قوله تعالى: (ومن يطع اللّه والرسول فأُولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم…)

قوله تعالى: (ومن يطع اللّه والرسول فأُولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم…)(1).

قال السيّد رحمه اللّه:
«وقال (ومن يطع اللّه والرسول فأُولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين)».

فقال في الهامش:
«أئمّة أهل البيت من سادات الصدّيقين والشهداء والصالحين بلا كلام»(2).

فقيل:
«لا نزاع في أنّ أئمّة أهل البيت من الّذين أنعم اللّه عليهم، ولا في أنّهم من سادات الصدّيقين والشهداء والصالحين، فقد يكون الإنسان متّصفاً بكلّ هذه الصفات وليس من أهل الولاية العامّة.
والّذين أنعم اللّه عليهم ليسوا أهل البيت فقط، بل كلّ من أطاع اللّه ورسوله، واللّه تعالى يقول: (ومن يطع اللّه والرسول فأُولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً).
أمّا قول المؤلّف: أئمّة أهل البيت من سادات الصدّيقين والشهداء والصالحين بلا كلام، فنحن ـ أعني أهل السُنّة ـ مع احترامنا وحبّنا لآل البيت وتنزيلنا لهم منزلتهم، نعتبر الكلام العاري عن الدليل دعوىً تحتاج إلى إثبات.
ولعلّه يريد أن يقابل ما استقرّ في عقول وقلوب الكافّة من كون الصدّيق هو أبو بكر ـ رضي اللّه عنه ـ فأردف هذه الجملة بالعبارة السوقية (بلا كلام)، فهل هذا منطق علماء أو منطق أدعياء؟!».

أقول:
هنا نقاط:
1 ـ إنّه لم يدّع السيّد رحمه اللّه لأهل البيت عليهم السلام منزلةً هي فوق ما هم عليه، وإنّما قال: «أئمّة أهل البيت من سادات الصدّيقين…» مع أنّ اعتقادنا هو أنّهم هم «سادات الصدّيقين…» وليس غيرهم على الإطلاق، وقد جاء كلامه مسايرةً ومجاراةً للقوم، ولكنّ النواصب لا يعترفون لهم عليهم السلام حتّى بهذا القدر…!!
2 ـ ولعلّ مسايرة السيّد رحمه اللّه كانت بالنظر إلى ما جاء في روايات القوم بتفسير الآية المباركة؛ كالخبر الذي رواه الحافظ الحاكم الحسكاني بإسناده عن أبي مسلم الكجّي(3)، عن القعنبي(4)، عن مالك(5)، عن سمي(6)، عن أبي صالح(7)، عن عبداللّه بن عبّاس:
«في قوله تعالى: (ومن يطع اللّه) يعنى في فرائضه (والرسول) في سننه، (فأُولئك مع الّذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين) يعني محمّداً (والصدّيقين) يعني عليَّ بن أبي طالب ـ وكان أوّل من صدّق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم ـ (والشهداء) يعنى عليَّ بن أبي طالب وجعفراً الطيّار وحمزة بن عبدالمطّلب والحسن والحسين، هؤلاء سادات الشهداء (والصالحين) يعنى سلمان وأبا ذرّ وصهيباً وبلالاً وخبّاباً وعمّاراً…»(8).
إلاّ أنّ من الواضح عدم منافاة هذا الخبر وأمثاله لكون «أئمّة أهل البيت» هم «سادات الصدّيقين…»، لأنّ الجماعة المذكورين فيه هم من شيعة أئمّة أهل البيت عليهم السلام، كما هو معلوم ومعروف.
3 ـ قد ذكر المفسّرون أنّ (الّذين أنعم اللّه) هم الأقسام الأربعة أنفسهم، فتكون (من) بيانيّة(9)، فالّذين أنعم اللّه ـ كما في الروايات المفسّرة للآية ـ هم: رسول اللّه، وعليّ، والحسنان عليهم الصلاة والسلام، ومن ذكر فيها من شيعتهم الأبرار… وكلّ (من يطع اللّه ورسوله) في الفرائض والسنن فيكون من شيعتهم وفي رفقتهم (وحسن أُولئك رفيقاً * ذلك الفضل من اللّه وكفى باللّه عليماً)(10).
4 ـ وعليّ وسائر أئمّة أهل البيت عليهم السلام أصحاب الولاية العامّة، لأنّ اللّه جعل عاقبة (من يطع اللّه ورسوله) أن يكون معهم، فالكون معهم هو رمز الهداية والفلاح، والفوز والنجاح. فهذا وجهٌ لدلالة الآية على الولاية العامّة لأئمّة أهل البيت.
ووجه آخر، هو: أنّ هذه الآية تفسير لقوله تعالى: (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الّذين أنعمت عليهم) كما نصّ عليه القرطبي(11)، وقد تقدّم دلالة تلك الآية على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام.
ووجه ثالث، هو: إنّ اللّه تعالى لمّا ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيّون، ثمّ ثنّى بالصدّيقين، ثمّ ذكر الشهداء، فالصالحين، وهذه الصفات الثلاثة مجتمعة في أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام، ولا ريب في أنّ من اجتمعت فيه تلك الصفات مقدّم على الّذين وجدت فيهم وتفرّقت بينهم.
بل قال بعضهم: إنّ المراد في هذه الآية هو الشخص الواحد الموصوف بها(12)، وليس إلاّ أمير المؤمنين، فهو المتعيّن للخلافة عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله وسلّم.
5 ـ ولعلّ ما تقدّم هو المقصود من قول أمير المؤمنين عليه السلام: «أنا عبداللّه وأخو رسوله، وأنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلاّ كذّاب مفتري»(13).
وقال ابن تيميّة في معنى «الصدّيق»: «قد يراد به الكامل في الصدق، وقد يراد به الكامل في التصديق»(14).

قلت:
وسواء كان المراد هذا أو ذاك فليس ألاّ أمير المؤمنين عليه السلام.
ولولا أنّ أبا ذرّ الغفّاري ـ رضي اللّه عنه ـ من شيعته لَما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم في حقّه: «ما أقلّت الغبراء ولا أظلّت الخضراء من رجل أصدق لهجة من أبي ذرّ»(15)، ولَما حسده عمر بن الخطّاب على ذلك(16).
6 ـ ومع ذلك كلّه، فلم يسمّ الجمهور بـ«الصدّيق» عليّاً ولا أبا ذرّ!! وجعلوه لقباً لأبي بكر، مع اعترافهم بعدم ورود ذلك عن رسول اللّه فيه بسند معتبر، فخالفوه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم مرّتين!!
ثمّ حاول بعضهم توجيه ذلك بأنّه لكون أبي بكر أوّل من آمن وصدّق برسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم، وهذا أوّل الكلام؛ فقد ثبت وتحقّق في محلّه أنّ أوّل من أسلم وصدّق هو: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وأمّا أبو بكر فقد جاء في الرواية الصحيحة عن محمّد بن سعد بن أبي وقّاص: «قال: قلت لأبي: أكان أبو بكر أوّلكم إسلاماً؟ فقال: لا، ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين»(17).
7 ـ والكلام في أنّ الّذين يسمّون أنفسهم «أهل السُنّة» يحبّون ويحترمون آل البيت عليهم السلام طويل، وليس هذا موضعه، غير أنّا نقول لصاحب هذا الكلام:
أوّلاً: إنّ حبّ النبيّ والآل يقتضي الإطاعة والاتّباع، قال اللّه تعالى: (قل إن كنتم تحبّون اللّه فاتّبعوني يحببكم اللّه)(18).
وثانياً: كيف يمكن الجمع بين حبّ أهل البيت واحترامهم، وبين حبّ واحترام من ظلمهم بشتّى أنواع الظلم؟!
وثالثاً: هل من الحبّ والاحترام قول بعضهم في استشهاد الإمام السبط عليه السلام: «إنّ الحسين قتل بسيف جدّه»(19)؟!
وهل من الحبّ والاحترام قول بعضهم في الإمام الصادق عليه السلام: «في نفسي منه شيء»(20)؟!
وكذا قول بعضهم نحو ذلك في غيره من أئمّة أهل البيت!!
وهل من الحبّ والاحترام ما تفوّه به ابن تيميّة في أمير المؤمنين وأهل البيت أجمعين، ممّا لا يطاق نقله؟!
أترى أنّ كتابه هو منهاج السُنّة كما سمّي به أو لا؟!!
الحقيقة: إنّ «السُنّة» التي عليها هؤلاء القوم هي السُنّة الأُمويّة لا السُنّة المحمّديّة!
وهذا حال كلّ من ينكر مناقب أهل البيت ومقاماتهم، ومنهم هذا المتقوّل على السيّد، والذي قال في بعض البحوث المتقدّمة: «من أين الدليل على أنّ قول الباقر والصادق هنا صحيح»!!
8 ـ وأمّا ما في كلامه من سوء الأدب مع السيّد، فلا نقابله بالمثل، ونوكل أمره إلى اللّه، وهو الحكم العدل.

* * *

(1) سورة النساء 4 : 69.
(2) المراجعات: 28.
(3) إبراهيم بن عبداللّه، الشيخ الإمام الحافظ المعمّر، شيخ العصر، المتوفّى سنة 292.
(4) عبداللّه بن مسلمة، الإمام الثبت القدوة، شيخ الإسلام، المتوفّى سنة 221.
(5) مالك بن أنس، صاحب المذهب، المتوفّى سنة 179.
(6) مولى أبي بكر بن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام، من رجال الستّة. تقريب التهذيب 1 : 333.
(7) ميزان البصري، مقبول. تقريب التهذيب 2 : 291.
(8) شواهد التنزيل 1 : 153 / 206.
(9) لاحظ منها: أنوار التنزيل وأسرار التأويل: 117، وروح المعاني 5 : 75.
(10) سورة النساء 4 : 69 ـ 70.
(11) الجامع لأحكام القرآن 5 : 271.
(12) التفسير الكبير 10 : 171.
(13) أخرجه الحاكم وصحّحه على شرطهما في المستدرك على الصحيحين 3 : 112، وهو بسند صحيح عند ابن ماجة في سننه 1 : 89 / 120، وفي الخصائص ـ للنسائي ـ: 101 / 67، وله مصادر كثيرة.
(14) منهاج السُنّة 4 : 266.
(15) الجامع الكبير 6 : 134 / 3801، مسند أحمد 2 : 347 / 6483، المستدرك على الصحيحين 3 : 342 وصحّحه على شرط مسلم وأقرّه الذهبي، سنن ابن ماجة 1 : 103 / 156.
(16) الجامع الكبير 6 : 135 / 3802.
(17) تاريخ الطبري 2 : 316.
(18) سورة آل عمران 3 : 31.
(19) انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير 1 : 205 حيث أورد هذا الكلام عن ابن العربي المالكي، والضوء اللامع 4 : 147 بترجمة ابن خلدون، حيث أورد هذا الكلام عنه بترجمته.
(20) الكاشف ـ للذهبي ـ 1 : 130 عن القطّان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *