الرفض في اصطلاح القوم

* الرفض في اصطلاح القوم:
لقد تبيّن من خلال ما تقدّم: أنّ حقيقة التشيّع ليس مجرّد محبّة عليٍّ عليه السلام، أو مجرّد التكلّم في من حاربه كمعاوية وطلحة والزبير وغيرهم، أو مجرّد التكلّم في عثمان.. بل التشيّع تقديم عليّ عليه السلام على جميع الصحابة، والقول بإمامته بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مباشرةً، ورفض إمامة من تقدّم عليه، ولذا وصفوا مثل «أبي الطفيل» الصحابي الجليل بـ: «الرفض»، كما في كتاب المعارف(1).
لكن القوم اتّخذوا ـ في علم الرجال والحديث ـ مصطلح «الرفض» للدلالة على المعنى الأخير؛ محاولين التفريق بين المصطلحين من أجل التغطية على حال من اتّصف بحقيقة التشيّع ممّن ذكرناهم وغيرهم..
إنّه مصطلح حادث وضعوه للطعن في الرواة وردّ أحاديثهم، وقد نصّ على ذلك ابن تيميّة بعد أن حكى السبّ والشتم للشيعة عن الشعبي وغيره، فقال: «لكن لفظ (الرافضة) إنّما ظهر لمّا رفضوا زيد بن علي بن الحسين، في خلافة هشام، وقصّة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة… والشعبي توفّي سنة خمس ومائة أو قريباً من ذلك، فلم يكن لفظ الرافضة معروفاً آنذاك، وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة، ولكنْ كانوا يسمّون بغير ذلك الاسم…»(2).
ولكنّهم اختلفوا في هذا اللفظ أيضاً، مفهوماً ومصداقاً، فعن عبدالعزيز بن أبي روّاد ـ وهو من رجال البخاري في التعاليق والأربعة ـ وقد سُئل مَنْ الرافضي؟! قال: «مَن كره أحداً من أصحاب محمّد»، ووافقه على ذلك مَن حضر من العلماء(3).
وعن الدارقطني: أنّ أوّل عقد يحلُّ في الرفض تفضيل عثمان على عليّ(4).
واعترضه الذهبي قائلاً: «ليس تفضيل عليٍّ برفض ولا هو ببدعة، بل ذهب إليه خلقٌ من الصحابة والتابعين… ومن أبغض الشيخين واعتقد صحّة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبّهما واعتقد أنّهما ليسا بإمامَي هدىً فهو من غلاة الرافضة»(5).

أقول:
بل الحقّ مع الدارقطني، فإنّ أوّل عقد من عقود رفض خلافة المشايخ هو القول بتفضيل عليٍّ عليه السلام على عثمان، وهذا ما سنؤكّد عليه في ما بعد، ولكنّ الذهبي يعترف بذهاب خلق من الصحابة والتابعين إلى تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام..
ثمّ كيف يجتمع بغض الشيخين مع الاعتقاد بصحّة إمامتهما، ليسمّى صاحبه بالرافضي المقيت؟! وإذا لم يكن تفضيله عليه السلام برفض ولا بدعة، فلماذا قال بعض أئمّتهم في عبدالرزّاق بن همّام الصنعاني ـ لمّا سئل عن رأيه في التفضيل فأبى أن يجيب ـ: «أخاف أنْ يكون من الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا»؟!(6).
ثمّ إنّ الذهبي عنون في ميزانه ابن عقدة فقال: «أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة، الحافظ أبو العبّاس، محدّث الكوفة، شيعي متوسّط»(7)، مع أنّه بترجمة «أحمد بن الفرات» ذكر ابن عقدة ووصفه بـ: «الرفض والبدعة»(8).
وهذا من تناقضاته بناءً على هذا المصطلح الجديد، وهو ممّا يؤيّد ما نذهب إليه في معنى التشيّع كما تقدّم وسيأتي تفصيله.
وأمّا ابن حجر، فهو يقول بالترادف بين «الرافضي» وبين «الشيعي الغالي»، والمقصود منهما من قدّم عليّاً على أبي بكر وعمر، قال: «فإنْ انضاف إلى ذلك السبّ أو التصريح بالبغض فغال في الرفض»(9).
هذا ما أردنا ذكره في هذا الفصل باختصار، ويتلخّص في أُمور:
الأوّل: إنّ القوم ليس عندهم علماء يقفون عند آرائهم في الجرح والتعديل، بحيث يكون القول الفصل والميزان العدل في هذا الباب.
والثاني: إنّ القوم ليس عندهم قواعد متقنة يرجعون إليها، وضوابط محكمة يعتمدون عليها في هذا الباب.
والثالث: إنّ القوم ليس عندهم مصطلحات محدّدة ثابتة متفّق عليها بينهم، مفهوماً ومصداقاً.
والرابع: إنّ القوم في أكثر أقوالهم في الجرح والتعديل يتّبعون الهوى والعصبية، وكيف يجوز الأخذ بآراء مَن هذا حاله؟!
والخامس: إنّ «التشيّع» بالمعنى الصحيح هو «الرفض» لخلافة من تقدّم على عليٍّ عليه السلام، ولذا وصف مثل أبي الطفيل الصحابي بكلا الوصفين، وكذا كثيرٌ من التابعين والأئمّة الأعلام في مختلف القرون.

(1) المعارف: 624، «أسماء الغالية من الرافضة».
(2) منهاج السُنّة 1 : 35 ـ 36، وقد عرفت أنّ واقع الرفض قديم، وأنّهم يصفون بعض الصحابة بالتشيّع وبالرفض، فكان معناهما في الحقيقة واحداً، وهو القول بإمامة عليٍّ عليه السلام بلا فصل.
(3) تهذيب التهذيب 6 : 302.
(4) سير أعلام النبلاء 16 : 457.
(5) سير أعلام النبلاء 16 : 458.
(6) سير أعلام النبلاء 9 : 571.
(7) ميزان الاعتدال 1 : 136.
(8) ميزان الاعتدال 1 : 128.
(9) مقدّمة فتح الباري: 460.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *