكابرون ـ في كتابه في مناقب أحمد أنّه قال: «ما ورد لأحد من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح ما ورد لعليّ رضي اللّه عنه»(3).. فهنا جملة: «الفضائل بالأسانيد الصحاح»!
وروى الحافظ ابن عبدالبرّ عن أحمد والنسائي أنّهما قالا: «بالأسانيد الحِسان»(4).
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني بترجمة الإمام عليه السلام: «ومناقبه كثيرة، حتّى قال الإمام أحمد: لم ينقل لأحد من الصحابة ما نقل لعليّ، وكذا قال غيره..
وتتّبع النسائي ما خصّ به من دون الصحابة، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد»(5).
وقال في فتح الباري في شرح صحيح البخاري، بشرح عنوان: باب مناقب عليّ بن أبي طالب:
«قال أحمد وإسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حقّ أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر ممّا جاء في عليّ»(6).
وقال ابن حجر المكّي: «قال أحمد: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعليّ، وقال إسماعيل القاضي والنسائي وأبو علي النيسابوري: لم يرد في حقّ أحد من الصحابة بالأسانيد الصحاح الحسان أكثر ما ورد في حقّ عليّ»(7).

فليقرأ المنصف هذه الكلمات والاعترافات..
ولينظر كيف يحتجّ الإمامية بها على الخصم؟! وكيف تُقابَل احتجاجاتهم بأنواع الزور والبهتان والظلم؟!!

* * *

(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل 3 : 12.
(2) المستدرك على الصحيحين 3 : 107.
(3) مناقب أحمد بن حنبل: 163.
(4) الاستيعاب 3 : 1115.
(5) الإصابة في معرفة الصحابة 4 : 269.
(6) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 7 : 57.
(7) المنح المكّية في شرح القصيدة الهمزية: 301.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *