الجهة الرابعة: في محاولات أُخرى

* الجهة الرابعة: في محاولات أُخرى.
وإذْ لا سبيل للطعن في متن الحديث، ولا في سنده، ولا في مدلوله المصادم لرأيهم في الخلافة والهادم لأساس عقيدتهم، فلا بدّ من الكتمان والإخفاء بشتّى الأنحاء..
إمّا بعدم الذكر؛ وهذا ما سلكه الكثيرون منهم في الموارد المختلفة، ومشى عليه هنا غير واحد، كبعض المعاصرين، من أمثال محمّد سعيد رمضان البوطي، صاحب كتاب فقه السيرة النبوية، فإنّه كتب السيرة النبوية كما شاء له هواه، وقد سكت عن هذه القضية من الأساس.
وممّا يشهد بقول السيّد: «وإنّ كثيراً من شيوخ أهل السُنّة عفا اللّه عنهم كانوا على هذه الوتيرة، يكتمون كلّ ما كان من هذا القبيل، ولهم في كتمانه مذهب معروف» تصريحهم بالكتمان بلا أيّ خجل ووجل.. فمثلاً:
* يقول ابن هشام في مقدّمة السيرة: «وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب… وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعضٌ يسوء بعض الناس ذكره»..
ثمّ يقول ـ ضمن عنوان: «مباداة رسول اللّه قومه وما كان منهم» ـ: «ثمّ إنّ اللّه عزّوجلّ أمر رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أنْ يصدع بما جاءه منه، وأنْ يباديَ الناس بأمره وأنْ يدعو إليه..
وكان بين ما أخفى رسول اللّه أمره واستتر به إلى أنْ أمره اللّه تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين ـ في ما بلغني ـ من مبعثه، ثمّ قال اللّه تعالى له: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، وقال تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين)(1) (وقل إنّي أنا النذير المبين)(2)»(3).

قلت:
فقارن بين هذا وما رويناه عن المتّقي، عن ابن إسحاق، وما سننقله عن البيهقي راوياً عنه!! لترى أن ابن إسحاق يروي لكنّ ابن هشام يكتم روايته، والبيهقي يحرّفه!!
* ويقول الطبري: «وذكر هشام، عن أبي مخنف، قال: وحدّثني يزيد بن ظبيان الهمداني: إنّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لمّا ولي، فذكر مكاتبات جرت بينهما، كرهت ذكرها، لِما فيه ممّا لا يحتمل سماعها العامّة»(4)..
وسيأتي أنّ الطبري وضع في تفسيره كلمة: «كذا وكذا» بدل ألفاظ حديث الدار(5).
* ويقول ابن الأثير في حوادث سنة 30: «وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذرّ وإشخاص معاوية إيّاه من الشام إلى المدينة. وقد ذكر في سبب ذلك أُمور كثيرة… كرهت ذكرها»(6).
أو بالتحريف؛ ولهم فيه طرق:
منها: وضع كلمة: «كذا وكذا» بدل الكلام؛ كما صنع البخاري(7) في قضية مذكورة بتمامها في صحيح مسلم(8)، وكما صنع أبو عبيد بكلام أبي بكر في تمنّياته في آخر حياته(9)، وله نظائر كثيرة.
ومنها: وضع كلمة: «لأفعلنَّ ولأفعلنَّ» في موضع التهديد الصريح؛ كما فعله ابن عبدالبرّ وجماعة، في كلام عمر لمّا هجموا على بيت الزهراء الطاهرة(10).
ومنها: وضع كلمة: «رجل» أو: «فلان» في موضع الاسم الصريح؛ كما في نقل الهيثمي كلام أبي سفيان في النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وأُسرته(11)، وقد جاء اسمه صريحاً في رواية ابن عدي(12).
ومنها: بتر الخبر؛ كما في رواية البيهقي حديث الدار عن شيخه الحاكم النيسابوري، عن طريق ابن إسحاق، وهذا نصّه:
«أخبرنا محمّد بن عبداللّه الحافظ، قال: حدّثنا أبو العبّاس محمّد بن يعقوب، قال: حدّثنا أحمد بن عبدالجبّار، قال: حدّثنا يونس بن بكير، عن محمّد بن إسحاق، قال: فحدّثني من سمع عبداللّه بن الحارث بن نوفل واستكْتمني اسمه، عن ابن عبّاس، عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه، قال: «لمّا نزلت هذه الآية على رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: (وأنذر عشيرتك الأقربين * واخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين)، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: عرفت أنّي إن بادَأتُ بها قومي رأيت منهم ما أكره، فصمتُّ عليها فجاءني جبريل عليه السلام فقال لي: يا محمّد! إنّك إن لم تفعل ما أمركَ به رَبُّكَ عذَّبك ربّك.
قال عليُّ: فدعاني فقال: يا عليّ! إنّ اللّه قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فعرفت أنّي إن بادَأتُهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فصمتُّ عن ذلك، ثمّ جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمّد! إن لم تفعل ما أُمرتَ به عَذَّبَكَ رَبُّك. فاصنع لنا يا عليٌّ رِجْلَ شاة على صَاع من طعام، وأعدَّ لنا عُسَّ لبن ثمّ اجْمَعْ لي بني عبدالمطّلب، ففعلت.
فاجتمعوا له وهم يومئذ أربعون رجلاً، يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبولَهَب الكافِرُ الخبيث، فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَة، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم منها حُذْيَةً فشقَّها بأسنانه ثمّ رمى بها في نواحيها وقال: كلوا باسم اللّه، فأكل القوم حتّى نَهِلوا عنه ما يرى إلاّ آثار أصابعهم، واللّه إن كان الرجل منهم يأكُلُ ليشرب مثلها.
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: اسقِهِمْ يا عليّ! فجئت بذلك القَعْبِ فشربوا منه حتّى نَهلُوا جميعاً، وأيمُ اللّه إن كان الرجل منهم ليشرب مثله.
فلمّا أراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أن يكلّمَهُمْ بَدَرَهُ أبو لهَب إلى الكلام، فقال: لهدّما سَحركُم صاحبكم. فتفرّقوا ولم يكلّمهم رسول اللّه..
فلمَّا كان الغد، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: يا عليُّ! عُد لنا بمثل الذي كنت صنعت لنا بالأمس من الطعام والشراب، فإنّ هذا الرجل قد بدرني إلى ما قد سمعت قبل أن أكلّم القوم، ففعلت.
ثمّ جمعتهم له، فصنع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم كما صنع بالأمس، فأكلوا حتّى نَهِلُوا عنه، ثمّ سقيتُهُم فشربوا من ذلك القَعْبِ حتّى نَهِلوا عنه، وأيْمُ اللّه إن كان الرجل منهم ليأكل مِثْلَها ويشربُ مثلها.
ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: يا بني عبدالمطّلب! إنّي واللّه ما أعْلَمُ شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتُكُم به، إنّي قد جئتُكُم بأمر الدنيا والآخرة.
قال أبو عمر أحمد بن عبدالجبّار: بلغني أنّ ابن إسحاق إنّما سمِعَهُ من عبدالغفّار بن القاسم بن مَرْيم، عن المِنْهَالِ بن عَمرو، عن عبداللّه بن الحارث، قال ابن إسحاق: وكان ما أخفى النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أمرَهُ واسْتَسرَّ بهِ إلى أن أُمِرَ بإظهارِهِ ثَلاثَ سنين من مَبْعَثِهِ».
قلت: وقد روى شريك القاضي عن المنهال بن عمرو، عن عَبّادِ بن عبداللّه الأسدي عن عليٍّ في إطعامه ايّاهم بقَرِيب من هذا المعنى مُخْتصَراً»(13).
وكرواية ابن الجوزي، قال: «عن علي بن أبي طالب… ثمّ تكلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم فقال: يا بني عبدالمطّلب! إنّي ـ واللّه ـ ما أعلم شابّاً من العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني ربّي أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أنْ يكون أخي؟! فأحجم القوم.
فقلت ـ وأنا أحدثهم سنّاً ـ أنا يا نبيّ اللّه، فقام القوم يضحكون»(14).
هذا، ولهم كلمات جامعة في الأمر بالكتمان والإخفاء في كتب العقائد والكلام وسير الخلفاء، لا نطيل المقام بذكرها هنا، ونكتفي بكلام للذهبي في سير أعلام النبلاء عند الدفاع عن الشافعي، بمناسبة ما وقع بينه وبين المالكيّة، وتكلّم بعضهم في بعض:
«قلتُ: كلامُ الأقرانِ إذا تبرهنَ لنا أنّه بهوىً وعَصَبِيّة، لا يُلتَفتُ إليه، بل يُطوى ولا يُروى.
كما تقرّر من الكفِّ عن كثير ممّا شَجَرَ بين الصحابةِ وقتالِهم رضي اللّه عنهم أجمعين، وما زال يَمُرُّ بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطعٌ وضعيفٌ، وبعضُه كَذِبٌ، وهذا فيما بأيدينا وبينَ عُلمائِنا، فينبغي طَيُّه وإخفاؤه، بل إعدامُهُ لتَصفُوَ القلوبُ، وتتوفّرَ على حُبِّ الصحابة، والترضّي عنهم، وكِتمانُ ذلك مُتَعيِّنٌ عن العامّة وآحاد العُلماء..
وقد يرخّص في مطالعةِ ذلك خلوةً للعالم المُنصِفِ العَرِيِّ من الهوى، بشرطِ أن يستغفِرَ لهم، كما علّمنا اللّهُ تعالى حيثُ يقول: (والّذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربّنا اغفر لنا ولإخواننا الّذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاًّ للّذين آمنوا…)(15).
فالقوم لهم سوابق، وأعمال مُكفِّرةٌ لِما وقع منهم، وجهاد محاءٌ، وعبادةٌ مُمَحِّصةٌ، ولسنا ممّن يغلو في أحد منهم، ولا ندّعي فيهم العصمة، نقطع بأنّ بعضَهم أفضلُ من بعض، ونقطعُ بأنّ أبا بكر وعُمر أفضلُ الأُمّة، ثمّ تتمّة العشرة المشهود لهم بالجنّة، وحمزة وجعفر ومعاذ وزيد، وأُمّهات المؤمنين، وبنات نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وأهل بدر مع كونِهم على مراتب..
ثمّ الأفضلُ بعدهم، مثلُ: أبي الدرداء وسلمان الفارسي وابن عُمر، وسائر أهل بَيْعَةِ الرضوانِ الّذين رضي اللّه عنهم بنصّ آيةِ سورة الفتح، ثمّ عموم المهاجرين والأنصار، كخالد بن الوليد والعبّاس وعبداللّه بن عمرو، وهذه الحَلْبَة..
ثمّ سائر مَن صحبَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وجاهدَ معه، أو حجّ معه، أو سمعَ منه، رضي اللّه عنهم أجمعين وعن جميع صواحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم المهاجرات والمدنيّات، وأُمّ الفضل وأُمّ هانئ الهاشمية وسائر الصحابيات.
فأمّا ما تنقله الرافضة وأهل البِدَع في كُتُبهم من ذلك، فلا نُعرّج عليه، ولا كرامة، فأكثرهُ باطلٌ وكَذِبٌ وافتراءٌ، فدأبُ الروافضِ روايةُ الأباطيل، أو رَدُّ ما في الصحاح والمسانيد، ومتى إفاقَةُ مَن بِه سَكَران؟!
ثمّ قد تكلّم خلق من التابعين بعضُهم في بعض، وتحاربوا، وجرت أُمور لا يُمكنُ شرحُها، فلا فَائدة في بثّها، ووقع في كُتب التواريخ وكتب الجرح والتعديل أُمورٌ عجيبةٌ، والعاقِلُ خصمُ نفسه، ومن حُسنِ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه…»(16).

* * *

(1) سورة الشعراء 26 : 214 و215.
(2) سورة الحجر 15 : 89.
(3) السيرة النبوية ـ لابن هشام ـ 1 : 280.
(4) تاريخ الطبري 4 : 557.
(5) اللّهم إلاّ أنْ تكون هذه الخيانة من غيره.
(6) الكامل في التاريخ 3 : 113.
(7) صحيح البخاري 3 : 513 / 5358.
(8) صحيح مسلم 3 : 282 / 1757.
(9) كتاب الأموال: 144.
(10) الاستيعاب 3 : 975.
(11) مجمع الزوائد 8 : 215.
(12) الكامل ـ لابن عدي ـ 3 : 28.
(13) دلائل النبوة 2 : 179 ـ 180.
(14) الوفا بأحوال المصطفى 1 : 185.
(15) سورة الحشر 59 : 10.
(16) سير أعلام النبلاء 10 : 92 ـ 94 . وتفصيل الكلام عن هذا الموضوع في فصل خصّصناه له من كتابنا الانتقاء من سير أعلام النبلاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *