سقوط كلمات ابن تيميّة

سقوط كلمات ابن تيميّة :
وتبقى كلمات ابن تيميّة ، فإنّه بعد أعرض عن قول عكرمة ، وعن قول من قال بالجمع ،واعترف بالاختصاص بالعترة ، أجاب عن الاستدلال بالآية المباركة بوجوه واضحة البطلان :
* فأوّل شيء قاله هو : « هذا الحديث قد شركه فيه فاطمة… » .
وفيه : إنّ العلاّمة الحلّي لم يدّع كون الحديث من خصائص عليّ عليه السلام ، بل الآية المباركة والحديث يدلاّن على عصمة « أهل البيت » وهم : النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعليّ وفاطمة والحسن والحسين.. والمعصوم هو المتعيّن للإمامة بعد رسول الله ، غير أنّ المرأة لا تصلح للإمامة. نعم ، هو من خصائصه في مقابل أبي بكر وغيره ، وهذا هو المهم .
* ثمّ قال : « ثمّ إنّ مضمون هذا الحديث أنّ النبيّ دعا لهم… بأن يكونوا من المتّقين الّذين أذهب الله عنهم الرجس… فغاية هذا أن يكون هذا دعاء لهم بفعل المأمور وترك المحظور ».
وهذا من قلّة فهمه أو شدّة تعصّبه :
أمّا أوّلا : فلأنّه ينافي صريح الآية المباركة ، لأنّ « إنّما » دالّة على الحصر ، وكلامه دالّ على عدم الحصر ، فما ذكره ردّ على الله والرسول.
أمّا ثانياً : فلأنّ في كثير من « الصحاح » أنّ الآية نزلت ، فدعا رسول الله عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً فجلّلهم بكساء وقال : اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي… فالله عزّ وجلّ يقول : ( إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت… ) والنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يعيّن « أهل البيت » وأنّهم هؤلاء دون غيرهم.
وأمّا ثالثاً : فلأنّه لو كان المراد هو مجرّد الدعاء لهم بأن يكونوا « من المتيقن » و« الطهارة مأمور بها كلّ مؤمن » « فغاية هذا أن يكون دعاءً لهم بفعل المأمور وترك المحظور » فلا فضيلة في الحديث ، وهذا يناقض قوله من قبل : « فعلم أنّ هذه الفضيلة… » !!
وأمّا رابعاً : فلأنّه لو كان « غاية ذلك أن يكون دعاءً لهم بفعل المأمور وترك المحظور » فلماذا لم يأذن لأمّ سلمة بالدخول معهم ؟!
أكانت « من المتّقين الّذين أذهب الله عنهم الرجس… » فلا حاجة لها إلى الدعاء ؟! أو لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يريد منها أن تكون « من المتّقين… » ؟!
وأمّا خامساً : فلو سلّمنا أنّ « غاية هذا أن يكون دعاء لهم… » لكن إذا كان الله سبحانه « يريد » والرسول « يدعو » ـ ودعاؤه مستجاب قطعاً ـ كان « أهل البيت» متّصفين بالفعل بما دلّت عليه الآية والحديث.
* فقال : « والصدّيق قد أخبر الله عنه… ».
وحاصله : إنّ غاية ما كان في حقّ « أهل البيت » هو « الدعاء » وليس في الآية ولا الحديث إشارة إلى « استجابة » هذا الدعاء ، فقد يكون وقد لا يكون ، وأمّا ما كان في حقّ « أبي بكر » فهو « الأخبار » فهو كائن ، فهو أفضل من « أهل البيت » !!
وفيه :
أوّلا : في « أهل البيت » في الآية شخص النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولا ريب في أفضليّته المطلقة.
وثانياً : في « أهل البيت » في الآية فاطمة الزهراء ، وقد اعترف غير واحد من أعلام القوم بأفضليّتها من أبي بكر :
فقد ذكر العلاّمة المنّاوي بشرح الحديث المتّفق عليه بين المسلمين : « فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني » : « استدلّ به السهيلي(1) على أنّ من سبّها كفر ، لأنّه يغضبه ، وأنّها أفضل من الشيخين ».
وقال : « قال الشريف السمهودي : ومعلوم أنّ أولادها بضعة منها ، فيكونون بواسطتها بضعة منه ، ومن ثمّ لما رأت اُمّ الفضل في النوم أنّ بضعةً منه وضعت في حجرها أوّلها رسول الله صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم بأن تلد فاطمة غلاماً فيوضع في حجرها ، فولدت الحسن فوضع في حجرها. فكلّ من يشاهد الآن من ذرّيّتها بضعة من تلك البضعة وإن تعدّدت الوسائط ، ومن تأمّل ذلك انبعث من قلبه داعي الإجلال لهم وتجنّب بغضهم على أيّ حال كانوا عليه.
قال ابن حجر : وفيه تحريم أذى من يتأذّى المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم بتأذّيه ، فكل من وقع منه في حقّ فاطمة شيء فتأذّت به فالنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم يتأذّى به بشهادة هذا الخبر ، ولا شيء أعظم من إدخال الأذى عليها من قبل ولدها ، ولهذا عرف بالإستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا (ولعذاب الآخرة أشدّ)(2) »(3).
وثالثاً : في « أهل البيت » في الآية : الحسن والحسين ، وإنّ نفس الدليل الذي أقامه الحافظ السهيلي وغيره على تفضيل الزهراء دليل على أفضليّة الحسنين ، بالإضافة إلى الأدلّة الأخرى ، ومنها « آية التطهير » و« حديث الثقلين » الدالّين على « العصمة » ، ولا ريب في أفضليّة المعصوم من غيره.
ورابعاً : في « أهل البيت » في الآية : أمير المؤمنين عليه السلام ، وهي ـ مع أدلّة غيرها لا تحصى ـ تدلّ على أفضليّته على جميع الخلائق بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وخامساً : كون المراد من الآية ( الأتقى… ) « أبو بكر » هو قول انفرد القوم به ،فلا يجوز أن يعارض به القول المتّفق عليه.
وسادساً : كون المراد بها « أبو بكر » أوّل الكلام ، وقد تقدّم الكلام على ذلك.
* قال : « وأيضاً : فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار… فما دعا به النبيّ… ».
وحاصله : أفضلية « السابقين الأولين… » من « أهل البيت » المذكورين.
ويرد عليه : ما ورد على كلامه السابق ، فإن هذا فرع أن يكون الواقع من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو صرف « الدعاء ».. وقد عرفت أن الآية تدلّ على أن الإرادة الإلهية تعلقت بإذهاب الرجس عن أهل البيت وتطهيرهم تطهيراً ، فهي دالة على عصمة « أهل البيت » وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأعلن للأمّة الإسلامية أنّهم : هو وعليّ وفاطمة والحسن والحسين.
ثمّ إن الآية : ( والسابقون الاولون… )(4) المراد فيها أمير المؤمنين عليه السلام، ويشهد بذلك تفسير قوله تعالى : ( والسابقون السابقون * أولئكالمقربون)(5) بعلي عليه السلام.
فعن ابن عبّاس عن النبىّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال : « السّبّق ثلاثة ، السابق إلى موسى : يوشع بن نون ، والسابق إلى عيسى : صاحب ياسين ، والسابق إلى محمّد صلّى الله عليه ]وآله[ وسلّم عليّ بن أبي طالب ».
قال الهيثمي : « رواه الطبراني ، وفيه : حسين بن حسن الأشقر ، وثّقه ابن حبّان ،وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله حديثهم حسن أو صحيح »(6) .

قلت :
« الحسين بن حسن الأشقر » من رجال النسائي في ( صحيحه ) وقد ذكروا أن للنسائي شرطاً في صحيحه أشدّ من شرط الشيخين(7) .. وقد روى عنه كبار الأئمّة الأعلام : كأحمد بن حنبل ، وابن معين ، والفلاّس ، وابن سعد ، وأمثالهم(8) .
وقد حكى الحافظ بترجمته ، عن العقيلي ، عن أحمد بن محمّد بن هانئ ، قال : قلت لأبي عبد الله ـ يعني ابن حنبل ـ تحدث عن حسين الأشقر ؟! قال : لم يكن عندي ممّن يكذب.
وذكر عنه التشيّع فقال له العبّاس بن عبد العظيم : إنه يحدّث في أبي بكر وعمر. وقلت أنا : يا أبا عبد الله ! إنّه صنف باباً في معايبهما. فقال : ليس هذا بأهل أن يحدّث عنه »(9) .
وكأنّ هذا هو السبب في تضعيف غير أحمد ، وعن الجوزجاني : غال ، من الشتامين للخِيَرة(10) . ولذا يقولون : له مناكير ، وأمثال هذه الكلمة ممّا يدلّ على طعنهم في أحاديث الرجل في فضل عليّ أو الحط من مناوئيه ، وليس لهم طعن في الرجل نفسه ، ولذاقال ابن معين : كان من الشيعة الغالية. فقيل له : فكيف حديثه ؟! قال لا بأس به. قيل: صدوق ؟ قال : نعم ، كتبت عنه(11) .
ومن هنا قال الحافظ : « الحسين بن حسن الأشقر ، الفزاري ، الكوفي صدوق ، يهم ويغلو في التشيّع ، من العاشرة ، مات سنة 208 ، س »(12) .
وأمّا أبو بكر .. فلم يكن من السابقين الأولين :
قال أبو جعفر الطبري : « وقال آخرون : أسلم قبل أبي بكر جماعة. ذكر من قال ذلك :
حدّثنا ابن حميد ، قال : حدّثنا كنانة بن جبلة ، عن إبراهيم بن طهمان ، عن الحجّاج بن الحجّاج ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن محمّد بن سعد ، قال : قلت لأبي :
أكان أبوبكر أولكم إسلاماً ؟
فقال : لا ; ولقد أسلم قبله أكثر من خمسين ; ولكن كان أفضلنا إسلاماً »(13) .

(1) عبد الرحمن بن عبد الله ، العلاّمة الأندلسي ، الحافظ العلم ، صاحب التصانيف ،برع في العربيّة واللغات والأخبار والأثر ، وتصدّر للإفادة ، من أشهر مؤلّفاته : الروض الأنف ـ شرح « السيرة النبويّة » لابن هشام ـ توفّي سنة 581 ، له ترجمة في : مرآة الجنان 3 : 320 ، النجوم الزاهرة 6 : 100 ـ 101 ، العبر 3 : 82 .
(2) سورة طه 20 : 127 .
(3) فيض القدير شرح الجامع الصغير 4 : 421 .
(4) سورة التوبة 9 : 100 .
(5) سورة الواقعة 56 : 10 و11 .
(6) مجمع الزوائد 9 : 102 .
(7) تذكرة الحفّاظ 2 : 700 .
(8) تهذيب التهذيب 2 : 291 .
(9 و10) تهذيب التهذيب 2 : 291 .
(11) تهذيب التهذيب 2 : 292 .
(12) تهذيب التهذيب 1 : 175 .
(13) تاريخ الطبري 2 : 316 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *